يُروى أن محمد بن سعود، مؤسّس الدولة السعودية الأولى، دخل على زوجته يوما فقالت له إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي الذي اشتهر خبره في منطقة الأحساء، والهارب من بطش بني خالد حُكّامها إلى الدرعية في نجد لائذا ببعض تابعيه لأجل دعوته، قالت له: "إن هذا الرجل ساقه الله إليك، وهو غنيمة، فاغتنم ما خصّك الله به. فقبل قولها، ثم دخل عليه أخوه ثنيان وأخوه مشاري وأشاروا عليه بمساعدته ونصرته، فقذف الله في قلب محمد محبّة الشيخ ومحبّة ما دعا إليه، وحين ذهب إليه والتقاه قال له: أبشر ببلاد خير من بلادك، وبالعزّ والمنعة. فقال له الشيخ: وأنا أبشّرك بالعزّ والتمكين والنصر المبين"[1].
دولة الدعوة!
هكذا يروي عثمان بن بشر في تاريخه، وهو من تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والمعاصر لقيام الدولة السعودية الأولى في نجد وتوسّعاتها في زمن مؤسسيها الأوائل حتى عصر سعود وابنه عبد الله آخر حكّامها، يروي العلاقة التي جمعت بين الأمير والشيخ، وهي للحق علاقة أعادت اكتشاف نفسها في قلب الجزيرة العربية، وفي كبوة من التاريخ العثماني، وهي لحظة كان لها ما بعدها في تاريخ الجزيرة العربية الحديث.
في بلدة العُيينة الواقعة على مسافة 35 كم شمالي الرياض في قلب نجد، وفي عام 1115هـ/1704م ولد محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي في بيت علم وقضاء، فوالده عبد الوهاب بن سليمان التميمي كان قاضيا لتلك البلدة، فنشأ ابنه محمد محبا للعلم، طالبا له، فارتحل لأجله إلى مكة والمدينة والبصرة والشام والأحساء ثم عاد إلى حُريملاء بلدة شمال الرياض كان والده قد سكنها في أواخر عُمره، وفي كل من تلك الأسفار قرأ ابن عبد الوهاب علوم القرآن الكريم والفقه على المذهب الحنبلي، وتكوّن لديه في نهاية المطاف حصيلة علمية قوية، أهَّلته لنشر أفكاره بين الناس، وبدأ يشيع أمره في منطقة العارض في نجد لا سيما حريملاء والعُيينة والدرعية والرياض ومنفوحة، وأصبح للرجل مريدون "اقتدوا به، واتبعوا طريقه، ولازموه"[2].
كان ابن عبد الوهاب يعيب على مجتمعه استحلاله لكثير من الأشياء التي رآها من صميم المحرّمات، مع عدم وجود قوة تردع ما رآه "منكرات" أعادت إلى الأذهان بعضا من صفات الجاهلية الأولى؛ لا سيما التبرّك بالشجر والحجر، الذي عدّه شركا يستلزم الوقوف أمامه، وحين تدخل ابن عبد الوهاب لإزالة ما رآه منكرا بيديه مع مريديه في حريملاء فقد بدأت حينها المشكلات تطل برأسها، الأمر الذي اضطر معه لترك المدينة.
انتقل الرجل من حريملاء إلى العُيينة، وبدأت تتمخض في رأسه ضرورة قيام سلطة تحقق "الشرع الغائب" على أرض الواقع، وفي العُيينة عرض على رئيسها عثمان بن معمّر الذي ناسبه وتزوّج ابنته، عرض عليه اتباع دعوته ومذهبه، وبالفعل قبل ابن معمر هذه الدعوة، وبدأ في هدم القباب والأضرحة؛ فقد كان ابن عبد الوهاب يراها رموزا للبدع والشركيات، الأمر الذي جرّ عليه شكايات الناس وسخط بني خالد زعماء الأحساء الذين كانوا يدينون بالولاء السياسي للدولة العثمانية في منطقة شرق الجزيرة العربية وتوابعها في نجد، فاضطر ابن عبد الوهاب إلى الهرب من العُيينة إلى الدرعية وفيها التقى بمحمد بن سعود وبدأت قصة جديدة في تاريخ الجزيرة العربية.
قامت الدولة السعودية الأولى على أساس من العلاقة التاريخية المتأصّلة في الاجتماع السياسي الإسلامي، وهي علاقة الفقيه بالسلطان، فالفقيه يؤصّل الوجهة الدينية والأيديولوجية للدولة الجديدة، والسلطان يمضي بسيفه لتحقيق هذه الرؤية، يقول ابن غنّام في "تاريخ نجد":
"بقي الشيخ (ابن عبد الوهاب) بيده الحلّ والعقد، والأخذ والإعطاء، والتقديم والتأخير، ولا يركب جيش، ولا يصدر رأي من محمد بن سعود ولا من ابنه عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه. فلما فتح الله الرياض، واتسعت ناحية الإسلام، وأمنت السُّبل، وانقاد كل صعب من بادٍ وحاضر، جعل الشيخ الأمر بيد عبد العزيز بن محمد بن سعود، وفوّض أمور المسلمين وبيت المال إليه، وانسلخ منها، ولزم العبادة وتعليم الناس، ولكنّ عبد العزيز لم يكن يقطع أمرا دونه، ولا يُنفِّذه إلا بإذنه"[3].
تتجلى تلك الحقيقة في البيعة المتبادلة بين محمـد بن سعود ومحمـد بن عبد الوهاب اللذين سعيا منذ اللحظة الأولى لمحاربة مظاهر "الشرك" -كما رآها ابن عبد الوهاب- في الجزيرة العربية، وإقامة شرع الله وفق الرؤية المذهبية الحنبلية، وتوحيد القبائل والعشائر المتناحرة تحت ستار سياسي واحد، وقد وقعت في سبيل ذلك ما تسميه الأدبيات التاريخية الوهّابية بـ"الغزوات" في شتى أجزاء ومناطق نجد وشرق الجزيرة العربية[4].
يسوق ابن غنّام في تاريخه الشروط التي اتفق عليها كل من ابن سعود وابن عبد الوهاب عند قيام حركتهما التي سرعان ما أتت بثمارها في إقامة دولة لها مظاهر السيادة والقوة في قلب الجزيرة العربية، يقول: "قال له (ابن سعود): يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شكّ فيه، فأبشر بالنُّصرة لك، ولما أمرتَ به، والجهاد لمن خالف التوحيد، ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين: نحن إذا قمنا في نصرتك، والجهاد في سبيل الله، وفتح الله لنا ولك البلدان، أخاف أن ترتحل عنّا وتستبدل بنا غيرنا؛ والثانية: أن لي على الدرعية قانونا (إتاوة) آخذه منهم في وقت الثمار، وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئا. فقال الشيخ: أما الأولى فابسُط يدك: الدم بالدم والهدم بالهدم؛ وأما الثانية فلعلّ الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوّضك الله من الغنائم ما هو خير منهم"[5].
ومنذ العام 1744م تبدأ شمس الدولة السعودية الأولى في البزوغ، ولمدة نصف قرن أو يزيد تتوسّع هذه الدولة حدًّا أقلق العثمانيين والإنجليز والأشراف في الحجاز وبني خالد زعماء الأحساء وشرق الجزيرة العربية وآل رشيد في حائل، فضلا عن شيوخ العشائر والمشيخات في البحرين والكويت وقطر وعُمان وإمارات الساحل؛ فقد أخضع السعوديون معظم تلك المناطق لنفوذهم في الدولة الأولى، بل وبلغت هجمات تلك الدولة إلى البصرة وكربلاء في العراق، وبادية الشام في الجنوب السوري اليوم، بل تمكنوا من أخذ الطائف ومكة لوقت قصير مما جر عليهم استياء الجميع[6].
الجيش المصري يسقط آل سعود!
من وجهة النظر العثمانية كانت الجزيرة العربية تُدار بصورة منظّمة ومحدّدة منذ سيطرة العثمانيين على مناطق الجزيرة العربية في القرن السادس عشر الميلادي، فمنطقة شمال شرق الجزيرة العربية كانت تُدار من قِبل أمير أمراء إيالة البصرة أو بغداد، وشرق الجزيرة العربية كان يُدار من قِبل أمير أمراء إيالة الأحساء وهم بنو خالد منذ القرن السابع عشر الميلادي، وفي الجانب الغربي من الجزيرة العربية كان الأشراف من سلالة بني هاشم يتولون الإدارة ومناقدين للدولة العثمانية أيضا، وكل والٍ تركي أو عربي تابع للعثمانيين كان يراقب الأمراء والشيوخ المحليين، وطالما كان محمد بن سعود أمير الدرعية في نظر السياسة العثمانية أحد الموظفين المحليين التابعين لإيالة الأحساء[7].
الأخطر في نظر السياسة العثمانية أن السعوديين، أو كما كانوا يُسمون "الوهابيين"، توسّعوا في مناطق الدولة العثمانية وولاياتها، بما يعني أنهم لم يكونوا يعترفون بسياسة العثمانيين الدينية، وقد تمكن الوهابيون من الوصول إلى عمق العراق، وهي الولاية الأهم في السياسة العثمانية، بعد هجومهم على البصرة والزبير وكربلاء وصلت دعوتهم وبنادقهم إلى سامراء، لذلك قرر الوالي العثماني في بغداد علي باشا سنة 1804م الاشتباك مع الأمير السعودي في مدينة الحلة والقضاء عليه، وظل ينتظره حتى أوائل سنة 1805م، لكنّ السعوديين جاءوا متأخرين بعد انسحاب الحملة العثمانية وانطلقوا إلى سامراء لتأديب أهلها الذين عادوا إلى الولاء والبيعة للعثمانيين من جديد، وظلت هجماتهم في العراق والشام وشرق الجزيرة العربية مشكلة مزمنة تهدد الدولة العثمانية[8].
كان لهذا التوسع، وهدم قبور الصحابة في نجد وغيرها، وعدم الاعتراف بسيادة الدولة العثمانية أثره في إصدار السلطان العثماني محمود الثاني أوامره لأقوى الولاة العثمانيين في الأقطار العربية؛ أي لمحمد علي باشا والي مصر بمواجهة السعوديين وتدمير دولتهم واقتحام عاصمتهم الدرعية، وفي أواخر سنة 1811م بدأت الحملات المصرية بالفعل بقيادة إبراهيم باشا بن محمد علي وأخيه طوسون في التحضير والهجوم على الدولة السعودية الأولى، وبالفعل تمكنا من القضاء عليها بعد ست سنوات كاملة، واستطاع إبراهيم باشا أسر آخر حكام تلك الدولة الأمير عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود والمجيء به إلى القاهرة سنة 1818م مكبّلا في أغلاله ليلتقيه محمد علي باشا بالحفاوة والترحاب، ويأمر بإرساله إلى إسطنبول التي أنزلت فيه عقوبة الإعدام الفورية، وبذلك أُسدل الستار على الدولة السعودية الأولى[9].
قدّر المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي المعاصر لتلك الأحداث عدد المأسورين من آل سعود شيوخا وشبابا ونساء وأطفالا ممن رآهم في القاهرة بأربعمئة شخص، وتم التحفظ عليهم في منطقة الأزبكية منها، لكن سرعان ما تهاوت قبضة محمد علي، وبدأ هؤلاء في الاختلاط بأهل مصر، والخروج لشراء حاجياتهم[10]. لذلك استطاع أحد أفراد آل سعود وهو مشاري بن سعود بن محمد آل سعود الهرب من المعسكر المصري والعودة إلى الدرعية التي فيها عمل على إعادة إحياء دولة آل سعود، بل وتمكن من التوسع في مناطق نجد الأخرى مثل حريملاء والوشم ووصل إلى سدير والسلمية واليمامة والدلم.
غير أن أكبر قوة كانت تتمركز في شرق الجزيرة العربية في منطقة الأحساء وهم بنو خالد الأعداء القدامى لآل سعود اتفقوا مع أشراف الحجاز على إرسال شكاية مشتركة إلى العثمانيين الذين كانوا يعترفون بسيادتهم، من خلال محمد علي باشا والي مصر يحذّرونهم من مغبة توسع السعوديين من جديد، وحينها باغتت قوة بقيادة محمد بن مشاري آل معمر الذي كان قد استولى على الدرعية بعد هزيمة السعوديين على يد المصريين، وكان قد هُزم على يد مشاري آل سعود حين عودته من مصر، هذه القوة تمكنت هذه المرة من القبض على مشاري بغتة وأسره وإرساله إلى مصر حيث مات في الطريق[11]، ثم تحركت إلى مدينة الرياض للقبض على واليها تركي بن عبد الله بن محمد آل سعود، لكن تركي استطاع الهرب، بل ومباغتة قوات آل معمر، وفي نهاية المطاف القبض عليه وتحرير الدرعية.
الدولة السعودية الثانية
عادت القوات المصرية من جديد إلى نجد ولم يستطع تركي أن يواجه جيشا على قدر من الاحترافية والقوة العسكرية الكبيرة كالجيش المصري، فآثر أسلوب الكر والفر، وحين خرجت القوات المصرية عاد تركي، واتحد مع عدد من أمراء وشيوخ قبائل نجد الذين آزروا ونصروا الدولة الأولى حيث استطاع إخراج القوات المصرية التركية من الرياض، وحينها قرر أن يتخذ من المدينة عاصمة له بدلا من الدرعية العاصمة القديمة، فقد كانت أفضل تحصينا وقوة، ومنها أعلن الحرب في نجد، ثم قرر مواجهة أكبر أعدائه بني خالد الذين التقاهم في معركة فاصلة عُرفت باسم معركة "السبية" في شرق الجزيرة العربية، وسُميت بذلك لكثرة ما وقع فيها من السبي والأغنام.
يقول ابن بشر في تاريخه عن هذه المعركة التي استمرت لعدة أسابيع طوال شهرين: "صبر الفريقان، وثارت نيران العزائم العدية، فدارت بين الطائفتين كؤوس المنية، وعمل أهل البنادق والمتارس بالحجارة، وتعاقبت الفرسان بينهم كأطيف الطارة، وأظلم الجو من وقع سنابك الخيل ودخان البارود، وتحير الجبان، وأيقن أنه اليوم الموعود"[12].
كان لانتصار تركي آل سعود على بني خالد في معركة السبية في رمضان 1245م/مارس (آذار) 1830م آثار كبيرة على دولة آل سعود الثانية، فقد ترتب على ذلك ضم الأحساء والقطيف والبحرين إلى الدولة السعودية، وجاء شيوخ رأس الخيمة وسلطان عمان مبايعين لتركي، ومعترفين بدولته الجديدة التي أخذت من الغنائم والعتاد ما أضاف إليها قوة فوق قوتها السابقة[13].
كان لهذا التوسع والقوة التي أحرزها تركي الأول آل سعود وقع الصدمة والحقد في نفوس المنافسين والأعداء المحيطين، ولكونهم لم يستطيعوا التخلّص منه في معركة عسكرية فاصلة، فقد لجأوا إلى أسلوب آخر، ففي مايو/أيار 1834م وأثناء خروج تركي من باب جانبي بعد صلاة الجمعة في عاصمته الرياض أحاط به ثلاثة أشخاص مجهولين، وأشهر أحدهم فوّهة مسدّسه نحوه وأطلق النار فأرداه قتيلا، وبسبب مقتله استمرت الاضطرابات القبلية في نجد لمدة تسع سنوات، وقد خلفه في حكم نجد ابنه فيصل الذي حاول الاستمرار في مسيرة والده في حكم نجد وشرق الجزيرة العربية وحتى عُمان، إلا أن إمارة جبل شمّر التابعة لآل الرشيد كانت تنسج المؤامرات، وتمد القوات المصرية في المدينة المنورة بآخر أخبار فيصل، بل وتعينهم بالمدد والجمال للقيام بحملة عسكرية جديدة تُزيح آل سعود عن نجد نهائيا[14].
وبالفعل، في يوليو/تموز 1836م بدأت الحملة المصرية العسكرية الجديدة ضد حكم فيصل بن تركي الأول آل سعود، وكان مع الحملة هذه المرة أحد رجالات آل سعود الموالين للمصريين وهو خالد آل سعود الذي كان من جملة أسرى السعوديين في الحملة المصرية، ولكن لم يقع عليه حُكم الإعدام كما وقع لأخيه عبد الله، وقد كان صنيعة محمد علي باشا، وسرعان ما انهزمت قوات فيصل وتقهقرت أمام المصريين من جديد ليتولى خالد آل سعود بصورة مؤقتة حكم تلك المناطق بما فيها الرياض إيثارا من الأهالي للسلامة لا سيما بعد الهزيمة المفجعة التي سقطت فيها الدولة السعودية الأولى على يد قوات إبراهيم باشا بن محمد علي، وما أحدثته في نفوسهم من ترويع إثر التدمير الشنيع لبلدتهم الدرعية، كما استطاعت الحملة أسر فيصل بن تركي حيث أُخذ سجينا إلى القاهرة وبقيت نجد في يد الحكم المصري منذ ذلك التاريخ وحتى عام 1840م حينها غادر المصريون المنطقة ولم يعودوا إليها مرة أخرى بسبب علاقة محمد علي باشا التي كانت تسوء مع الدولة العثمانية لا سيما بعد خروجه مقهورا من سورية[15].
في العام 1843م هرب فيصل من القاهرة، ويرجح عدد من المؤرخين أن هروبه كان بمساعدة عباس باشا حفيد محمّد علي؛ لأن المصريين رأوا أن وجود إمارة مستقلة في قلب نجد وسط الجزيرة العربية يجعلها خصما للدولة العثمانية، ولعبت المصالح السياسية دورها، فأعداء الأمس أصبحوا في نظر السياسة المصرية أصدقاء اليوم، وقد استطاع فيصل بالفعل استعادة كافة المناطق التي كانت خاضعة له، بمساعدة من آل رشيد الذين فضّلوا وجود فيصل بن تركي الأول آل سعود في نجد على أن تعود السيطرة للمصريين مرة أخرى، والذين كانوا يرون آل رشيد أقل أهمية وشأنا من آل سعود[16].
تقنيات الحكم السعودي
تمكّن فيصل من توسيع دولته في شمال وجنوب شرق الجزيرة العربية في مناطق العجمان والبحرين وحتى عُمان، وفي الجنوب في وادي الدواسر والأفلاج وعلى مدار عشرين سنة استطاع توحيد هذه المنطقة الشاسعة، والسيطرة عليها، وإخضاع التمردات والقلاقل التي واجهها من القبائل الكبيرة لا سيما عنيزة في القصيم والعجمان على حدود الكويت وشرق الجزيرة العربية.
كان العامل الأهم والأبرز في عودة القوة للسعوديين من جديد اعتمادهم على أيديولوجية الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ فقد كانت دعوته ومؤلفاته وأفكاره منتشرة وترسّخ وجودها لدى قطاعات كبيرة من الحاضنة الشعبية في بلاد نجد، ولم يكن من الصعوبة أن يستعين تركي وابنه فيصل آل سعود بهذه الحاضنة في استعادة قوة الدولة السعودية من جديد.
كذلك أخذ الأمير فيصل من حادثة مقتل والده الأمير تركي العبرة؛ فقد حرص على تنشيط جهاز المخابرات الخاص به، لا سيما وأن دولة أبيه التي ناضل لأجل بزوغها مرة أخرى كانت لا تزال تواجه أعداء من كل مكان، وقد بلغ هذا الجهاز مبلغا من القوة لفت انتباه الرحالة والجاسوس البريطاني بالجريف الذي رأى أن منظومة التجسس "الوهّابية" "تفوقت على المنظومة التي أنشأها تايبيريوس"[17] قيصر روما!
الأمر الثاني الأشد أهمية في تدعيم السلطة السياسية للدولة السعودية الثانية آنذاك وتقويتها بالمنظومة الأيديولوجية والدينية الوهابية في زمن الأمير فيصل (1843- 1865م) تمثّل في استحداث فرقة "المطاوعة"، وهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وظل لآل الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفوذهم في المسألة الدينية والأيديولوجية للدولة.
كان وباء الكوليرا الذي اجتاح نجد في سنوات 1854/1855م قد حصد أرواح الآلاف من الناس، ورأى فيصل أن الوباء كان في وجه من وجوهه عقوبة إلهية على تساهل الناس في دينهم، فبسبب اختلاطهم بالطوائف العسكرية من الأرناؤوط والمغاربة وغيرهم من الذين جاءوا مع الحكم المصري لنجد، كان الناس -كما رأى فيصل- قد بدأوا يتخلون تدريجيا عن التمسك بما التزموا به في الدولة السعودية الأولى التي سارت على نهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومبادئه الدينية، فكانت وظيفة المطاوعة الأساسية عقاب المجاهرين بالمعاصي، والمتغيبين عن صلاة الجماعة، والشاربين للدخان، وقد لاحظ الرحّالة بالجريف أثر المطاوعة على المجتمع النجدي، وهو أثر -كما رآه- إيجابي أدى إلى الانضباط، وهدوء الأوضاع السياسية.
يقول: "ومع تخويل هؤلاء "المطيعية" مثل هذه السلطات، ومع دعم الحكومة الكامل لهم، يمكن القول إن المكنسة الجديدة بدأت تكنس جيدا، وأن تنظيم المطيعية الجديد ترتّب عليه الكثير من الأعمال الناجحة، ولم يعد المنصب حماية لصاحبه، ولم يعد المحتد ملجأ لصاحبه، بل إن المطيعية ضربوا جلوى شقيق الملك فيصل وهو على باب قصر الملك لأنه كان يُدخّن التبغ، ولم يستطع جلالته التدخّل لإنقاذ أخيه وهو في سن الخمسين من خزي وعار لا يطاق حتى في سن الخامسة عشر"[18].
بيد أن الركن الأهم الذي اتكأت عليه الدولة السعودية الثانية اهتمامها بالجانب العسكري، وفي هذا الجانب فقد حرص فيصل على إشراك كافة القبائل التي كانت تخضع لحكم السعوديين بأنصبة وأرقام مُحدّدة في حالة الحرب، وهو التنظيم العسكري الذي اتخذته الدولة السعودية الأولى (1744- 1818م) وأثبت نجاحه في توسع هذه الدولة.
كانت تلك الأرقام تُدوّن في سجلات تعتبر كذلك أساسا لجباية الزكاة، وعندما يصدر الأمير أمرا بالتعبئة يخبر الحكّام المحليين بعدد المحاربين الذين يحتاج إليهم، بينما يتحمّل هؤلاء الحكّام مسؤولية جمعهم وتموينهم، وكان المحاربون يأتون مع سلاحهم الخاص وماشيتهم، وكانت كل قبيلة أو مدينة تُشكّل في العساكر السعودية وحدة خاصّة لها رايتها، وعندما تنتهي الحملة يجري حل العساكر كلها، ويعود الجميع إلى بلدانهم، وكان للأمير فيصل حرس شخصي دائم مكون من 200 عبد ومعتوق، كانوا يمارسون أيضا مهام الشرطة عند الاقتضاء.
وبهذا التنظيم العسكري الذي ترسّخ عند سكان نجد والمناطق التابعة للحكم السعودي، استطاعت الدولة تحقيق الاستقرار السياسي والتقدم العسكري في زمن الأمير فيصل الذي أثبت قدرة عسكرية وسياسية لافتة، يرجعها بعض المؤرخين إلى تجربته التي مرّ بها، وحياة الأسْر التي تعرّض لها في مصر، وقد عرف أثناءها مواقع القوى الإقليمية والدولية في زمنه[19].
وهكذا تمكّن فيصل من ترسيخ أقدام دولته الجديدة، ودولة آبائه بعد عرق ودماء، ومواجهة مع العثمانيين أصحاب الشرعية الدينية والسياسية في الأقطار العربية حينها، بيد أن توسّع هذه الدولة وإن لم يكن يُعجب العثمانيين الذين واجهوه بالقوة العسكرية المصرية بقيادة محمد علي وأبنائه، فإنه في المقابل لم يكن يُعجب الإنجليز الذين كانوا قد بلغوا مرحلة الإمبراطورية في تلك الحقبة، وكانت مياه الخليج وأرضه تقع ضمن مصالحهم الإستراتيجية، فكيف كانت علاقة الإنجليز بآل سعود في القرن التاسع عشر الميلادي مع الدولة الثانية السعودية؟ وهل ثمة اتفاق أو صدام وقع بين الجانبين آنذاك؟ وما أسبابه؟ هذا ما سنتعرّف عليه في تقريرنا القادم.
دولة الدعوة!
هكذا يروي عثمان بن بشر في تاريخه، وهو من تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والمعاصر لقيام الدولة السعودية الأولى في نجد وتوسّعاتها في زمن مؤسسيها الأوائل حتى عصر سعود وابنه عبد الله آخر حكّامها، يروي العلاقة التي جمعت بين الأمير والشيخ، وهي للحق علاقة أعادت اكتشاف نفسها في قلب الجزيرة العربية، وفي كبوة من التاريخ العثماني، وهي لحظة كان لها ما بعدها في تاريخ الجزيرة العربية الحديث.
في بلدة العُيينة الواقعة على مسافة 35 كم شمالي الرياض في قلب نجد، وفي عام 1115هـ/1704م ولد محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي في بيت علم وقضاء، فوالده عبد الوهاب بن سليمان التميمي كان قاضيا لتلك البلدة، فنشأ ابنه محمد محبا للعلم، طالبا له، فارتحل لأجله إلى مكة والمدينة والبصرة والشام والأحساء ثم عاد إلى حُريملاء بلدة شمال الرياض كان والده قد سكنها في أواخر عُمره، وفي كل من تلك الأسفار قرأ ابن عبد الوهاب علوم القرآن الكريم والفقه على المذهب الحنبلي، وتكوّن لديه في نهاية المطاف حصيلة علمية قوية، أهَّلته لنشر أفكاره بين الناس، وبدأ يشيع أمره في منطقة العارض في نجد لا سيما حريملاء والعُيينة والدرعية والرياض ومنفوحة، وأصبح للرجل مريدون "اقتدوا به، واتبعوا طريقه، ولازموه"[2].
كان ابن عبد الوهاب يعيب على مجتمعه استحلاله لكثير من الأشياء التي رآها من صميم المحرّمات، مع عدم وجود قوة تردع ما رآه "منكرات" أعادت إلى الأذهان بعضا من صفات الجاهلية الأولى؛ لا سيما التبرّك بالشجر والحجر، الذي عدّه شركا يستلزم الوقوف أمامه، وحين تدخل ابن عبد الوهاب لإزالة ما رآه منكرا بيديه مع مريديه في حريملاء فقد بدأت حينها المشكلات تطل برأسها، الأمر الذي اضطر معه لترك المدينة.
انتقل الرجل من حريملاء إلى العُيينة، وبدأت تتمخض في رأسه ضرورة قيام سلطة تحقق "الشرع الغائب" على أرض الواقع، وفي العُيينة عرض على رئيسها عثمان بن معمّر الذي ناسبه وتزوّج ابنته، عرض عليه اتباع دعوته ومذهبه، وبالفعل قبل ابن معمر هذه الدعوة، وبدأ في هدم القباب والأضرحة؛ فقد كان ابن عبد الوهاب يراها رموزا للبدع والشركيات، الأمر الذي جرّ عليه شكايات الناس وسخط بني خالد زعماء الأحساء الذين كانوا يدينون بالولاء السياسي للدولة العثمانية في منطقة شرق الجزيرة العربية وتوابعها في نجد، فاضطر ابن عبد الوهاب إلى الهرب من العُيينة إلى الدرعية وفيها التقى بمحمد بن سعود وبدأت قصة جديدة في تاريخ الجزيرة العربية.
قامت الدولة السعودية الأولى على أساس من العلاقة التاريخية المتأصّلة في الاجتماع السياسي الإسلامي، وهي علاقة الفقيه بالسلطان، فالفقيه يؤصّل الوجهة الدينية والأيديولوجية للدولة الجديدة، والسلطان يمضي بسيفه لتحقيق هذه الرؤية، يقول ابن غنّام في "تاريخ نجد":
"بقي الشيخ (ابن عبد الوهاب) بيده الحلّ والعقد، والأخذ والإعطاء، والتقديم والتأخير، ولا يركب جيش، ولا يصدر رأي من محمد بن سعود ولا من ابنه عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه. فلما فتح الله الرياض، واتسعت ناحية الإسلام، وأمنت السُّبل، وانقاد كل صعب من بادٍ وحاضر، جعل الشيخ الأمر بيد عبد العزيز بن محمد بن سعود، وفوّض أمور المسلمين وبيت المال إليه، وانسلخ منها، ولزم العبادة وتعليم الناس، ولكنّ عبد العزيز لم يكن يقطع أمرا دونه، ولا يُنفِّذه إلا بإذنه"[3].
تتجلى تلك الحقيقة في البيعة المتبادلة بين محمـد بن سعود ومحمـد بن عبد الوهاب اللذين سعيا منذ اللحظة الأولى لمحاربة مظاهر "الشرك" -كما رآها ابن عبد الوهاب- في الجزيرة العربية، وإقامة شرع الله وفق الرؤية المذهبية الحنبلية، وتوحيد القبائل والعشائر المتناحرة تحت ستار سياسي واحد، وقد وقعت في سبيل ذلك ما تسميه الأدبيات التاريخية الوهّابية بـ"الغزوات" في شتى أجزاء ومناطق نجد وشرق الجزيرة العربية[4].
يسوق ابن غنّام في تاريخه الشروط التي اتفق عليها كل من ابن سعود وابن عبد الوهاب عند قيام حركتهما التي سرعان ما أتت بثمارها في إقامة دولة لها مظاهر السيادة والقوة في قلب الجزيرة العربية، يقول: "قال له (ابن سعود): يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شكّ فيه، فأبشر بالنُّصرة لك، ولما أمرتَ به، والجهاد لمن خالف التوحيد، ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين: نحن إذا قمنا في نصرتك، والجهاد في سبيل الله، وفتح الله لنا ولك البلدان، أخاف أن ترتحل عنّا وتستبدل بنا غيرنا؛ والثانية: أن لي على الدرعية قانونا (إتاوة) آخذه منهم في وقت الثمار، وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئا. فقال الشيخ: أما الأولى فابسُط يدك: الدم بالدم والهدم بالهدم؛ وأما الثانية فلعلّ الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوّضك الله من الغنائم ما هو خير منهم"[5].
ومنذ العام 1744م تبدأ شمس الدولة السعودية الأولى في البزوغ، ولمدة نصف قرن أو يزيد تتوسّع هذه الدولة حدًّا أقلق العثمانيين والإنجليز والأشراف في الحجاز وبني خالد زعماء الأحساء وشرق الجزيرة العربية وآل رشيد في حائل، فضلا عن شيوخ العشائر والمشيخات في البحرين والكويت وقطر وعُمان وإمارات الساحل؛ فقد أخضع السعوديون معظم تلك المناطق لنفوذهم في الدولة الأولى، بل وبلغت هجمات تلك الدولة إلى البصرة وكربلاء في العراق، وبادية الشام في الجنوب السوري اليوم، بل تمكنوا من أخذ الطائف ومكة لوقت قصير مما جر عليهم استياء الجميع[6].
الجيش المصري يسقط آل سعود!
من وجهة النظر العثمانية كانت الجزيرة العربية تُدار بصورة منظّمة ومحدّدة منذ سيطرة العثمانيين على مناطق الجزيرة العربية في القرن السادس عشر الميلادي، فمنطقة شمال شرق الجزيرة العربية كانت تُدار من قِبل أمير أمراء إيالة البصرة أو بغداد، وشرق الجزيرة العربية كان يُدار من قِبل أمير أمراء إيالة الأحساء وهم بنو خالد منذ القرن السابع عشر الميلادي، وفي الجانب الغربي من الجزيرة العربية كان الأشراف من سلالة بني هاشم يتولون الإدارة ومناقدين للدولة العثمانية أيضا، وكل والٍ تركي أو عربي تابع للعثمانيين كان يراقب الأمراء والشيوخ المحليين، وطالما كان محمد بن سعود أمير الدرعية في نظر السياسة العثمانية أحد الموظفين المحليين التابعين لإيالة الأحساء[7].
الأخطر في نظر السياسة العثمانية أن السعوديين، أو كما كانوا يُسمون "الوهابيين"، توسّعوا في مناطق الدولة العثمانية وولاياتها، بما يعني أنهم لم يكونوا يعترفون بسياسة العثمانيين الدينية، وقد تمكن الوهابيون من الوصول إلى عمق العراق، وهي الولاية الأهم في السياسة العثمانية، بعد هجومهم على البصرة والزبير وكربلاء وصلت دعوتهم وبنادقهم إلى سامراء، لذلك قرر الوالي العثماني في بغداد علي باشا سنة 1804م الاشتباك مع الأمير السعودي في مدينة الحلة والقضاء عليه، وظل ينتظره حتى أوائل سنة 1805م، لكنّ السعوديين جاءوا متأخرين بعد انسحاب الحملة العثمانية وانطلقوا إلى سامراء لتأديب أهلها الذين عادوا إلى الولاء والبيعة للعثمانيين من جديد، وظلت هجماتهم في العراق والشام وشرق الجزيرة العربية مشكلة مزمنة تهدد الدولة العثمانية[8].
كان لهذا التوسع، وهدم قبور الصحابة في نجد وغيرها، وعدم الاعتراف بسيادة الدولة العثمانية أثره في إصدار السلطان العثماني محمود الثاني أوامره لأقوى الولاة العثمانيين في الأقطار العربية؛ أي لمحمد علي باشا والي مصر بمواجهة السعوديين وتدمير دولتهم واقتحام عاصمتهم الدرعية، وفي أواخر سنة 1811م بدأت الحملات المصرية بالفعل بقيادة إبراهيم باشا بن محمد علي وأخيه طوسون في التحضير والهجوم على الدولة السعودية الأولى، وبالفعل تمكنا من القضاء عليها بعد ست سنوات كاملة، واستطاع إبراهيم باشا أسر آخر حكام تلك الدولة الأمير عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود والمجيء به إلى القاهرة سنة 1818م مكبّلا في أغلاله ليلتقيه محمد علي باشا بالحفاوة والترحاب، ويأمر بإرساله إلى إسطنبول التي أنزلت فيه عقوبة الإعدام الفورية، وبذلك أُسدل الستار على الدولة السعودية الأولى[9].
قدّر المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي المعاصر لتلك الأحداث عدد المأسورين من آل سعود شيوخا وشبابا ونساء وأطفالا ممن رآهم في القاهرة بأربعمئة شخص، وتم التحفظ عليهم في منطقة الأزبكية منها، لكن سرعان ما تهاوت قبضة محمد علي، وبدأ هؤلاء في الاختلاط بأهل مصر، والخروج لشراء حاجياتهم[10]. لذلك استطاع أحد أفراد آل سعود وهو مشاري بن سعود بن محمد آل سعود الهرب من المعسكر المصري والعودة إلى الدرعية التي فيها عمل على إعادة إحياء دولة آل سعود، بل وتمكن من التوسع في مناطق نجد الأخرى مثل حريملاء والوشم ووصل إلى سدير والسلمية واليمامة والدلم.
المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي
غير أن أكبر قوة كانت تتمركز في شرق الجزيرة العربية في منطقة الأحساء وهم بنو خالد الأعداء القدامى لآل سعود اتفقوا مع أشراف الحجاز على إرسال شكاية مشتركة إلى العثمانيين الذين كانوا يعترفون بسيادتهم، من خلال محمد علي باشا والي مصر يحذّرونهم من مغبة توسع السعوديين من جديد، وحينها باغتت قوة بقيادة محمد بن مشاري آل معمر الذي كان قد استولى على الدرعية بعد هزيمة السعوديين على يد المصريين، وكان قد هُزم على يد مشاري آل سعود حين عودته من مصر، هذه القوة تمكنت هذه المرة من القبض على مشاري بغتة وأسره وإرساله إلى مصر حيث مات في الطريق[11]، ثم تحركت إلى مدينة الرياض للقبض على واليها تركي بن عبد الله بن محمد آل سعود، لكن تركي استطاع الهرب، بل ومباغتة قوات آل معمر، وفي نهاية المطاف القبض عليه وتحرير الدرعية.
الدولة السعودية الثانية
عادت القوات المصرية من جديد إلى نجد ولم يستطع تركي أن يواجه جيشا على قدر من الاحترافية والقوة العسكرية الكبيرة كالجيش المصري، فآثر أسلوب الكر والفر، وحين خرجت القوات المصرية عاد تركي، واتحد مع عدد من أمراء وشيوخ قبائل نجد الذين آزروا ونصروا الدولة الأولى حيث استطاع إخراج القوات المصرية التركية من الرياض، وحينها قرر أن يتخذ من المدينة عاصمة له بدلا من الدرعية العاصمة القديمة، فقد كانت أفضل تحصينا وقوة، ومنها أعلن الحرب في نجد، ثم قرر مواجهة أكبر أعدائه بني خالد الذين التقاهم في معركة فاصلة عُرفت باسم معركة "السبية" في شرق الجزيرة العربية، وسُميت بذلك لكثرة ما وقع فيها من السبي والأغنام.
يقول ابن بشر في تاريخه عن هذه المعركة التي استمرت لعدة أسابيع طوال شهرين: "صبر الفريقان، وثارت نيران العزائم العدية، فدارت بين الطائفتين كؤوس المنية، وعمل أهل البنادق والمتارس بالحجارة، وتعاقبت الفرسان بينهم كأطيف الطارة، وأظلم الجو من وقع سنابك الخيل ودخان البارود، وتحير الجبان، وأيقن أنه اليوم الموعود"[12].
كان لانتصار تركي آل سعود على بني خالد في معركة السبية في رمضان 1245م/مارس (آذار) 1830م آثار كبيرة على دولة آل سعود الثانية، فقد ترتب على ذلك ضم الأحساء والقطيف والبحرين إلى الدولة السعودية، وجاء شيوخ رأس الخيمة وسلطان عمان مبايعين لتركي، ومعترفين بدولته الجديدة التي أخذت من الغنائم والعتاد ما أضاف إليها قوة فوق قوتها السابقة[13].
كان لهذا التوسع والقوة التي أحرزها تركي الأول آل سعود وقع الصدمة والحقد في نفوس المنافسين والأعداء المحيطين، ولكونهم لم يستطيعوا التخلّص منه في معركة عسكرية فاصلة، فقد لجأوا إلى أسلوب آخر، ففي مايو/أيار 1834م وأثناء خروج تركي من باب جانبي بعد صلاة الجمعة في عاصمته الرياض أحاط به ثلاثة أشخاص مجهولين، وأشهر أحدهم فوّهة مسدّسه نحوه وأطلق النار فأرداه قتيلا، وبسبب مقتله استمرت الاضطرابات القبلية في نجد لمدة تسع سنوات، وقد خلفه في حكم نجد ابنه فيصل الذي حاول الاستمرار في مسيرة والده في حكم نجد وشرق الجزيرة العربية وحتى عُمان، إلا أن إمارة جبل شمّر التابعة لآل الرشيد كانت تنسج المؤامرات، وتمد القوات المصرية في المدينة المنورة بآخر أخبار فيصل، بل وتعينهم بالمدد والجمال للقيام بحملة عسكرية جديدة تُزيح آل سعود عن نجد نهائيا[14].
وبالفعل، في يوليو/تموز 1836م بدأت الحملة المصرية العسكرية الجديدة ضد حكم فيصل بن تركي الأول آل سعود، وكان مع الحملة هذه المرة أحد رجالات آل سعود الموالين للمصريين وهو خالد آل سعود الذي كان من جملة أسرى السعوديين في الحملة المصرية، ولكن لم يقع عليه حُكم الإعدام كما وقع لأخيه عبد الله، وقد كان صنيعة محمد علي باشا، وسرعان ما انهزمت قوات فيصل وتقهقرت أمام المصريين من جديد ليتولى خالد آل سعود بصورة مؤقتة حكم تلك المناطق بما فيها الرياض إيثارا من الأهالي للسلامة لا سيما بعد الهزيمة المفجعة التي سقطت فيها الدولة السعودية الأولى على يد قوات إبراهيم باشا بن محمد علي، وما أحدثته في نفوسهم من ترويع إثر التدمير الشنيع لبلدتهم الدرعية، كما استطاعت الحملة أسر فيصل بن تركي حيث أُخذ سجينا إلى القاهرة وبقيت نجد في يد الحكم المصري منذ ذلك التاريخ وحتى عام 1840م حينها غادر المصريون المنطقة ولم يعودوا إليها مرة أخرى بسبب علاقة محمد علي باشا التي كانت تسوء مع الدولة العثمانية لا سيما بعد خروجه مقهورا من سورية[15].
في العام 1843م هرب فيصل من القاهرة، ويرجح عدد من المؤرخين أن هروبه كان بمساعدة عباس باشا حفيد محمّد علي؛ لأن المصريين رأوا أن وجود إمارة مستقلة في قلب نجد وسط الجزيرة العربية يجعلها خصما للدولة العثمانية، ولعبت المصالح السياسية دورها، فأعداء الأمس أصبحوا في نظر السياسة المصرية أصدقاء اليوم، وقد استطاع فيصل بالفعل استعادة كافة المناطق التي كانت خاضعة له، بمساعدة من آل رشيد الذين فضّلوا وجود فيصل بن تركي الأول آل سعود في نجد على أن تعود السيطرة للمصريين مرة أخرى، والذين كانوا يرون آل رشيد أقل أهمية وشأنا من آل سعود[16].
تقنيات الحكم السعودي
تمكّن فيصل من توسيع دولته في شمال وجنوب شرق الجزيرة العربية في مناطق العجمان والبحرين وحتى عُمان، وفي الجنوب في وادي الدواسر والأفلاج وعلى مدار عشرين سنة استطاع توحيد هذه المنطقة الشاسعة، والسيطرة عليها، وإخضاع التمردات والقلاقل التي واجهها من القبائل الكبيرة لا سيما عنيزة في القصيم والعجمان على حدود الكويت وشرق الجزيرة العربية.
كان العامل الأهم والأبرز في عودة القوة للسعوديين من جديد اعتمادهم على أيديولوجية الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ فقد كانت دعوته ومؤلفاته وأفكاره منتشرة وترسّخ وجودها لدى قطاعات كبيرة من الحاضنة الشعبية في بلاد نجد، ولم يكن من الصعوبة أن يستعين تركي وابنه فيصل آل سعود بهذه الحاضنة في استعادة قوة الدولة السعودية من جديد.
كذلك أخذ الأمير فيصل من حادثة مقتل والده الأمير تركي العبرة؛ فقد حرص على تنشيط جهاز المخابرات الخاص به، لا سيما وأن دولة أبيه التي ناضل لأجل بزوغها مرة أخرى كانت لا تزال تواجه أعداء من كل مكان، وقد بلغ هذا الجهاز مبلغا من القوة لفت انتباه الرحالة والجاسوس البريطاني بالجريف الذي رأى أن منظومة التجسس "الوهّابية" "تفوقت على المنظومة التي أنشأها تايبيريوس"[17] قيصر روما!
الأمر الثاني الأشد أهمية في تدعيم السلطة السياسية للدولة السعودية الثانية آنذاك وتقويتها بالمنظومة الأيديولوجية والدينية الوهابية في زمن الأمير فيصل (1843- 1865م) تمثّل في استحداث فرقة "المطاوعة"، وهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وظل لآل الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفوذهم في المسألة الدينية والأيديولوجية للدولة.
كان وباء الكوليرا الذي اجتاح نجد في سنوات 1854/1855م قد حصد أرواح الآلاف من الناس، ورأى فيصل أن الوباء كان في وجه من وجوهه عقوبة إلهية على تساهل الناس في دينهم، فبسبب اختلاطهم بالطوائف العسكرية من الأرناؤوط والمغاربة وغيرهم من الذين جاءوا مع الحكم المصري لنجد، كان الناس -كما رأى فيصل- قد بدأوا يتخلون تدريجيا عن التمسك بما التزموا به في الدولة السعودية الأولى التي سارت على نهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومبادئه الدينية، فكانت وظيفة المطاوعة الأساسية عقاب المجاهرين بالمعاصي، والمتغيبين عن صلاة الجماعة، والشاربين للدخان، وقد لاحظ الرحّالة بالجريف أثر المطاوعة على المجتمع النجدي، وهو أثر -كما رآه- إيجابي أدى إلى الانضباط، وهدوء الأوضاع السياسية.
يقول: "ومع تخويل هؤلاء "المطيعية" مثل هذه السلطات، ومع دعم الحكومة الكامل لهم، يمكن القول إن المكنسة الجديدة بدأت تكنس جيدا، وأن تنظيم المطيعية الجديد ترتّب عليه الكثير من الأعمال الناجحة، ولم يعد المنصب حماية لصاحبه، ولم يعد المحتد ملجأ لصاحبه، بل إن المطيعية ضربوا جلوى شقيق الملك فيصل وهو على باب قصر الملك لأنه كان يُدخّن التبغ، ولم يستطع جلالته التدخّل لإنقاذ أخيه وهو في سن الخمسين من خزي وعار لا يطاق حتى في سن الخامسة عشر"[18].
بيد أن الركن الأهم الذي اتكأت عليه الدولة السعودية الثانية اهتمامها بالجانب العسكري، وفي هذا الجانب فقد حرص فيصل على إشراك كافة القبائل التي كانت تخضع لحكم السعوديين بأنصبة وأرقام مُحدّدة في حالة الحرب، وهو التنظيم العسكري الذي اتخذته الدولة السعودية الأولى (1744- 1818م) وأثبت نجاحه في توسع هذه الدولة.
كانت تلك الأرقام تُدوّن في سجلات تعتبر كذلك أساسا لجباية الزكاة، وعندما يصدر الأمير أمرا بالتعبئة يخبر الحكّام المحليين بعدد المحاربين الذين يحتاج إليهم، بينما يتحمّل هؤلاء الحكّام مسؤولية جمعهم وتموينهم، وكان المحاربون يأتون مع سلاحهم الخاص وماشيتهم، وكانت كل قبيلة أو مدينة تُشكّل في العساكر السعودية وحدة خاصّة لها رايتها، وعندما تنتهي الحملة يجري حل العساكر كلها، ويعود الجميع إلى بلدانهم، وكان للأمير فيصل حرس شخصي دائم مكون من 200 عبد ومعتوق، كانوا يمارسون أيضا مهام الشرطة عند الاقتضاء.
وبهذا التنظيم العسكري الذي ترسّخ عند سكان نجد والمناطق التابعة للحكم السعودي، استطاعت الدولة تحقيق الاستقرار السياسي والتقدم العسكري في زمن الأمير فيصل الذي أثبت قدرة عسكرية وسياسية لافتة، يرجعها بعض المؤرخين إلى تجربته التي مرّ بها، وحياة الأسْر التي تعرّض لها في مصر، وقد عرف أثناءها مواقع القوى الإقليمية والدولية في زمنه[19].
وهكذا تمكّن فيصل من ترسيخ أقدام دولته الجديدة، ودولة آبائه بعد عرق ودماء، ومواجهة مع العثمانيين أصحاب الشرعية الدينية والسياسية في الأقطار العربية حينها، بيد أن توسّع هذه الدولة وإن لم يكن يُعجب العثمانيين الذين واجهوه بالقوة العسكرية المصرية بقيادة محمد علي وأبنائه، فإنه في المقابل لم يكن يُعجب الإنجليز الذين كانوا قد بلغوا مرحلة الإمبراطورية في تلك الحقبة، وكانت مياه الخليج وأرضه تقع ضمن مصالحهم الإستراتيجية، فكيف كانت علاقة الإنجليز بآل سعود في القرن التاسع عشر الميلادي مع الدولة الثانية السعودية؟ وهل ثمة اتفاق أو صدام وقع بين الجانبين آنذاك؟ وما أسبابه؟ هذا ما سنتعرّف عليه في تقريرنا القادم.
المصادر
1-ابن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد 1/42
2-ابن غنام: تاريخ نجد ص83، 84
3-ابن غنام: تاريخ نجد ص90
4-المصدر السابق، فصل الغزوات
5-ابن غنام: السابق ص87
6-عنوان المجد في تاريخ نجد 1/300- 307
7-الدولة العثمانية المجهولة ص379، 380
8-ج. لوريمر: دليل الخليج 3/1608
9-الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار 3/600
10-الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار 3/603.
11-الجبرتي: السابق 3/628
12-ابن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد 2/73
13المصدر السابق
14أليكسي فاسيليف: تاريخ العربية السعودية ص223
15-المصدر السابق
16-محمد جلال كشك: السعوديون والحل الإسلام
17-وليام بالجريف: وسط الجزيرة العربية وشرقها 1/463
18-المصدر السابق 1/471.
19-فاسيليف: تاريخ العربية السعودية ص245، 246.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق