سلطة تحتقر شعبها
وائل قنديل
أنت مواطن صالح، ما دمت ترقص على إيقاعات ركاكتهم، وتغني ساقط كلامهم، وتمنحهم صوتك، وأنت مغمض العينين، تصدع لما يأمرونك به، وتهتف باسمهم طوال الوقت، وتبتلع ملوثاتهم راضيا سعيداً، وتقول: هل من مزيد.
لم يكن أحد يتخيّل أن تصل بهم الشراسة في ازدراء المصريين إلى حد إسقاط صفة الآدمية عنهم، وتجريدهم من الجنسية والوطنية، واعتبارهم كائنات غريبة، لا يحق لها البقاء على قيد المصرية.
منذ أظهر المصريون تعففاً، وأبوا أن يشاركوا في مسخرةٍ، تسمى انتخابات مجلس النواب، وسياط القبح والبذاءة تنهال عليهم من بارونات الدولة العميقة، بالسخرية والتقريع والتهديد والوعيد بالعقاب.
إعلاميون وصحافيون وقضاة ووزراء اعتبروا كل مُقاطع للانتخابات خائناً للوطن، وكل ممتنع عن التصويت ناكراً للجميل، وكل معلق على عبثية المشهد وجنونه عدواً للبلاد، لا يستحق العيش فيها.
وبحسب الخطاب الصادر عن أبواق نظام السيسي، فجأة تحول معظم "شعب مصر العظيم" إلى قطيع من الحقراء والمنبوذين، الذين لا يستحقون الحياة في جنتهم البائسة.
من أصغر نفر في شاحنة الإعلام، إلى وزراء ومسؤولين كبار، صار الشعب المصري في نظرهم جاحداً، وجاهلاً، ومغيباً، ونسوا جميعاً معلقات المديح التافهة في الشعب، الذي كان عظيماً وواعياً وبطلاً، لحسوا كل ما قالوه عن "شعب 30 يونية" الذي كان جميلاً حين استطاعوا خداعه واستعماله، حسب الحاجة، مرة في إزالة ثورة يناير من الوجود، ثم مرة في منحهم تفويضاً مفتوحاً بقتل كل من يعترض على مشيئتهم، ومرة أخرى في الوصول بقائد الانقلاب إلى سدة الحكم.
اعتبروه مجموعات من الأسرى والسبايا، مطيعين ومستجيبين ومنفذين لكل ما يطلب منهم، ابتزوا مدخراتهم في وهم قناة السويس الجديدة، بوعود الأرباح السريعة، التي تنقلهم إلى عالم الثراء في غمضة عين، فباعوا كل شيء، ووضعوا ثمنه تحت تصرفهم، وانتظروا جريان أنهار العسل والسمن، فما حصدوا إلا السراب.
قالوا لهم ستصبح ،"قد الدنيا" فما رأوا إلا انكماشاً وتقزماً، ووقوفاً على أبواب المانحين في وضاعة ذليلة، حدثوهم عن "بكرة" الأخضر، فما وجدوا إلا القحط والجفاف.. وعدوهم بتشييد صروح الحرية وركوب قطار التحضر، فما لقوا إلا التوسع في بناء الزنازين التي ضاقت بالمحشورين فيها، والارتداد إلى أزمنة الإقطاع.
قدم المصريون السبت والأحد والإثنين، فلم يحصلوا إلا على الماضي الكئيب، فكان قرارهم بالتمرد على دعوتهم إلى صناديق خداعة وكذابة، فقاطع نحو ثمانين بالمائة منهم، وفق أكثر التقديرات الموضوعية تفاؤلاً، فجاء الرد سريعاً ووضيعاً ومريعاً، بأن اعتبروا غالبية الشعب المصري في مرتبة أقل من البشر.
هكذا قالها وزير عدل السيسي، حين سئل عن مقاطعي الانتخابات: هؤلاء لا يستحقون أن نسميهم "ناس"، هؤلاء ليسوا بشرا، وليسوا مصريين، ولا يستحقون الحياة على أرض مصر. أكثر من ثلاثة أرباع الشعب المصري في مرتبة أدنى من البشر، بتصريح وزير العدل.
حسنا، اقتلوهم حيث ثقفتموهم، اقتلعوهم من أرضهم وادفنوهم مع مدخرات عمرهم في عمق قناتكم الجديدة، أو اعرضوهم للبيع في أسواق العبيد، واستوردوا شعباً آخر، ولا تنسوا أن تقتلوا أبناءهم، وتستحيوا نساءهم.
في كل الدنيا، مقاطعة الانتخابات حق للشعوب، تكفله الدساتير والقوانين، من دون أن يُهان المقاطعون أو يُتهموا بالخيانة، فالتصويت في الانتخابات حق للمواطن، وليس وظيفة يؤديها. وبالتالي، لا إجبار عليه في ممارسة هذا الحق، أو الامتناع، إن رأى ذلك، إلا في مصر، يجد مقاطع الانتخابات نفسه معاقباً في الدنيا، بالتغريم والتجريس والتخوين، وإخراجه من دائرة البشر. وفي الآخرة، بالإفتاء بأنه مثل تارك الصلاة، تحل عليه لعنات دولة الحريات، وتجديد الخطاب الديني السيساوي الذي تحدث عن الحق في الإلحاد، والشعب"العلماني بطبعه" كما أفتى وزير الثقافة.
أعلنها المصريون بشكل عفوي بسيط: لم تعد في الذاكرة مساحة للأكاذيب وعمليات النصب، فقررنا عدم استقبال المزيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق