الدعاية الغربية ضد الإسلام قبل الحروب الصليبية
المرحلة الأولى من مراحل
الدعاية الغربية ضد الإسلام قبل الحروب الصليبية
الدعاية الغربية والإسلام (1)
د / فهمي قطب الدين النجار
إن المرء ليسأل: هل موقف الدعاية الغربية من الإسلام يقوم على هذه الأسس نفسها؟
ونستطيع أن نُجيب بقناعة تامَّة: نعم، بل أكثر من ذلك نقول: إنها قد تقف موقفًا محايدًا تُجاه العقائد الأخرى، أما إذا ذُكِر الإسلام، فيتبدَّل الموقف تمامًا! وأصبح موقف كُرْه عميق الجذور، يقوم في الأكثر على صور من التعصب الشديد[1].
وهذا الموقف نجده عند أكثر المستشرقين خاصة، وعند رجال الإعلام، وحتى عند الفرد الغربي العادي الذي سمِّمت أفكاره من قِبل هؤلاء.
ويسأل المرء أيضًا: لماذا هذا الموقف من الإسلام؟ يُجيب "محمد أسد" على هذا السؤال، وهو الغربي الأصل، والعارف المطَّلِع على حقيقة موقفهم، بقوله: "إن الحروب الصليبية هي التي عَيَّنت في المقام الأول والمقام الأهم موقف أوروبة من الإسلام لبضعة قرون تتلو"، ويُبيِّن في تحليل عميق، كيف تكوَّن هذا الموقف في عقل الأوروبي وعاطفته: "لقد كانت الحروب الصليبية في ذلك حاسمة؛ لأنها حدثت في أثناء طفولة أوروبة، في العهد الذي كانت فيه الخصائص الثقافية خاصة قد أخذت تَعرِض نفسها، وكانت لا تزال في طور تشكُّلها، والشعوب كالأفراد، إذا اعتبرنا أن المؤثرات التي تَحدُث في أوائل الطفولة تظل مستمرة ظاهرًا أو باطنًا مدى الحياة التالية، وتظل تلك المؤثرات محفورة حفرًا عميقًا؛ حتى إنه لا يمكن للتجارب العقلية في الدور المتأخر من الحياة - والمتَّسِم بالتفكير، أكثر من اتسامه بالعاطفة - أن تمحوها إلا بصعوبة، ثم يندُر أن تزول آثارها تمامًا، وهكذا كان شأن الحروب الصليبية، فإنها أحدثت أثرًا من أعمق الآثار وأبقاها في نفسيَّة الشعب الأوروبي"[2].
مراحل الدعاية الغربيَّة ضد الإسلام:
يمكننا تقسيم الدعاية الغربية ضد الإسلام إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: قبل الحروب الصليبيَّة: وذلك للتهيئة لها.
المرحلة الثانية: بعد الحروب الصليبية: واتخذت شكلين:
أ- الاستشراق.
ب- التبشير.
المرحلة الثالثة: في الوقت الحاضر، أسلوبها ووسائلها.
المرحلة الأولى: الدعاية الغربية ضد الإسلام قبل الحروب الصليبية:
امتدت هذه المرحلة إلى ما يُقارِب مائة عام قبل الحروب الصليبية بشكل فِعلي[3]، والذي تولَّى كِبرَ هذه الدعاية الباباوات والرهبان، والكتاب والمفكرون والرحالة[4]، والتجار، وزوار بيت المقدس وغيرهم"، وقد انتشرت الدعاية، وذلك بإثارة البُغْض والمخاوف من الأعداء، والتحمس للدين"[5].
وإن زوَّار بيت المقدس (المقادسة)[6] والتجار والرحالة، كانت دعايتهم ضد الإسلام تأتي بشكل غير مباشر، وذلك خلال ما يُثيرونه من رموز وإيحاءات، وكان ما يصفونه عن بلاد الإسلام يثير الرعب في قلوب النصارى في أوروبة.
فقد كان الرهبان عند أوبتهم لدُورهم بعد تأدية فريضة الزيارة للبيت المقدس، ينقُلون لأبناء جنسهم ما اطَّلعوا عليه في الشرق الإسلامي، فكان أول شعور يُلِم إذ ذاك بآبائهم القديسين هو الاستغراب الذي يتولاهم حين يعلمون سرعة انتشار الدين الإسلامي، ويزيدهم رعبًا واستغرابًا أن تلك الأمصار القاصية عنهم والمحيطة ببلاد القدس مهد الدين المسيحي يسكنها العرب (أي الكافرون برأيهم)[7].
وهم يتصوَّرون أن الخطر الحقيقي في نظرهم مقره الشرق، ويتخيَّلونه في صورة زحف المسلمين عليهم، فقد كان ما ينقُله المقادسة من الروايات منبِّهًا لمنازع الكنيسة، التي كانت موجِّهة حَنَقَها وعنايتها على مسلمي الشرق.
"ومما كان يدفع النصارى في توجيه أنظارهم نحو الشرق وجودُ تراث ثمين ذي شهرة دينية عظيمة خلَّفه الحواريون وبقي محفوظًا بمدينة (أوشليم)، هناك يوجد قبر المسيح، حسب اعتقادهم، وكيف لا يعتريهم أشد الحنق والاغتياظ حين تُحدِّثهم أنفسهم بالعار الذي يلحقهم في استبقاء ذلك القبر المقدس في قبضة الذين يعتبرونهم كافرين؟ هذا من موجبات تحديثهم بالشرق، وزِد أن اليونان كانوا يؤجِّجون نار الغيظ، ويُذيعون كلَّ أنواع الأكاذيب؛ لاستنهاض العالم المسيحي ودفعه إلى الإجهاز على الترك"[8].
ثم بعد ذلك بدأت الحملة الدعائيَّة المباشرة ضد الإسلام بوساطة الباباوات والرهبان، بعد أن كشف الباب (سلفستر الثاني) عن آرائه عام 999م في الحرب الصليبية التي يجب أن تُشَنَّ على المسلمين في الشرق، ولم يهتم بهذه الآراء عظماء الكنيسة والملوك حينئذٍ[9].
إلا أن الأحقاد ضد المسلمين في الشرق، بقيت كامنة في قلوب نصارى الغرب، حتى جاء الباب "أوربان الثاني" الذي التقى مع "بطرس الناسك"[10] عند عودته من زيارة بيت المقدس، وفي عام 1095م عقد هذا البابا مجلسًا حضره جميع أساقفة العالم النصراني الذي قرَّر الدعوة إلى الحرب المقدَّسة، وتشكيل إرساليَّة لمحاولة تخليص بيت المقدس[11].
وقد خطب البابا خطبة حماسية، أمام جمع كبير من النصارى، أثار فيها النفوس، وأيقظ الأحقاد، وحرَّض لقتال المسلمين (أعداء الله برأيه)، ووعدهم بالجنة، ومما قاله في هذه الخطبة الدعائية المؤثِّرة: "اذهبوا وقاتلوا أعداء الله، يا لعار المسيحيين، إن أعداءهم لم يزالوا من عهد بعيد ناصبين سرادقات نفوذهم على سورية وأرمينية، بل ارتكبوا ما هو أدهى من ذلك وأمرُّ؛ إذ إنهم اختلسوا قبر المسيح ذلك المعهد العجيب لإيماننا"[12].
وقد قوبل الخطاب بهتاف كانت مظاهره البكاء والزفير، فقام الحاضرون بأسرهم وخروا سجدًا على قدمي الخطيب، وبهذه التمثيلية المؤثرة بدأت الحملة الدعائية بقيادة البابا والرهبان ومنهم "بطرس الناسك"، الذي أخذ يجوب البلاد الأوروبية، ويُحرِّض الناس على حرب المسلمين، وطرْدهم من البلاد التي وعدهم بها الرب[13].
ومنذ ذلك التاريخ بدأ زوَّار بيت المقدس يَقُصون القصص الكاذبة عن المسلمين في الشرق؛ حتى يُهيِّجوا النفوس، وتتمكَّن منها ملامحُ الانتقام.
ووجد دعاة الحرب الصليبية أنْ لا وسيلة لإثارة لواعج التعصب النصراني أنجع من ذكر القساوات التي يُقاسيها زوار بيت المقدس من قِبَل المسلمين؛ ولذلك ترى الرواة لا ينقُلون إلا أنين النصارى تحت الشتائم والمعاملات الجافية، وقد نُقِلت هذه القصص من قرن إلى قرن، وكل ناقل يُلبِسها ما استطاع من الضخامة؛ حتى أصبحت خرافة تحكي أساطير الأولين[14].
واستغلَّ "بطرس الناسك" هذه الأساطير، وأخذ يتنقل من مكان إلى آخر في أوروبة، فكان يَرعُد ويَبرُق في خطبه التي كانت تلتهب حماسةً وإثارة على المسلمين، فتثير أحقادهم، وتوقظ نار العداء الكامن في نفوسهم، بالإضافة إلى أن الكنيسة ضمِنت للمقاتلين لتخليص ضريح المسيح، حفْظَ أموالهم، وغفران ذنوبهم، والسعادة الأبدية في الآخرة[15].
وهكذا استجاب نصارى أوروبة لدعوةِ البابا وبطرس الناسك، ويؤكِّد المؤرخون الأوروبيون أن دوافع القتال متعددة ومختلفة، ولكنها أبعد ما تكون عن الدين والأخلاق[16]، قال الراهب إنكتيل في تاريخه: "قليل من الصليبيين كانت لهم غايات دينيَّة حقيقية"[17].
وفعلاً كان فاقدو الذمة كالقتلة والفجار واللصوص والنهبة - وهم الذين وجَّه لهم البابا (أوربان الثاني) خطابَه - يُصرِّحون بأنهم يريدون من انخراطهم في سلك الصليبيين غسلَ جرائمهم في دماء المسلمين، فما يرثى له - حسبما لاحظه فولر - أن يُشاهد الإنسان أخبث أعضاد الشيطان ينقلِبون مجاهدين في سبيل الله"[18].
ونحن هنا لا نريد أن نؤرِّخ للحروب الصليبيَّة، وما جنت على العالم الإسلامي، بل على العالم كله من ويلات، وما رافقها من وحشيَّة لا تُوصَف من شناعتها[19].
[1] ارجع إلى: الإسلام على مفترق الطرق؛ محمد أسد، دار العلم للملايين، بيروت، ط9 1976(ص: 53).
[2] المرجع السابق (ص: 55، 56).
[3] أول من دعا إلى الحروب الصليبية هو البابا سلفستر الثاني سنة 1002م (في رواية صاحب كتاب "حاضر العالم الإسلامي" وسنة 999م، في رواية أحمد رضا بك صاحب كتاب الخيبة الأدبيَّة للسياسة الغربية في الشرق - ترجمة محمد بورقيبة ومحمد الصادق الزمرلي - دار بوسلامة 1977 - تونس ص: 65)، ولكنه لم يوفَّق، ثم البابا خريفوريوس سنة 1075م، لكنها تأخَّرت حوالي عشرين سنة حتى سنة 1097م.
[4] من كتَّاب النصارى ومفكريهم الذين حرَّضوا على الحروب الصليبية: سانيشوا ومارينو، بيين ديبوا، جيليوم دي نوجاري، ريموند لولب تراك.
وفي كتاب تاريخ البابوات؛ تأليف السيد فرناند هايوارد بيان كيف ألَّب البابوات ملوك أوروبا لحرب المسلمين وكيف حاولوا بأنفسهم قيادة هذه الحروب الصليبية.
راجع "حاضر العالم الإسلامي"؛ تأليف لوثورب ستودارد؛ ترجمة عجاج نويهص، وعلَّق عليه تعليقات مستفيضة الأمير شكيب أرسلان - دار الفكر - الطبعة الثالثة 1391- 1971م (ص: 218).
[5] الدعاية السياسية؛ لندلي فريزر (ص: 20).
[6] انظر كتاب "الخيبة الأدبية للسياسة الغربية في الشرق" (ص: 54).
[7] المصدر السابق (ص: 54، 55).
[8] المصدر السابق (ص: 64)، والترك بعرف الأوربيين هم المسلمون؛ لأن الأتراك المسلمين هم الذين طرقوا أبواب أوروبا عدة مرات بعد فتح القسطنطينية.
[9] المصدر السابق (ص: 65).
[10] بطرس الناسك أو (الراهب): أحد قدماء الجنود، اعتنق الرهبانية على أثر ما أصابه من المكاره الزوجيَّة، قال في حقه المؤرخ الفرنسي ميشلي أنه كان يُلقَّب "بكوكو الراهب".
وقد ألصق به كلمة "كوكو" التي تُشبِه من حيث النطق كلمة أخرى لا يليق التلفظ بها صراحة؛ لأنها تُطلَق على من كانت زوجته تخدعه من حيث تمكين غيره من نفسها.
[11] المرجع السابق (ص: 65، 66).
[12] ارجع إلى المصدر السابق (ص: 66، 67) للاطلاع على بقية الخطبة.
[13] قال ميلي في تاريخه نقلاً عن الراهب فلوري: "من التغرير والتضليل، بل من العبث بمعاني الألفاظ، أن ندعو بلاد فلسطين إرثًا للمولى أو أنها هي الأرض التي وعد بها أمته، فإنه لا يوجد في كتب الدين ما يشير بأن الله أمر المسيحيين بتشييد المدينة المقدسة"؛ المرجع السابق (ص: 72).
[14] وقد ردَّ على دعاة الصليبية (مسيو لافيس) في تاريخه قائلاً: "فبفضل ما يبدو على العرب من عواطف التسامح، كان المسيحيون القاطنون بأورشليم في راحة وهناء بالنسبة لغيرهم، وهناك عدة كتابات تشهد أن كنائسهم ومستشفياتهم كانت زاهرة يانعة، ويتصرَّف أربابها في ثروات طائلة، فلا سبيل والحالةُ هذه للتصديق بصحة ما تحاول الكنيسة إيهامنا إياه من أن الزوار من المسيحيين يعاملون هناك بالجفاء"؛ المرجع السابق (ص: 74).
[15] المرجع السابق (ص: 76).
[16] كتب الراهب فلوري مبينًا الفئات المقاتلة في الحروب الصليبية يقول: "إن حرب الصليب انتهزها غريقو الذمة فرصة للتخلُّص من ديونهم، والأشقياءُ للتخلص مما قضت به عليهم جرائمهم من العقاب، والرهبانُ الجامحون لتغيير حالتهم والانصراف عن بيوتهم، والنساءُ التائهات للاستمرار بأكثر حرية على التهتك والخناء، ومن هنا يتصوَّر المرء ما كان عليه الصليبيون من اضطراب الحال، وارتخاء حبل الأخلاق"؛ المرجع السابق (ص: 77).
[17] المرجع السابق (ص: 77).
[18] المرجع السابق (ص: 78).
[19] لم يروِ التاريخ أن قومًا بلغوا من الوحشيَّة ما بلغه الصليبيون الذين لبسوا ثوب العقيدة، ورفعوا الصليب شعارًا لهم؛ فقد روت (آن كونين) ابنة إمبراطور القسطنطينية المسيحي: "أن ألذ ملاهيهم - أي: الصليبيين - أن يقتلوا جميع الأطفال المسلمين الذين يُصادفونهم ويصلوهم نارًا ثم يأكلوا لحومهم"، هذه الرواية أيدها المؤرخ الإنكليزي (ميلس) أيضًا قائلاً: إن الصليبيين يأكلون لحم البشر، ففي بلدة أنطاكية ذبح (بهموند) - أحد قواد الجيش - زمرة من أسرى الأتراك، وشواهم أمام الناس، ثم دعا الحاضرين صائحًا بوجوب إقناع الجوع من الموجود"، إن سيرة بهموند المتوحشة - وهو حفيد ملك فرنسا (فيليب الأول) - تنبئ عن درجة التوحش التي كان عليها من هم دونه منزلة من حيث التربية والأخلاق، وهم السواد الأعظم، وأيَّد هذا أيضًا المؤرخان الفرنسيان لافيس ولوشان.
وقد كتب أحد شهود العيان وهو (روبير لوموان): "إن رجالنا كانوا يجوبون الشوارع ويُجهِزون على الأطفال والشيوخ"، وذلك في مدينة أنطاكية التي تمكَّن الصليبيون من فتْحها بمساعدة أحد الأرمن القاطنين فيها، وقتلوا عشرة آلاف تركي، وأحرقوا المساجد، ثم أجهزوا على البقيَّة من أهل المدينة في اليوم الثاني.
ارجع إلى المرجع السابق (ص: 79، 80)، وما بعدها للاطلاع أكثر على وحشية الصليبيين.
المصدر : موقع الألوكة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق