الأربعاء، 3 ديسمبر 2025

التنفس تحت الماء

 آخر كلام       

التنفس تحت الماء


حسن العيسى 

 

لا تعرف المنطقة العربية، ولا الدول التي تشبهها في معايير القمع وتكلّس مؤسسات الحكم، شيئاً اسمه دولة حكم القانون. فالتعبير في أصله يصف منظومة قانونية فعّالة تستند إلى أسس أخلاقية، ويهدف إلى تقييد السلطة وحماية الفرد من تغوّل الدولة. هذا جوهر فكرة Rule of Law، كما يوضح عزيز حق في كتابه حكم القانون: مقدمة صغيرة. غير أن السؤال يظل معلّقاً: كيف يمكن أن يتحقق ذلك في بيئات تفتقر إلى الحدّ الأدنى من استقلال القضاء وفصل السلطات؟ 

ولعلّ المقارنة بالمكارثية في الولايات المتحدة خلال الخمسينيات تكشف شيئاً من طبيعة الانهيار حين يتحوّل القانون إلى أداة رعب. فالسيناتور جوزيف مكارثي لم يبتدع نصوصاً استثنائية، ما فعله ببساطة أنه استغل القوانين القائمة في ذروة «الرُّهاب الأحمر» ليشنّ حملة مطاردة ضد كل مشتبه في ميله لليسار. جلسات استجواب، قوائم سوداء، اتهامات تشمل الفنانين والمثقفين في هوليوود - حتى شابلن وأرثر ميلر لم يسلما. صار المواطن مُداناً إلى أن يثبت العكس، وصار «العدو من الداخل» ذريعة تُعطّل الحرية العامة. 

لكن المكارثية - رغم قسوتها - لم تدم طويلاً، فقد انهارت حين وقف رجال شجعان في وجه ماكينة التخويف، أبرزهم المدعي العسكري جوزيف ويلش، الذي خاطب مكارثي بجملته الشهيرة: 

«ألا يوجد لديك أي قدر من الكرامة؟». 

عند تلك اللحظة، استعاد المجتمع الأميركي وعيه، وبدأت الحقوق المدنية تعود إلى مسارها الطبيعي.

 غير أنّ المكارثية لم تكن التجربة الوحيدة التي كشفت كيف يمكن للقانون أن يتحوّل إلى سلاح. ففي الفلبين، أطلق الرئيس السابق رودريغو دوتيرتي حربه المفتوحة على تجارة المخدرات، مانحاً الشرطة ضوءاً أخضر لقتل كل مشتبه فيه. وبحلول 2019، كانت حصيلة القتلى - وفق تقارير الشرطة نفسها - تقارب 19 ألف إنسان، كثير منهم لم يكن إلا عابر طريق، صادف وجوده في المكان الخطأ. 

هل يمكن تسمية هذا حكم قانون؟ 

هل الشرعية السياسية تمنح الحاكم حق تحويل الشبهة إلى حكم إعدام ميداني؟ 

حكم القانون لا يعني مطلقاً محاسبة الناس على النوايا، ولا على زلات اللسان، ولا على ما «تتوهمه» أجهزة الأمن، بل يعني وجود سلطة تُحاسَب، وقضاء مستقل، وصحافة حرة، ومجتمع مدني قادر على أن يقول «لا». وهذه كلها افتقرت إليها دولنا، خصوصاً بعد وأد ما تبقى من مبادرات المجتمع المدني عقب الربيع العربي - ذلك الحراك الذي كان محاولة إصلاح أكثر منه ثورة سياسية مكتملة. 

أمام هذا المشهد الرديء، قد يبدو السؤال مخيفاً: ما العمل؟ كيف يمكن للإنسان العربي أن يتنفّس، وهو واقعٌ في بيئة تعتبر الحرية رفاهية، والحقوق كماليات، والاعتراض جريمة؟ 

ربما لا يجد المرء ما يعبّر عن حاله إلا ما غنّاه عبدالحليم حافظ:

«إنّي أتنفّس تحت الماء... إنّي أغرق... أغرق».

المصدر


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق