عالم جنون العظمة الذي يعيش فيه عبد الفتاح السيسي
ديفيد هيرست
"كونك مصابا بجنون العظمة (البارانويا) لا يعني أنهم لا يتربصون بك".
بعد سبعة وخمسين عاما على تأليف جوزيف هيلر لروايته الكلاسيكية المناهضة للحربCatch 22، تصلح هذه العبارة لأن تكون شعارا للرجل الذي يدير مصر الآن.
لقد أضحت "البارانويا" أكثر من مجرد حالة ذهنية للضابط الذي كان ذات مرة يتذلل إرضاء لرؤسائه، والذي بات الآن يتصرف كما لو كان يملك سلطة الحياة والموت على الجميع. ذلك هو الأسلوب الذي ينهجه عبد الفتاح السيسي اليوم في الحكم.
تعني حالة Catch 22 التالي: "ينبغي علي أن ألقي القبض على المزيد ثم المزيد ممن حولي من الناس؛ لأنني إذا لم أفعل ذلك فسوف يتمكن أحدهم من الوصول إلي، فذلك هو بالضبط ما فعلته أنا برئيسي."
"ولكنني كلما ألقيت القبض على المزيد من الناس، كلما زادت احتمالات أن يصل أحدهم إلي. أعلم أن البارانويا شكل من أشكال الجنون، ولكنني أعقل من أن أشعر بأنني مصاب بها."
أحدث حالات البارانويا لدى السيسي تتمثل في جمال وعلاء مبارك، نجلي حسني مبارك. ولقد عبر عن الموقف الرسمي تجاه هذا الموضوع ياسر رزق، رئيس تحرير صحيفة الأخبار التابعة للدولة، حين كتب يقول إن جمال كان "يبرم اتفاقا مع جماعة الإخوان المسلمين."
رغم تعرض أفرادها للسجن والتشريد، وتعرضها هي للانقسام، إلا أن النظام يبقي جماعة الإخوان المسلمين حية داخل آلة الغزل التابعة له، فيضفي عليها بذلك قوة لا تحظى بها في واقع الأمر، ويقدم لها صورة كما لو كانت اليد الشيطانية التي تقف وراء كل ما تعانيه مصر من مصائب.
خذ على سبيل المثال تغطية وسائل الإعلام المصرية الرسمية لخبر وفاة السيناتور الجمهوري الراحل جون ماكين، التي وصفته بأنه "المرشد الحقيقي لجماعة الإخوان المسلمين"، الذي يتمتع داخل الجماعة بنفوذ أكبر، حتى من ذلك الذي يملكه داخلها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني.
كان التفسير الأكثر احتمالا لاعتقالهما، هو ما ورد من المعسكر الموالي للجنرال والمرشح الرئاسي السابق سامي عنان، والمسجون حاليا. فطبقا لما صرح به بهي الدين حسن كان حسني مبارك قد حُذر وأنذر بقوة أن عليه أن يبقي نجليه بعيدا عن ممارسة السياسة، إلا أنهما لم ينصاعا، فصدر الأمر للمحاكم بأن تقوم باللازم تجاههما.
قائمة طويلة
لقد انضم نجلا مبارك إلى قائمة متنامية من أعداء السيسي، فمن المعسكر الليبرالي هناك محمد البرادعي، وكذلك الكوميدي باسم يوسف الذي يعيش في المنفى في لوس أنجلوس، ومن المعسكر اليساري هناك خالد علي ومعصوم مرزوق وحمدين صباحي، الذي ما يزال حرا طليقا، ولكن رفعت ضده شكاوى قضائية.
ومن النشطاء الشباب، هناك هيثم محمدين وشادي الغزالي حرب. وهناك من حركة السادس من إبريل أحمد ماهر، ومحمد عادل، وإسراء عبد الفتاح. ومن العسكر هناك سامي عنان وأحمد شفيق. ومن الجهاز البيروقراطي هناك هاشم جنينة، ومن الكتاب فاطمة ناعوت، ومن نواب البرلمان أنور السادات.
ليس أي من هؤلاء من الإسلاميين، بل وكثيرون منهم أيدوا الانقلاب ضد الرئيس السابق محمد مرسي الذي ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين.
ولا يستثنى من ذلك الأصدقاء وأفراد العائلات. فقد طرد محمود حجازي من منصبه كرئيس لهيئة الأركان وذلك على الرغم من أن أحد أبناء السيسي متزوج من ابنة حجازي، وكان المصير نفسه ينتظر وزير الدفاع الجنرال صدقي صبحي، رغم ما قيل عن أن منصبه كان محصنا.
مجموعة معارضة بمثل هذا التباين لا يكاد يوجد بين أفرادها مما هو مشترك سوى شيء واحد: قد تكون رحلاتهم بدأت تحت حكم السيسي في مواقع مختلفة، إلا أنهم جميعا انتهى بمهم المطاف في المكان نفسه: الإقامة الجبرية، السجن أو المنفى.
كلهم في لحظة الانقلاب العسكري أخفقوا في رؤية أن السيسي ما كان ليصدر عنه سوى مسار في اتجاه واحد. وذلك أنه بعد أن تخلص من الإسلاميين واليساريين واللبراليين، باتت مسألة وقت فقط قبل أن ينقض على أنصار النظام الذي يقوده.
نظرا لعجزه عن القيام بما هو صواب، بكونه شخصا فاقدا للشرعية، وتحديدا بناء تلك الشرعية من خلال إيجاد طبقة من رجال الأعمال والأحزاب والمؤسسات السياسية التي تستفيد من وجوده في السلطة، انطلق السيسي بعيدا في طريق الاستبداد والانعزال.
كلام خطير
إذا ما فتحت فاك في مصر فأنت تجازف بتعريض نفسك للاعتقال. أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي (السوشال ميديا) عبارة عن مصائد، حيث يمكن أن تدان بسبب صورة أو عبارة، ويقوم مجلس الإعلام التابع للدولة برصد الحسابات والمدونات التي يزيد عدد متابعيها عن خمسة ألاف شخص، بحثا عما يمكن أن يعتبر "أخبارا ملفقة، أو تحريضا على القيام بأعمال غير قانونية، أو تحريضا على العنف أو الكراهية."
منذ شهر ديسمبر (كانون الأول) وثقت منظمة العفو الدولية (أمنستي) اعتقال مائة وأحد عشر شخصا؛ بسبب التعبير عن الرأي أو المشاركة في مظاهرات سلمية. يواجه سبعون منهم أحكاما بالسجن تصل إلى خمسة عشر عاما.
في الثاني عشر من مايو (أيار)، ثم اللجوء إلى العنف في فض مسيرة احتجاجية ضد ارتفاع أجور قطار الأنفاق (الميترو)، وجرى اعتقال خمسة وثلاثين بتهمة المشاركة في "مظاهرة غير مرخصة"، وكذلك بتهمة "الانتماء إلى جماعة إرهابية".
وصفت ناجية بونعيم، مديرة الحملات الخاصة بشمال إفريقيا في منظمة العفو الدولية، القمع الحالي بأنه غير مسبوق، حتى بالمعايير المصرية. وقالت: "لقد بات انتقاد الحكومة في مصر أخطر بكثير من أي وقت مضى في تاريخ البلاد المعاصر، حيث يعامل المصريون تحت حكم السيسي كما لو كانوا مجرمين فقط، لمجرد التعبير عن آرائهم بشكل سلمي."
ليست هذه هي المرة الأولى التي يعتقل فيها نجلا حسنى مبارك ويودعان السجن. فقد ألقي القبض عليهما في عام 2011 وقضيا فترات متفرقة وراء القضبان، ولكنهما استعادا حريتهما منذ ثلاثة أعوام. ظلت ملفات القضايا المرفوعة ضدهما مركونة لدى السيسي، إلى أن أدرك أن جمال مبارك بدأ يحظى بالحفاوة والتكريم من قبل الناس في الأماكن العامة.
كان إلقاء القبض عليهما قد سبقه الاختفاء المفاجئ وغير المفهوم لعدد من مقدمي البرامج الحوارية، الذين لم تكن لديهم بضاعة سوى الولاء للنظام. وتعليقا على ذلك قال مصطفى بكري، عضو البرلمان الموالي للسيسي ومقدم برنامج في قناة البلد التلفزيونية:
"من حقنا أن نتنفس، أن نتكلم، أن نحكي. الإعلاميون الذين أرسلوا إلى بيتهم: لماذا يحدث هذا؟ سوف يتحولون إلى قنابل موقوتة. سوف يقفون ضد الدولة. هناك ما بين ستمائة إلى سبعمائة شخص. ما الذي يحدث؟"
أنا متأكد أنه سيعرف الجواب قريبا عندما يوقف هو الآخر عن البث. من مشاهير الإعلاميين الذين ذكرهم مصطفى بكري بالاسم وقال إن مصيرهم بات مجهولا لميس الحديدي ووائل الإبراشي.
كانت لعشيرة مبارك ارتباطات قوية بالمملكة العربية السعودية، يعود الفضل في تطويرها وتنميتها إلى الأب حسني مبارك. وكانت دول الخليج قد استثمرت بكثافة في القطيع المطواع من مقدمي البرامج التلفزيونية، الذين باتوا الآن عرضة للاضطهاد نفسه الذي ساعدوا النظام في ممارسته ضد الشعب. إذا كان السيسي يركل برجليه أصحاب الفضل المنعمين عليه، فلابد أنه يعيش حالة من الوهم والهذيان.
ثمن ترامب
لن يهب دونالد ترامب لإنقاذه، فسياسته الخارجية خلاصتها "ادفع نقدا عندما يطلب منك ذلك".
لقد كتب ترامب في آخر تغريدة له على تويتر يقول: "نحمي بلدان الشرق الأوسط، وما كانوا لينعموا بالأمان طويلا دوننا، ومع ذلك يستمرون في الدفع باتجاه أسعار أعلى وأعلى للنفط. سوف نذكر ذلك. على أوبيك المحتكرة أن تخفض أسعار النفط حالا".
لا يتعلم الطغاة بعضهم من بعض، فلقد مشى مبارك في الطريق نفسها التي يسير فيها السيسي الآن. وكان قد فتح نافذة صغيرة للحريات السياسية في عام 2005 ما لبث أن أغلقها إغلاقا محكما في عام 2010. لقد تسبب مبارك في اجتماع مجموعة متباينة من الأعداء توافقوا على الإطاحة به. وها هو السيسي يفعل الشيء نفسه، وإن كانت يداه مغموستان في كميات أكبر من الدم.
إذا بدت المعارضة المصرية بائسة ومتشرذمة، فإن السيسي يقدم لهم خدمة عظيمة إذن، يدفع بها نحو الوحدة في مواجهته.
هل ينبغي على السيسي السفر إلى نيويورك لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة وإلقاء خطاب فيها؟ هل يأتمن أحدا على دكانه في أثناء غيابه؟ ربما، وربما لا. ليس بإمكانه الجزم.
المصدر "ميدل إيست آي" البريطاني، وترجمته "عربي21"،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق