الأربعاء، 3 ديسمبر 2025

فقهاء كبار... وترزية

آخر كلام       

فقهاء كبار... وترزية 


حسن العيسى

من رحم الكلمة الألمانية «رايخستات» (Rechtsstaat) وُلد مفهوم دولة حكم القانون، ذلك الركن الأعلى في البناء الدستوري الحديث. 

كانت جمهورية فايمار المعمل الأول الذي تبلورت فيه الفكرة: الدولة لا تتقدم إلا إذا خضعت للقانون، والقانون بدوره لا يكون قانوناً إلا إذا كان معيارياً، يقف على قمة الهرم الدستوري، كما صوّره الفقيه النمساوي هانس كيلسن في نظريته الخالدة. 

لكن ما إن ننتقل إلى خصمه الشهير كارل شميت حتى نجد النقيض: تأسيس فكرة الاستثناء وأولوية القرار السيادي على القاعدة القانونية. هذه النظرية، التي بدت حينها جدلاً فلسفياً، ستتحوّل لاحقاً إلى أحد الأعمدة التي بنى عليها النظام النازي شرعية «الجماهير» فوق القانون. 

أما في مصر، قبل ثورة يوليو 1952، فقد كان المشهد مختلفاً. تسرّبت أفكار الدولة القانونية عبر فقهاء درسوا في ألمانيا وفرنسا، وفي مقدمتهم عبدالرزاق السنهوري، أحد أعمدة التشريع العربي في القرن العشرين.

 لم يستخدم السنهوري عبارة «دولة حكم القانون» نصاً، لكنه صاغ مفاهيمها بدقّة: مبدأ الشرعية، خضوع الدولة للقانون، الدولة القانونية. جوهر المعنى واحد، حتى وإن اختلف اللفظ. فالفكرة الألمانية ذاتها تشدّ جذورها إلى الثورة الإنكليزية المجيدة، حين نطق إدوارد كوك عبارته التي لا تُمحى من ذاكرة التاريخ: «القانون فوق الجميع». 

بهذه الكلمات وُلدت الحضارة الدستورية الغربية.

 وبهذه الكلمات نكتشف - مراراً - كم نحن بعيدون عنها في تقاليدنا وثقافتنا السياسية العربية. 

تأملوا المفارقة 

فقهاء كبار، مثل السنهوري، يبدعون ويضحون. الرجل ضُرب أمام مجلس الدولة بتحريض سياسي مباشر، لأنه دافع عن استقلال القضاء. 

وعلى الضفة الأخرى من عالمنا العربي، يظهر من يقدّم نفسه فقيهاً وهو لا يفعل أكثر من تفصيل مقاسات السلطة، تماماً كما يفعل «الترزية»، لكن بعمامة أكاديمية وشهادة عليا. 

مثلاً، كيف يمكن لمن يزعم الفقه القانوني أن يدعو لنسف مبدأ المساواة بين المواطنين؟ كيف يجرؤ أحدهم على إطلاق أحكام كارثية مثل الادعاء بأن «8

0 ألف مواطن حصلوا على الجنسية دون وجه حق»؟ أي فقه هذا؟ وأي دولة تتحمل هذا القدر من الشوفينية المدمّرة؟ 

ثم ماذا يبقى من أهل الكويت إذا صار المجتمع نفسه مشكوكاً في أصله وهويته؟ 

الدول لا تستقيم بالثروة ولا بالقوة المجردة، تستقيم بالأمان القانوني، ذاك الشعور العميق بأن العدالة مظلة الجميع. قد تمر الدولة بأزمات اقتصادية قاسية، وقد يتراجع النمو، لكن طالما بقيت قاعدة المساواة صلبة، وطالما علمت الأغلبية أن القانون - وليس الأهواء المريضة - هو الضمان، فإن الغد لا يخيف.

 أما حين يتحوّل «الفقهاء» إلى ترزية سلطة فحينها لا يتهدد القانون وحده، بل تهتز روح الدولة ذاتها.


المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق