الإسكندرية قد الدنيا
تحيا مصر
وائل قنديلفي اللحظة التي كان فيها نظام عبد الفتاح السيسي يهرع إلى الإسكندرية، تنفيذا لتوجيهات الزعيم بالسيطرة على الأوضاع، وتلقين "الأحوال الجوية" درسا لا تنساه، وفيما كانت الحكومة تعلن عن تعويضات عاجلة لشهداء الفاجعة، كان النظام نفسه يقتل بدم بارد ثلاثة من معارضي الانقلاب في محافظة الإسماعيلية.
تلخص هذه المفارقة فلسفة النظام في التعامل مع البشر، إذ يصبح الحق في الحياة للمواطن السيساوي فقط، ومن هو خارج السياق يتم قتلة بلا تحقيق أو اتهام أو محاكمة.
وعلى الرغم من ذلك، لا يشعرون بالخجل، وهم يضعون أقنعة الإنسانية والرحمة على وجوههم، في محاولة مستميتة لمنع استيقاظ الوعي لدى الشعب المسجون في زنازين الأحلام الوردية الكاذبة.
زخة مطر كشفت هشاشتهم، وأظهرت أن القصة ليست عربدة الطقس، أو خلاعة الأحوال الجوية.
ما جرى في الإسكندرية كاشف وفاضح، فهذا نظام أجوف، يتغذى على الشعارات والأكاذيب، محض قشرة مهترئة تخفي تحتها العطن والخراب.
ليست الإسكندرية وحدها التي غرقت مع أول هبة رياح في نهايات الخريف، إذ يمكنك القول إن ما جرى يعبر عن حالة مصر الآن.
محافظ شاب، مفتون بوسامته وتحركاته السينمائية، يتحدث عن العالمية والريادة، ويغرق الناس في استعراضات ركيكة، أكبر مائدة طعام على الكورنيش لدك حصون موسوعة الأرقام القياسية، تتحول إلى معركة بالأيدي ومهانة إنسانية حقيقية.. وجولات بالدراجة يرتدي فيها ملابس كاجوال وسلسلة في الرقبة، دليلاً على حداثة ما بعد الانقلاب. وشغل الناس بمظاهر تافهة وطنين أهبل عن بكرة الجميل المختلف.
وفجأة، يأتي المطر فتغرق المدينة، وترتد إلى عصور الظلام، ويبدو النظام كله عارياً من أي قيمة، أو أي كفاءة، أو قدرة على الفعل.
محافظ الإسكندرية هو الصورة المصغرة من والي مصر الجديد، الخديوي عبد الفتاح السيسي، يمارس الدجل على الناس بالطريقة نفسها، سباق دراجات "مفبرك" وكلام كبير عن النهوض والانطلاق وملامسة المجد، وتحويل مصر إلى جنة، خارج المنافسة، وهروب من مواجهة الواقع إلى السباحة في بحار الأحلام والأوهام، وكلما انهار وهم يحقنون الجماهير بوهم جديد، يخطفهم من القديم، ويواصل المسير بهم في خضم من الوعود الزائفة والإنجازات الافتراضية، كي لا يترك لهم فرصة للمراجعة والتدقيق في كشف الحساب.
قبل ثلاثة أسابيع، كتبت في هذه المساحة عن "الحذاء المنسي في بطن مصر"، لمناسبة حوار دار بيني وبين عالم مصري مرموق في أحد المطارات، كانت خلاصته أن الحياة تسير، غير أنها الحركة باتجاه الانفجار، ثم راح يشرح بلغة الطب: كأنهم فتحوا بطن مريض لإجراء جراحة فوجدوا فردة حذاء، لم يستطيعوا التصرف فيها، فأغلقوا الجرح، وقالوا للمريض أنت بخير، وصدق المريض أنه على ما يرام، كما صدق الأطباء الذين أغلقوا بطنه على الحذاء أنهم مبدعون، وناجحون، وصدق المحيطون بالمريض أنه شفي، وأن معالجيه نوابغ. أضاف: لا أحد يريد أن يعترف بأن كارثة في الطريق، ولا أحد يعرف متى ينفجر بطن المريض، الذي هو بمعيار علمي، ميت على قيد الحياة. وأزعم أن ما حدث في الإسكندرية عينة مما تمضي إليه مصر، حيث يقف الجميع أمام مرآة الحقيقة الجارحة، لكنهم، كالعادة، سيحقنون الأعين بكميات إضافية من موانع الرؤية، وستنشط آلة سحق الوعي في إغراق الناس بأحاديث المؤامرة، ولم لا والمجلس الأعلى للعالم موجود، وجماعة الإخوان حاضرة، يمكن اعتبارهما مسؤولين عن اللعب بالمناخ، وإفساد أحوال الطقس، واستهداف مصر بالسيول، لمنعها من الانطلاق، لتصبح محل حسد العالم بأسره.
هم جاهزون دائماً بالروايات البديلة، بحيث لا تكون هناك مساحة، ولو ضئيلة، لإعمال العقل، واستنهاض الضمير، سيدارون سوءات عجزهم وفشلهم، بإيقاعات موسيقى الوطنية المبتذلة، ويسحبون الجموع من أمعائها إلى "تحيا مصر .. تحيا مصر.. تحيا مصر"، ويغرقونهم بمئات من ساعات البث عن الشامتين والمتآمرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق