سيكولوجية القطيع
د. فيصل بن جاسم آل ثانى*
كان «سنوحي» طبيبًا للفرعون «أمفسيس» الذي عاش في القرن العاشر قبل الميلاد، وقد كتب مذكراته عن حياة هذا الفرعون وعن الشعب المصري الذي كان يعاني استبداد «أمفسيس»، اكتشف علماء الآثار هذه المذكرات وترجموها عن الهيروغليفية وطبعت عدة مرات ومما جاء فيها:
كنت أمشي في شارع من شوارع مصر وإذا بالرجل الوجيه الثري المعروف «إخناتون» مُلقى على الأرض مدرجًا بدمائه وقد قُطعت يداه ورجلاه من خلاف وجُدع أنفُه وما في بدنه مكان إلا وفيه طعنة رمح أو ضربة سوط وهو قاب قوسين أو أدنى من الموت، فحملته إلى دار المرضى وجاهدت جهادًا عظيمًا لإنقاذه من الموت، وعندما أفاق بعد مدة من غيبوبته قص على قصته المحزنة المفجعة قائلًا:
لقد أمرني الفرعون «أمفسيس» أن أتنازل له عن كل أرض أملكها وأن أهبه زوجاتي وعبيدي وكل ما أملك من ذهب وفضة، فاستجبت لما أراد بشرط أن يترك لي داري التي أسكنها وعُشر ما أملك من الذهب والفضة لأستعين به على أَودي، فاستثقل الفرعون هذا الشرط واستولى على كل ما أملك، ثم أمر أن يفعل بي تلك الأفاعيل الشنيعة وأن أُطرح في الشارع عاريًا لأكون عبرة لمن يخالف أوامر الإله «أمفسيس».
ودارت الأيام و «إخناتون» المسكين يعاني الفقر والحرمان وكل أَملِه في الدنيا القصاص من الفرعون الظالم ولو على يد غيره.
ومات الفرعون وحضرتُ مراسيم الوفاة بصفتي كبير الأطباء، فكان الكهنة يلقون خطب الوداع مُطْرين الراحل العظيم وما زلت أتذكر جيدًا الكلمات التي كانوا يرددونها فقد كانوا يقولون:
«يا شعب مصر لقد فقدت الأرض والسماء وما بينهما قلبًا كبيرًا كان يحب مصر وما فيها من إنسان وحيوان ونبات وجماد، كان للأيتام أبًا وللفقراء عونًا وللشعب أخًا ولمصر مجدًا، كان أعدل الآلهة وأرحمهم وأكثرهم حبًا لشعب مصر، ذهب «أمفسيس» لينضم إلى الآلهة الكبار وترك الشعب في ظلام».
كنت أُصغي إلى كلام الكهنة ودجلهم وأَندب حظ مصر وشعبها المسكين الذي يرزح تحت سياط الفراعنة والكهنة معًا، وبينما كانت الجماهير المحتشدة التي لقي كل فرد منها على حدة من بطش فرعون وسياطه أذى وعذابًا تجهش بالبكاء، سمعت رجلًا يبكي كما تبكي الثكلى وقد علا صوت بكاؤه الأصوات كلها يردد عبارات غير مفهومة، فنظرت مليا وإذا هو «إخناتون» المعوق العاجز وكان مشدودًا إلى ظهر حمار، فأسرعت إليه لأهدئه بعض الشيء، وظننت أنه يبكي سرورًا وابتهاجًا بوفاة من ظلمه إلى حد الموت بالتعذيب، ولكن «إخناتون» نظر إلي وأخذ يصرخ قائلًا:
«يا «سنوحي» لم أكن أعلم أن «أمفسيس» كان عادلًا وعظيمًا وبارًا بشعبه إلى هذه المرتبة العظيمة إلا بعد أن سمعت ما قاله كهاننا فيه، وها أنا أبكي يا «سنوحي» لأنني حملت في قلبي حقدًا على هذا الإله العظيم بدلًا من الحب والإجلال طوال سنوات عديدة، حقًا لقد كنت في ضلال كبير».
يقول «سنوحي»: عندما كان «إخناتون» يكرر هذه الكلمات بإيمان عميق كنت أنظر إلى أعضائه المقطوعة وصورته المشوهة وأنا حائر فيما أسمع وتعلو وجهي علامات الدهشة وكأنه قرأ ما يدور في خَلَدي فإذا به يصرخ ويقول:
«لقد كان «أمفسيس» على حق فيما فعله بي لأنني لم أستجب إلى أوامر الآلهة وهذا جزاء من يعصي الإله الذي خلقه وأحبه، وأي سعادة أعظم للمرء من أن ينال جزاء أعماله الذي يستحق على يد الإله لا على يد غيره».
حالة «أختانون» تمثل أوضح نموذج لعملية غسل الدماغ وتغييب الوعي التي يخضع لها كثير من الناس، وحالة الخداع هذه والتخدير للبسطاء والسذج عملية مستمرة عبر التاريخ يمارسها بعض مراجع الدين ومشايخ السوء في كثير من المذاهب والأديان، فيشحنون عقول أتباعهم بالخرافات والأكاذيب والأحقاد تجاه الآخر ويمعنون في غشهم وخداعهم ويُعَيِّشونهم في الوهم كي يسلبوا عقولهم فيسخرونها لتحقيق مصالحهم وأطماعهم والحفاظ على زعاماتهم. ثم إن أئمة الضلالة الدجالين هؤلاء بعد تحقيقهم لأهدافهم لا يبالون بأتباعهم في أي حالة أصبحوا ولا بأي وادٍ هلكوا.
يقول الشاعر:
قد هيؤوك لأمرٍ لو فطِنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَل
إن النبي عليه السلام نهى أن يكون الواحد منا إمعة بلا رأي مسلوب الإرادة غائب الوعي، فإنه لا فرق بين بهيمة لحتفها تُساق وإمعة لهلاكه يُقاد، وأخبرنا الإسلام أن المسؤولية الإنسانية يوم القيامة مسؤولية فردية، وكل شخص سيبعث وحده ويحاسب وحده، ولن ينفعه إن هو هوى في مهاوي الردى أن يقول غرني أو خدعني غيري فلن يغير ذلك من بؤسه وشقائه أن يقول: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}.
*أكاديمى وكاتب قطرى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق