هلاوس ما يسمى بالدولة المصرية
آيات عرابي
قبل عقود كان من الشائع استخدام مصطلح (القطر المصري) لتسمية مصر, وكان هذا المصطلح يعني ضمناً الاقليم المصري وبالتالي ينصرف المعنى إلى أن مصر كانت جزءاً من كيان أكبر, ظل هذا الوضع قائماً حتى بعد الغاء الخلافة سنة 1924 وحتى انقلاب يوليو 1952, حين بدأ استخدام مصطلح “الدولة” ثم مع الانقلاب على الرئيس مرسي, ظهر مصطلح الدولة من جديد على لسان أعداء الثورة من فلول الحزب الوطني وموظفي الدولة العميقة من مخابرات وضباط جيش سابقين .. الخ
بدأ المصطلح يستخدم بكثافة بعد ثورة يناير كما لو كان يحمل بذور محاولة إضفاء الشرعية على مؤسسات نظام العسكر حفظا لها من الانهيار, ثم غطس المصطلح قليلا وعاد للظهور قبيل الانقلاب على الرئيس مرسي, وحتى لحظة الانقلاب ظل استخدام المصطلح قاصرا على المنتمين لنظام العسكر بمؤسساته, ثم تسلل شيئاً فشيئاً إلى خطاب بعض المحسوبين على المعسكر الرافض للانقلاب, بعضهم يستخدمه وهو يعلم أنه يرسخ لبقاء مؤسسات الجيش والقضاء والشرطة والمخابرات والبعض الآخر يستخدمه على سبيل الوجاهة السياسية بعد أن اعجبه المصطلح, فقرر أن يصبح وردا يوميا على لسانه على سبيل إضفاء لمسة من الرقي على حديثه الفارغ من المضمون.
ويمكن رصد ارهاصات ظهور قواعد تلك المؤسسات في عهد محمد علي, رجل فرنسا الأول في مصر والذي قصف أهل مصر بالمدافع من أجل انشاء جيش على غرار الجيوش الأوربية وهو ما تجد اسسه في رسائل ثيودور لاسكاريس رجل نابليون لوزارة الخارجية الفرنسية, والذي وضع مخططا كاملا لما ينبغي أن يكون عليه شكل الدولة بعد فصل مصر عن الخلافة العثمانية وهو ما نفذه محمد علي وتقيد به حرفياً.
وجاءت المرحلة الثانية في أعقاب الاحتلال البريطاني لمصر, والذي قام بحل جيش عرابي وانشأ ميليشيات جديدة منحها اسم الجيش المصري, واستكمل شكل الدولة كما ورد في مخططات رجل نابوليون.
وكانت المرحلة الثالثة بعدانقلاب يوليو 1952 والتي سيطر فيها الأمريكيون على مفاصل الدولة على عكس ما يُشاع في إعلام العسكر, وبدأوا في انشاء المخابرات العامة وهيكلة وزارة الداخلية وتدريب وهيكلة الجيش وانشاء إذاعة صوت العرب والتي كانت نواة الإعلام المصري, واستعانوا في ذلك باطقم من السي آي إيه وببعض رجال الجيش الالماني مثل اوتو سكورزيني والذي اوكلت إليه مع رجاله مهمة تدريب المخابرات العامة وهيكلة الجيش, والطريف أن الموساد كان قد نجح في تجنيده قبل البدء في عمله, وهو ما يعني أن الأمريكيين برغم جهودهم المخلصة في بناء تلك المؤسسات الا أنهم تركوا بابا خلفيا مفتوحا لضمان السيطرة على تلك المؤسسات ومنعها من الانحياز إلى الجانب الوطني وللإبقاء عليها كفيروسات مزروعة داخل البيئة المصرية التي احاطها اسلافهم الانجليز بسور حدودي يفصلها عن باقي اقاليم الخلافة.
والطريف في الأمر ان الأمريكيين في خضم محاولتهم لستر علاقتهم برجلهم المقبور عبد الناصر, دفعوه للاتجاه شرقا إلى الاتحاد السوفييتي في صفقة الأسلحة التشيكية وخدعة تأميم شركة قناة السويس, والتي كان الغرض منها طرد بقايا الوجود البريطاني في مصر, فانتشر رجال الاتحاد السوفييتي في الجيش والمخابرات ودوائر الحكم (كسامي شرف الذي اعترف بعمالته للسوفييت فيما بعد), فاضطروا لبذل المزيد من الجهد لطرد رجال الاتحاد السوفييتي بعدما نبهوا السادات (الذي جنده كمال ادهم في الخمسينات لحساب المخابرات الامريكية) للمؤامرة التي ينسجها ضده رجال الكي جي بي في مصر وبدأوا بعدها في اجراء عملية جراحية كبرى استهدفت استئصال رجال الكي جي بي من الجيش والمخابرات ووضع رجالهم.
والملاحظ أن تغير مركز الاحتلال لم يدفع الوكيل الجديد إلى تغيير سياسات سابقه, بل تطويرها, فالاحتلال البريطاني بنى على التجربة الفرنسية, والاحتلال الأمريكي استفاد من التجربة البريطانية وبنى عليها وطورها, حتى وصلنا إلى مرحلة الاحتلال الاسرائيلي الفج بعد الانقلاب واصبحت مصر تدار من تل أبيب.
واللافت أن تلك الفقاعة المحاطة بغلاف اعلامي من الانجازات الوهمية والتي يحلو لمدعي الثقافة أن يسموها بـ “الدولة المصرية” ان دققت النظر فيها, ستدرك أنها مجرد خدع تم النصب عليك بها, لم تحقق انتصارا واحداً منذ ارهاصاتها الأولى في عهد محمد علي وحتى الآن, بل حتى ما ينسبه بعض المدرسيين لمحمد علي لم ينتج الا عزل مصر في نهاية الأمر عن الخلافة العثمانية وتقزيمها داخل حدود تم رسمها مسبقاً, فتم عزل الاقليم المصري بقناة السويس والتي كان من المفترض ان يتم حفرها بين النيل والبحر الاحمر بدلا من وضعها الخطير الحالي, ثم تم عزل السودان ثم تبعتها غزة وتم اخلاء سيناء تماما من السلاح والبشر, وكل ذلك في اطار مسرحيات مرتبة من هزائم يتم سترها بغطاء اعلامي كثيف والايحاء للبسطاء انها تمت نتيجة لتطور الاحداث, وهي هزائم لم يعرفها الشعب المصري الا على يد ما يسمى بالدولة المصرية, فقد كان الشعب دائما الدرع الذي تتكسر عليه موجات الغزو الأجنبي, منذ لويس التاسع وحتى الاحتلال الفرنسي وحملة فريزر, بل حتى في اكذوبة اكتوبر حينما هزم العدو الجيش وحاصر الجيش الثاثل وعبر القناة الى الناحية الأخرى واصبح على بعد 100 كيلومتر من العاصمة, كسر الشعب المصري يده في مدينة السويس ومنعه من دخول المدينة, في الوقت الذي اخترق فيه العدو الجيش كالسكين وأسر من جنوده وضباطه ما يزيد قليلا عن الثمانية آلاف.
ما يسمى بالدولة المصرية هو مجرد هلاوس وأوهام صنعها إعلام يوجهه الاحتلال الخفي ويؤمن به السطحيون, وهي كذبة لا يروج لها الا المغفلون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق