انتفاضة 18 و19 اكتوبر
د.محمد محسوب
أستاذ بكلية الحقوق ومحامي
ليست كل الانتفاضات تظاهرات في الميادين.. فالشعوب يمكنها أن تُسقط الظلم ولو بالامتناع.. عندما يكون الامتناع أقسى من الفعل..
كانت الرسالة واضحة من شعب لا يرغب في استمرار سلطة أهم ما تُوصف به أنها قمعية وفاشلة.. وأنه يبحث عن التغيير..
ومن الطبيعي تماماً أن من حاول ترتيب رسالة غير صادقة في 3 يوليو 2011 أن يحاول اليوم تشويه رسالة حقيقية في 18 و19 أكتوبر 2015، وأن يغافل الناس عن معناها الواضح ودلالتها التي لا تحتمل تأويلاً.
لكن العقل يقف حائرا أمام أولئك الذين ينتمون لتيار التغيير ويشككون في قدرة شعبهم، فيدّعون أنه شعب خامل لا يرغب في تغيير ولا يمتلك ملكات الانتفاض، وأن ما حدث سابقاً كان بتهيئة من نفس جماعة السلطة الفاسدة التي كانت تقبض على السلطة أيام مبارك وهي تقبض عليها اليوم بالحديد والنار؛ فهم يتبنون نفس رؤية المستبد.
إنه الكفرانُ بالشعب والتشكيك بملكاته.. وعندما تكون أمام شعب بأصالة الشعب المصري فإنك تقع في خطأ مبين عندما تستخف به.. ونحن كنا ومازلنا نتهم أنظمة الحكم الهلامية التي تُدير الدولة المصرية منذ ثلاثة عقود وأكثر بأنها تستخف بالشعب وتتعالى عليه؛ ثم لا يفتأُ بعض أنصار التغيير أن يقع في نفس الداء ويرتكب ذات الحماقة.
الشعب المصري في لحظة جنّد ملكاته للتخلص من الاستعمار البريطاني، فامتلك الموهبة والإرادة بأن يبني اقتصاداً مصرياً موازياً لاقتصاد الاحتلال رغم عسف الأنظمة القانونية والتضييق على المصريين بأساليب تجارية وإدارية أو بإغراءات للتخلي عن التمصير والتسليم بشكل كامل لتبعية اقتصادية مهينة. لكن تلفت حولك الآن، فما بقي من صروح اقتصادية لم يدمرها حكم الجهّال الذين خصخصوا أصول الدولة بأبخس الأثمان، مازالت تُشير إلى جهود أجدادك القريبين في بناء اقتصاد ثابت وقلاع ملهمة في مواجهة احتلال غاشم يبتلع الخيرات ويقتل العزائم. ولم تكن المقاومة فقط اقتصادية، فتضحيات المصريين في الصعيد والدلتا والقناة وفي القاهرة لا تُسعف أي مشكك في قدرات هذا الشعب.
لكن الشعوب ليس عليها الإدارة وإنما عليها الانتفاض، أما سرقة جهودها وركوب ثوراتها فليس عيبا فيها وإنما عيبٌ في نخبها السياسية وأنصار التغيير، لأنهم، في مصر، غالباً ما كانوا يُسلمون للطغاة بقيادة مسار الإصلاح وهو ما لم يؤدِّ إلا إلى تدمير لمقدرات البلاد وتبديد لما جمعه بنضاله من عناصر قوة ونهوض.
واليوم تأتي لحظة جديدة، ربما بدأت في يناير 2011 لكنها تصل لذروتها اليوم؛ ففي يناير لا ينسى من شارك في أحداثه العظيمة أن كثيرا من شعبنا كان مترددا في الالتحاق بركب التغيير والانتفاض على الظلم، قلقا من المستقبل ومتوجسا أن موازين القوى لم تمل بعد لصالح حراك التغيير. لكن الأحداث التي جرت أمام بصر الشعب وسمعه منذ ذلك الحين، من محاولات المصلحين من أبنائه لفتح أفق المستقبل رغم انقسامهم، ومن استغلال أنصار الاستبداد الظلاميين انقسام أنصار الإصلاح وسذاجتهم للانقلاب على ما حققته ثورة يناير؛ ومن وعود وردية من الانقلابيين جعلت البعض يُلامس السماء انتظارا لتحول تاريخي لمصر، ثم انكشاف تلك الوعود عن فشل ذريع وخيبة مريعة وضعف في الملكات لا تُخطئه عين وفساد ينخر في كل ركن.
كل ذلك أعاد المصريين إلى مربع واحد يُجمعون فيه على رفض السلطة القائمة التي هي استمرار لنهج فاسد ساد في عهد مبارك، وينتظرون من أبنائهم الذين علموهم وأنفقوا عليهم من مالهم القليل ليروا الدنيا وليتعلموا كيف تُقاد الشعوب إلى الرفاه والعدالة، أن يجتمعوا ليبنوا بديلاً قادراً على إسقاط القمع والفساد وصالحاً للحياة والسير إلى تحقيق مطالب الناس.
لقد عبر المصريون عن رفضهم لهذه السلطة بكل سياستها القمعية والاقتصادية، والتي ليست في حقيقتها سياسات وإنما مغامرات تبدد الحاضر وتحرق المستقبل. فلم تحدث في مصر انتخابات كتلك التي جرت امتنع فيها المصريون بوضوح عن الذهاب لمقار الانتخاب لأنهم أدركوا أنها أشبه ببيت طاعة يَستدعي فيه الطاغية أبناء الشعب ليُسلموا بهيمنته وانفراده وحريته في أن يتلاعب بأرواح الناس وحقوقهم.
والخطوة التالية تقع على عاتق أنصار التغيير من مثقفين وفنانين وسياسيين واقتصاديين وشخصيات عامة ورموز عمل مدني، فعليهم، كما اجتمع شعبهم على قرارٍ واحد وفعل واحد في وقتٍ واحد، أن يجتمعوا لتحقيق مطالبه دون فلسفة ودون التفتيش في النوايا ودون البحث عن أخطاء كل طرف في الماضي ودون رفع شعارات لا يتوافق عليها الشعب. فلو دققنا بنظرنا في كل ما نختلف فيه، سنجد أن علاجه هو الحرية لأنها تؤدي لآلية تُدير الاختلاف وتحوله إلى وسيلة للتنافس الإيجابي الذي يُفيد الشعوب وينهض بالأمم؛ أما تفجير الخلافات الفكرية والأيديولوجية اليوم فلا يؤدي إلا إلى مزيد من الشقاق ومزيد من تشقق صف أنصار التغيير، ومن ثمّ يظل الطغاة محمولين على غباء المصلحين وانقسامهم.
لا أغالي إذا قلتُ إن إثارة الخلاف اليوم هو خيانة لدماء الشهداء ولآمال الشعب المعقودة على هذا الجيل ليُغير حاضره ويبني مستقبله، ذلك رغم كرهي لكلمة خيانة. فتلبية دعوة الشعب التي أطلقاها في 18 و19 أكتوبر 2015 واجب على كل من ينادي بالانتصار للحقوق والحريات بإقصاء من يعمل لإعادة الاستبداد وترميم شبكة الفساد والإفلات من المحاسبة عن الأرواح التي أُزهقت من أبناء الشعب مدنيين كانوا أو عسكريين، وأموال الشعب التي جرى تبديدها في مجازفات غير محسوبة وصفقات تبتغي شراء شرعية للمستبدين لا لإطعام شعبنا واستكمال عناصر قوته.
لا أدري لما أذكر الآن شعر الفيتوري رحمه الله:
إن يكن سخَّرنا جلادنا.. فبنينا لأمانينا سجونا
ورفعناه على أعناقنا.. ولثمنا قدميه خاشعينا
وملأنا كأسه من دمنا.. فتساقانا جراحاً وأنينا
وجعلنا حجر القصر رؤوساً.. ونقشناه جفونا وعيونا
فلقد ثُرنا على أنفسنا.. ومحونا وصمة الذلة فينا
الملايين أفاقت من كراها.. ما تراها ملأ الأفق صداها
خرجت تبحث عن تاريخها.. بعد أن تاهت على الأرض وتاها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق