اغتيال بيروت: متى نعترف أمام الله؟
وائل قنديل
هل أعجبتك مشاهد إهانة السيادة الوطنية اللبنانية التي رافقت زيارة رئيس فرنسا، إيمانويل ماكرون، إلى بيروت الجريحة؟ هل دققت في اختيار وريث الانتداب الفرنسي على لبنان للألفاظ التي يمعن بها في إظهار شعب لبنان بوصفه مجموعات من رعايا الامبراطورية الفرنسية القديمة، وليس شعبًا عربيًا، حين قال إن باريس ستقدّم المساعدات مباشرة إلى الشعب، وليس عبر الحكومة الممثلة للبنان؟
في الواقع، كانت الإهانة مزدوجة، بل أنها طالت الشعب اللبناني بأكثر مما طالت حاكميه، وصفعت الشعور العربي كله، على نحوٍ أقسى، وهو يرى جميلة جميلات المدن العربية وقد احترقت ضفائرها ورموشها وغرقت في دمائها، ورقدت تحت رماد الجحيم، وأقصى ما يقدّمه إخوتها العرب شحنات مساعدات طبية وغذائية طائرة، تتصدّر عناوين أخبار الفضائيات والصحف، تاركين الغوث السياسي، وهو الضرورة القصوى في هذه اللحظة الحزينة، للأوغاد القدامى والجدد، يتناولون لبنان، أو بالأحرى يتقاذفونه، بوصفه مقاطعة أو مستعمرة لا تزال خاضعةً لنفوذ القوى الكولونيالية العتيقة.
لم يعد في جعبة النظام العربي الرسمي من أجل لبنان سوى التنابز بطائرات المساعدات وشيكات المنح، فيما ارتضى هذا النظام لنفسه الموات السياسي الكامل، فلم يعد يريد، أو يستطيع، إنجاز أية مقاربة سياسية للأزمة السياسية التي تعصف بلبنان منذ سنوات، متخليًا عن الدور، أو الواجب بالمعنى الأدق، للقوة الدولية التي لا يهمها في لبنان سوى تجريده من كل ملمح مقاوم أو ممانع لخرائط الجغرافيا السياسية الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط.
كان الهم اللبناني على موائد السياسة العربية أكثر من نصف قرن مع اتفاق القاهرة 1969 ثم اتفاق الطائف 1989 وأخيرًا اتفاقية الدوحة 2008، وكل هذه الاتفاقات، ما تحقق منها وما لم يتحقق، كان بالحد الأدنى تعبيرًا عن رابطة حقيقية بين لبنان ومحيطه وعمقه العربيين، وإشارة ولو مشوّشة إلى ملامح نظام سياسي عربي، يمكن أن يكون حاضرًا وفاعلًا في الحالة اللبنانية، بحيث لا تبقى في عهدة بقايا الانتداب الفرنسي والنفوذ الغربي.
غير أن ذلك كله تبخر وذهب مع الريح، واتسعت المأساة، وامتدت وتفاقمت، حتى وصل بنا الأمر إلى أن السعودية التي طالما زعمت رعايتها الدولة اللبنانية، عقب اتفاق الطائف وتنصيب رجلها رفيق الحريري رئيسًا للحكومة، اختطفت ابنه ووريثه في تركيبة السلطة اللبنانية، سعد الحريري، وحبسته في فندق بالرياض، ولم تطلق سراحه إلا حين تدخلت فرنسا وتوعدت وأظهرت العين الحمراء، فحلقت به طائرة من الملك خالد بالرياض إلى شارل ديغول بباريس مباشرة.
السعودية التي أنفقت نحو تريليون دولار لقاء زيارة من ترامب، وابتسامة من ابنته إيفانكا، تركت لبنان وحيدًا يواجه الجحيم، والإمارات التي تنفق عشرات المليارات من الدولارات على تنمية محصول الخراب في عواصم الثورات العربية، هي الأخرى تركت لبنان يتردّى في العجز والمهانة، حتى وصلنا إلى اليوم الذي باتت فيه رواسب الطبقة اللبنانية القديمة ذات الولاء الكامل للاستعمار الفرنسي تجهر بالرغبة في عودة الانتداب على لبنان، وتهتف بسقوط الاستقلال، وهي تستقبل الكونت دي لا إيمانويل ماكرون، وهو يتجول في بيروت، متسربلًا في مسوح المندوب السامي الذي يتحدث إلى شعبه مباشرة، ويعده بالغوث والحماية من الحكام اللبنانيين الأوغاد الذين يمصّون دمه ويسرقون خبزه.
على خط موازٍ تجد قطاعات كبيرة من الشعوب العربية ملاذاتٍ آمنة من الإحساس بالعجز والتقصير بحق لبنان في اتهام الحكومات والأنظمة العربية بالتخلي عنه وتركه وحيدًا، لكن الحقيقة أن هذه القطاعات ليست بريئة تمامًا من الوجع اللبناني، وخصوصًا المجموعات التي لا ترى في لبنان إلا ساحة فارغة لممارسة ألعاب المبارزة والمصارعة الطائفية، وحائطًا ممتدًا لعبارات الكراهية المذهبية، وكأن كل تيار يريد تفصيل لبنان على مقاساته وصبغه بألوانه.
حالة الاتجار السياسي بالفاجعة من الحكومات، وخصوصا الحكومة اللبنانية التي تطلب من الشعب أن يصمت ويخرس، ولا يتكلم عن فساد السياسة وفساد الإدارة الاقتصادية، تنتقل إلى الشعوب أيضًا، فتتطاير كرات النار المحشوة بالاتهامات المتفجرة في الفضاء العربي، مخلفة تلك الرائحة الطائفية المقزّزة، التي لا تقل في خطورتها عن انبعاثات نترات الأمونيوم السامة، و تخنق جو بيروت بعوادم المقذوفات المذهبية، لتصبح كل الأطراف اللبنانية مدانةً أو بالحد الأدنى متهمة، فيما يصبح مجرّد التفكير في احتمالية وجود أصابع صهيونية في جريمة جحيم المرفأ نوعًا من المحرمات.
بيروت، ولبنان كله، في حاجةٍ إلى حضور المبادرة السياسية العربية، المخلصة، أكثر مما يحتاج شحنات مواد غذائية وطبية، وأظن أن النظام العربي الذي يضخّ مئات مليارات الدولارات في الخزينة الأميركية والغربية، شراءً للدعم في تعارك بعضه مع بعضه، من العار عليه أن يترك لبنان تحت رحمه جلاديه وسارقيه التاريخيين، يستعيدون قبضتهم عليه، وهو يبحث عن إعادة إعماره ماديًا وسياسيًا.
الذين دفع 460 مليار دولار لقاء صورة مع إيفانكا ترامب، والذين أنفقوا مبالغ مقاربة على حرق مدن الربيع العربي، يمكنهم أن يوفروا 15 مليار دولار هي كلفة تعافي بيروت وقيامتها من تحت الردم.. إن كانت دماء عربية لا تزال في عروقهم، وإنْ لم يكونوا سعداء برؤية جميلة جميلات الخريطة العربية معفرة بغبار الحريق.
بيروت تحتاج منا جميعًا الاعتراف والاعتذار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق