الأحد، 9 سبتمبر 2018

لماذا لم يستفد الإسلاميون من مدرسة المسيري؟


لماذا لم يستفد الإسلاميون من مدرسة المسيري؟
محمد جلال القصاص
باحث دكتوراة علوم سياسية
إلى وقتٍ قريب كانت الصورة الذهنية عندي للدكتور عبد الوهاب المسيري سلبية، رغم ما اشتهر به من رفض الظلم والاستبداد والمشاركة في الحركات الثورية في عهد مبارك (كفاية وأخواتها) والانتماء للحالة الإسلامية من حيث العموم؛ والسبب أن أول معرفةٍ لي بالدكتور المسيري كانت في مناظرة له مع سيد القمني، كنت أتتبع سيد القمني فوجدته يناظر الدكتور المسيري في مفهوم العلمانية في برنامج (الاتجاه المعاكس) وانتهت المناظرة بتوافق بين الدكتور المسيري والقمني!، المسيري يطالب بعلمانية جزئية والقمني يطالب بعلمانية شاملة، فقلت في نفسي: يصطف مع العلمانيين وإن كان أقرب قليلًا وانصرفت.

وانضاف إلى ذلك سبب آخر هو أني أنصت طويلًا للدكتور قدري حفني في مدرجات الدراسة (علم نفس سياسي) وكان يخالف الدكتور المسيري في بعض آرائه عن الصهيونية ويذكر ذلك في المحاضرات. بقي الدكتور المسيرى في هامش الذاكرة إلى أن احتجت لصوتٍ يقرأ مقالاتي ورحت أستمع لبعض الأصوات لأتعاون معها في قراءة المقالات، وكان أن اخترت مادة صوتية من أطروحات الدكتور المسيري (رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر)، وما كدت أبدأ حتى جلست ولم أرحل، أكملت الكتاب وتحركت في جوانبها بحثًا عن ما يخص الدكتور المسيري، فرحًا مسرورًا كأني وقعت على كنز، أجاب على أسئلة كثيرة تتعلق بالمنهجية العلمية ونقد المادية الملحدة وفتح الله به أفاقًا جديدة، وتعمقت أفكار تتكون بداخلي، وثار سؤال: لمَ لمْ تستفد الصحوة الإسلامية من الدكتور المسيري بشخصه أو من التيار الفكري الذي يمثله (التيار الناقد للغرب)؟

والتقيت الدكتورة نادية مصطفى متعلمًا منها في تمهيدي الدكتوراه، وكانت فرصة للاقتراب من مدرسة الإسلام الحضاري وهي من ذات التيار الذي يقف في وسطه عاليًا الدكتور عبد الوهاب المسيري، وأكثر ما لفت نظري في الدكتورة نادية مصطفى وباقي المنتسبين للمدرسة من الأساتذة والزملاء أنهم أتقياء برره وجادون ومحبون لله ورسوله، والله حسيبهم ولا أزكي على الله أحدًا، وعاد السؤال يلح من جديد: لمَ لمْ يستفد الصحويون (إخوان وسلفيون) من تيار الإسلام الحضاري؟!، لم لا يتم تجسير الفجورة بينهما؟! أحاول تقديم إجابة من ثلاثة زوايا: مرة بالنظر من ناحية الصحويين، ومرة بالنظر من ناحية الدكتور المسيري والإسلام الحضاري، ومرة من أعلى.. بالنظر إلى المشهد ككل، والله أسأل رشدًا وعزيمة على الرشد.

أولًا: من ناحية الصحوة:
أعرضت الصحوة الإسلامية عن المنتوج الفكري لكل من يتحدث عن الخارج بالتفصيل وإن نقدًا كالدكتور المسيري والإسلام الحضاري، وحافظت عل احترام الأشخاص لمواقفهم لا لأطروحاتهم
لم تُعنَ الصحوة الإسلامية بدراسة المخالفين لها والرد عليهم، ويكاد يكون إهمال المخالف وإهمال التحديات الخارجية مضطردًا عند الصحوة الإسلامية، وهذه بعض المشاهد كشواهد:

في مطلع هذا القرن والحالة الصحوية في أزهى حالاتها: مساجد في كل مكان، وفضائيات، ومواقع انترنت، وجماهير تسمع وتردد، وأحداث تقدمها للناس، والحال هكذا تجمَّع النصارى وجاءوا ينشرون الشبهات حول الدين ومقام سيد المرسلين-صلى الله عليه وسلم- بكل الوسائل المتاحة وبأحط وأقذر الألفاظ؛ كانت أطروحاتهم في غاية الاستفزاز؛ وشكَّلوا تحديًا حقيقيًا للحالة الإسلامية في العالم الإسلامي وخاصة مصر والدول العربية الكبرى، بل وأحدثوا نكايةً في المسلمين بتنصير عددٍ منهم وتغيير القوانين المتعلقة بذلك في بعض بلاد المسلمين، ومع ذلك لم تهتم بهم الصحوة. وكان عامة من تصدى لهم من الشباب ممن لا يعرفون بالانتساب للصحوة باستثناء قلة قليلة (أفراد) وجاءوا متأخرين.

وظهر وقتها مفاجئةً أخرى أشد، وهي أن الصحوة الإسلامية رغم أنها اصطدمت بالتنصير عدة مرات: في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وبعد انقضاء ثلث القرن العشرين ثم بعد انقضاء ثلثيه، إلا أنها لم تعن بإنتاج مادة علمية للرد على شبهات النصارى من المستشرقين والمنصرين، واقتصر الأمر على مراسلات ومقالات من حالات فردية، اضطر إليها من كتبها كمحمد عبده ورشيد رضا، وتعليق من الشيخ محمد الغزالي على محاضرة مسربة لشنودة الثالث (نشر التعليق في كتابٍ بعنوان الوعد الحق).
وكذلك أهملوا التعامل مع الفكر القادم من الشرق (الشيوعية) والفكر القادم من الغرب (الإمبريالية الرأسمالية الليبرالية)، لم يعنوا بها رغم قوتها ورغم أنها عركتهم في جميع المجالات؛ فلم ينتج الصحويون في هذا المجال إلا جهد قليل من أفراد، مثل: كتاب العلمانية للشيخ سفر الحوالي والليبرالية للشيخ عبد الرحيم السلمي، ولم تنجح هذه الجهود في أكثر من صياغة جمل كلية تفيد الرفض المجمل للمخالف، ثم اندثرت ولم تتطور كتيار فكري.

والسبب –كما يبدو لي- أن الصحوة عنيت بترسيخ قيم الوحي ولم تعن بالمخالف، تتكئ على فكرة كلية مفادها أن تحقيق الإيمان في النفوس نظريًا يكفي لتحويل القيم واقعًا عمليًا؛ وهو ملخص ما دندن حوله الأستاذ السيد قطب –رحمه الله- في الظلال والمعالم، وهي قراءة للنموذج الإسلامي الأول، فالدعوة الإسلامية أجابت إجابة خاصة جدًا على أسئلة الفلسفة الكبرى دون أن تعنى بمناقشة تفاصيل المخالف، فعرَّفت الناس: من أين جاءوا (من خالقهم؟)، ولماذا جاءوا لهذه الحياة؟، وماذا ينتظرهم بعد الموت؟ بإجابات مصدرها الوحي ومناقشة عامة للمخالفين في سياق بيان الحق، وحين تعرضت لتاريخ البشرية سردته في قالب صراع بين الإيمان والكفر، بين أتباع الأنبياء وأتباع الشيطان، بين من آمنوا ومن كفروا.

ولم يهتم النص الشرعي بالسرد التاريخي وإنما راح يكرر القصص وبذات الألفاظ والجمل أحيانًا لترسيخ أنماط محددة من القيم والمفاهيم يشكل بها السلوك. وشخص النبي-صلى الله عليه وسلم- لم يعن بالمخالفين أيضًا إلا بشكلٍ مجمل. لذا أعرضت الصحوة الإسلامية عن المنتوج الفكري لكل من يتحدث عن الخارج بالتفصيل وإن نقدًا كالدكتور المسيري والإسلام الحضاري، وحافظت عل احترام الأشخاص لمواقفهم لا لأطروحاتهم.

وفي التفاصيل أسباب أخرى فرعية تفرعت عن هذا السبب الرئيسي وغيره، مثل: بعد الصحوة عن العلوم الاجتماعية، وغلبة الطابع الذكوري عليها بخلاف مدرسة الإسلام الحضاري، واستخفافها بالشهادات الأكاديمية، ومحاولة إحياء دور التعليم من خلال المسجد على نمط عصور التمكين. وأنها ركزت عل إحياء كتب السلف وإعادة نشرها، ومن كَتَبَ منهم فتجميع وإعادة نشر لمفاهيم منثورة في كتب السلف.

الدكتور عبد الوهاب المسيري يمثل نموذجًا لتيار الإسلام الحضاري، أو إسلامية المعرفة، وهو تيار مستقل عمليًا، ويقدم نفسه كممثل وحيد لمسيرة التجديد في الأمة الإسلامية
مواقع التواصل
 ثانيًا: من ناحية الدكتور المسيري:
الدكتور عبد الوهاب المسيري يمثل نموذجًا لتيار الإسلام الحضاري، أو إسلامية المعرفة، وهو تيار مستقل عمليًا، ويقدم نفسه كممثل وحيد لمسيرة التجديد في الأمة الإسلامية. نعم يتعمد هؤلاء الكرام الأفاضل تجاهل هذه الأمواج الهادرة من البشر (رموزًا وأفرادًا) وهذا الحشد الهائل من الأحداث التي صنعهتها الصحوة، ومن بعض الشواهد على ذلك:

- أنتج أحد المراكز البحثية الرئيسية لهؤلاء فيلمًا وثائقيًا عن مسيرة التجديد في العصر الحديث ولم يذكر فيه إلا المنتمين لهذا التيار (إسلامية المعرفة/ الإسلام الحضاري)، ولأنهم أكاديميون، بمعنى أنهم بلا مواقف، قدموا أشخاصًا ومؤهلاتهم فقط، وأهملوا أيام الإسلام في العصر الحديث والتي كلها لأبناء الصحوة. فالواقع أن لـ (إسلامية المعرفة) و (الإسلام الحضاري) ذاكرة تاريخية خاصة، أو يحاولون تكريس هوية خاصة بهم، ويتوغلون في المجالات باستقلالية لا يفهم منها سوى أنهم لا يرون غيرهم أو يتعمدون تجاهل غيرهم وأن التعددية التي يتحدثون عنها تفعل في إطار مع غير المسلمين في إطار إنساني؛ وإن تحدثوا مع الصحويين فمن باب بيان خطأ الصحوة ورموزها ودعوة الصحوة أن تقرأ وتفهم وتتعلم علمهم. فكما قال أحدهم مرةً: أن الصحوة لا تقرأ وإن قرأت لا تفهم!

- ومن الشواهد مهاجمتهم لرموز الصحوة كسيد قطب ومحمد محمد حسين، فشخص مثل الدكتور محمد عمارة مع أنه مكثر في التصنيف ويكتب في مجالات عدة ويعلق على الأحداث، ومع أنه يكتب في ذات المجالات التي تعنى بها الصحوة إلا أنه يتعمد إهمال ذكر الصحوة بشكل تام، وحين يذكر أمامه فضيلة الدكتور محمد محمد حسين صاحب كتاب (الاتجاهات الوطنية في الأدب الحديث) يخرج عن وقاره ويهجم عليه بعنف شديد، فقط لأنه انتقد محمد عبده في صفحتين أو ثلاث وفي سفر يربوا على الألف صفحة كلها انتصارًا للدين ضد العلمانية التي يدعي عمارة أنه يقاتلها بقلمه!! وحين تمايزت الصفوف في انتخابات 2012 انضم هؤلاء للتيار العلماني ذي النكهة الإسلامية (حزب أبو الفتوح) رفقة حزب النور!

والسؤال الأهم الذي يبين أن هؤلاء الكرام الأفاضل في وادٍ آخر منعزلين عن التجديد والتغير في الأمة وأنهم يناطحون أو يستعدون لمناطحة الصحوة هو سؤال: من المستفيد من منتوجاتهم الفكرية؟، من يخاطبون؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق