مفاهيم أساسية لصناعة الهمة

د. ليلى حمدان
لا بد لخوض غمار أي فنّ أو علم من التعرف على ماهيته وماهية المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها، كما أن لعلاج الجسد نحتاج للإحاطة بأجهزته وأنسجته المختلفة والعلاقة بينها وقوانين النظام الذي يجمعها، وكذلك لتصليح آلة لابد أن نتعلم مكوناتها وقطعها المتصلة وطريقة عملها وتشغيلها، وعلى هذا المنهج سنقوم بتشريح هذه الهمة لنحسن فهمها والخروج بدليل يتناسب وطبيعة كل فرد وطاقاته وظروفه وطموحاته التي يجب أن تكون عالية سامقة وهو باختصار دليل صناعة الهمة.

بداية: ما مفهوم الهمة وماذا نقصد بهذه الهمة؟

يتردد هذا المصطلح وتتردد معه التعاريف التي تصب في ذات المعنى، وإن تأمّلها يُعد أول خطوة في صناعة الهمة، لأنها تقدم أول نقطة ارتكاز سننطلق منها، وبتدبرها تنكشف لنا طبيعة المهمة. والهمة هي توأم العلم وقسيمه وشريكه في صناعة عطاء الفرد والمجد وانبعاث الأمة، إنها بتعبير آخر، “القوة العلمية” أو “الإرادة”، فهذه مرادفات لمصطلح الهمة. وهذا ما يفسر لماذا يلهث الكثير من الناس خلف الأدنى من الأمور والسفاسف، فمرجع ذلك فساد العلم وكثرة الجهل. والعكس صحيح. والعلاقة طردية بين العلم وصحة العزيمة وقوة الإرادة، فكلما انتفى الجهل طلب الإنسان معالي الأمور وارتقى إلى مراتب النجباء السعداء.

والهمّ: ما همّ به من أمر ليفعل.
والهمة: هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول.

يقول الشيخ محمد الخضر حسين: “علو الهمة هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور”. “بمعنى أن يطلب المرء من كل أمر أعلاه وأقصاه، ويستصغر كل ما وصل إليه إن كان هناك ما هو فوقه أو أعلى منه”. ويقول ابن الجوزي في صيد الخاطر:”هي خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل”. وقال أيضا:” نبغي لمن له أنفة أن يأنف التقصير الممكن دفعه عن النفس، فلو كانت النبوة – مثلا – تأتي بالكسب لم يجز له أن يرضى بالولاية، أو تصور أن يكون خليفة لم يقنع بإمارة، ولو صح أن يكون ملَكا لم يرض أن يكون بشرًا، والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن في العلم والعمل”.

وقال الجرجاني في التعريفات: “الهم هو عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل، من خير أو شر”. وقال ابن القيم في مدارج السالكين: “والهمة فعلة من الهم وهو مبدأ الإرادة ولكن خصوها بنهاية الإرادة، فالهم مبدؤها والهمة نهايتها”. وقال شيخه ابن تيمية: “العامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب”. أي همته ومقصده.

والهمة نصف المروءة.

ولا تجلس إلى أهل الدنايا

فإن خلائق السفهاء تعدي

والهمة كما عرفها بعضهم هي النية الصادقة والعزمة الجازمة والإرادة القوية والرفيعة، والرغبة الأكيدة في التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل. وعكس علو الهمة كما قال الجاحظ في تهذيب الأخلاق هو :”دنو الهمة وهو ضعف النفس عن طلب المراتب العالية، وقصور الأمل عن بلوغ الغايات، واستكثار اليسير من الفضائل، واستعظام القليل من العطايا والاعتداد به، والرضا بأوساط الأمور وصغائرها”.

وهي إيثار الدعة والرضا بالدون والقعود عن معالي الأمور. وهي في الواقع هزيمة النفس والرضا بالذل والخنوع والحرمان. فأي عاقل يرضى لنفسه هذه المهانة!

ويقول في وصف ذلك حاتم الطائي:

يرى الخَمصَ تعذيباً، وإنْ يلقَ شَبعةً
يَبِتْ قلبُهُ، من قِلّةِ الـهمّ، مُبهَمَا

لَحى اللَهُ صُعلوكاً مُناهُ وَهَمُّهُ
مِنَ العَيشِ أَن يَلقى لَبوساً وَمَطعَما

يَنامُ الضّحى، حتى إذا ليلُهُ استوَى
تَنَبّهَ مَثْلُوجَ الفؤادِ، مُوَرَّمَا

مُقيماً معَ المُثْرِينَ، ليسَ ببارِحٍ
إذا كان جدوى من طعامٍ ومَجثِمَا

وصدق الشاعر حين قال:

وما نيل المطالب بالتمني

ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

وكل بني آدم تولد همته معه وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات والظروف فإن تم إنعاشها وتحريضها انبعثت من جديد! قال ابن الجوزي: “وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات بسبب عجز أو كسل أو ركون إلى وسوسة الشيطان وركوب الهوى وتسويل النفس الأمارة بالسوء، فهنا تحتاج الهمة إلى إيقاظ وتنبيه وتذكير، برضا من تطلب ؟ وفي أي نعيم ترغب؟ ومن أي عقاب ترهب؟ كما فعل ذلك البطل الذي لا نعرف اسمه لكنه حسبه أن الله يعلمه وهو وحده الذي يثيبه”.

كذلك قد تكون الهمة في غير محلها الصحيح فينشغل المرء بما يضره ولا ينفعه، ونبصر ذلك كثيرًا مع أهل البدع والانحراف، فيبذل جهده وطاقته وكل ما يملك في باطل لسوء الفهم والجهل وظلم النفس.

أقسام الناس مع الهمة

وبعد الإحاطة علمًا بمفهوم الهمة نتحول إلى أقسام الناس مع هذه الهمة، فالناس مختلفون في تصنيف الهمم، بين علو وسفول وبين كبر وصغر، وعلى قدر تفاوت الهمم والإرادات تتفاوت مقامات الخلق في الدنيا والآخرة. فأعلاهم همة أبلغهم لما يريد، وأكثرهم تحقيقًا لما يطلب، ولا فرق في ذلك بين سعي الدنيا والآخرة، فالمسلم البصير يعلم أن السعي في الدنيا سبيل لمراتب الفائزين في الآخرة، وبهذا المفهوم قامت الدول الإسلامية المتعاقبة وأشرقت حضارتها الإنسانية المتفوّقة.

ويمكن تقسيم الناس وفق مقياس الهمم إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: أشرف الأقسام

قال ابن القيم في كتابه الداء والدواء: “فإن الكمال الإنساني مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل وإيثاره عليه. وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا بقدر منازلهم في هذين الأمرين، وهما اللذان أثنى الله بهما سبحانه على أنبيائه بهما في قوله تعالى (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) (سُورَةُ ص: 45)، فَالْأَيْدِي: القوة في تنفيذ الحق، وَالْأَبْصَارُ: البصائر في الدين، فوصفهم بكمال إدراك الحق وكمال تنفيذه، وانقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسام، فهؤلاء أشرف الأقسام من الخلق وأكرمهم على الله تعالى”. أولي الأيدي والأبصار.

قال محمد الخضر حسين يصف هذا القسم :”يشعر المرء منهم بأن فيه الكفاية لعظائم الأمور، ويجعل هذه العظائم همته. فيُسمى عظيم الهمة وعظيم النفس وكبير الهمة وكبير النفس”.

القسم الثاني:

عكس هؤلاء، من لا بصيرة له في الدين، ولا قوة على تنفيذ الحق، وهم أكثر هذا الخلق، وهم الذين رؤيتهم قذى العيون وحمى الأرواح وسقم القلوب، يضيقون الديار ويغلون الأسعار، ولا يستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار. قال محمد الخضر حسين يصف هذا القسم: “والثاني رجل فيه الكفاية لعظائم الأمور ولكنه يبخس نفسه فيضع همته في سفاسف الأمور وصغائرها. وهذا من يُسمى صغير الهمة وصغير النفس”.

القسم الثالث:

من له بصيرة بالحق ومعرفة به، لكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه ولا الدعوة إليه، وهذا حال المؤمن الضعيف، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله منه. قال محمد الخضر حسين يصف هذا القسم:”والثالث رجل لا يكفي لعظائم الأمور ويحس بأنه لا يستطيعها وأنه لم يخلق لأمثالها فيجعل همته وسعيه على قدر استعداده. وهذا الرجل بصير بنفسه متواضع في سيرته”.

القسم الرابع:

من له قوة وهمة وعزيمة، لكنه ضعيف البصيرة في الدين، لا يكاد يميز بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، بل يحسب كل سوداء تمرة وكل بيضاء شحمة، يحسب الورم شحمًا والدواء النافع سمًا. قال محمد الخضر حسين يصف هذا القسم: “رابعهم لا يكفي للعظائم ولكنه يتظاهر بأنه قويّ عليها مخلوق لأن يحمل أثقالها، وهذا من يسمّونه (فخورًا)، وإن شئت فسمّه (متعظّمًا)”. وليس في هؤلاء من يصلح للإمامة في الدين، سوى القسم الأول، وبالصبر واليقين تؤتى الإمامة في الدين، قال الله تعالى ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) (السجدة: 24).

محل الهمة

محل الهمة في القلب.

“فالهمة عمل قلبي، والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه كذلك يطير المرء بهمته، فتحلق به إلى أعلى الآفاق طليقة من القيود التي تكبل الأجساد”. ولذلك وصف ابن القيم علو الهمة بقوله: “الهمة العالية على الهمم: كالطائر العالي على الطيور، لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم”.

ومن يتأمل القلب يجده أصل القوة في الإنسان وقد أوضح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».

وقال الشاعر يصف قوة القلب:

إن يسلب القوم العدا مُلــ
كي وتُسلمني الجموع

فالقلب بين ضُلو عه
لم تُسلم القلب الضلوع

وضعف القلب يؤدي مباشرة إلى ضعف الإرادة والطلب، وكلما كان القلب سليمًا كلما كان مطلبه وإرادته أقوى، وفتور الهمة دلالة على وجود الآفة المضعفة لحياة القلب، بينما علو الهمة سبيل الحياة الطيبة.

وحياة الضنك والشقاء هي مصير مكسور الهمة، كما قيل:

نهارك يا مغرور سهو وغفلة
وليلك نوم والردى لك لازم

وتكدح فيما سوف تنكر غبه
كذلك في الدنيا تعيش البهائم

تسر بما يفنى وتفرح بالمنى
كما غر باللذات في النوم حالم

لماذا علو الهمة أول مطلبٍ اليوم؟

لأنها مطلب القرآن والسنة: قال تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)، (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) وكثيرة هي الآيات التي تشير لعظمة علو الهمة والمسابقة في سبيل الله والتي تذم دنو الهمة والكسل والانشغال بما يضر ولا ينفع.

وتأمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يشع همة وبصيرة حين قال عليه الصلاة والسلام: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها”. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر يوصي بعلو الهمة حتى في الدعاء: “إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة”. وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف”، والقوة قوة القلب والروح.

وعلى هذا النهج سار الصحابة رضي الله عنهم، قال الفاروق عمر -رضي الله عنه-: «لا تصغرنّ همتك فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته”.

ولأن الأمة في قاع الضعف والفشل وحال التيه والعبث، والأمة تموت بموت همم أبنائها، فانبعاث هذه الهمم هو انبعاث هذه الأمة. ولأن العالم لا يحترم إلا الأقوياء وأصحاب العزائم والإرادة، ولا يمكن أن نقاوم الظلم والعدوان بدون قوة وصناعة همة.

لأن مسؤوليتنا أمام الأجيال عظيمة، وتقديم القدوة لهم أول واجب، حتى لا تطاردنا اللعنات في يوم قادم. لأن الضعف مشين وعار يلحقك ويلحق من بعدك بكل من ارتبط به اسمك إلا من ارتقى بهمته. ولأننا نملك تاريخا طويلا مشرّفا، ومن الوفاء والدين أن نواصل مسيرته المشرّفة وننال سهمًا من صناعة النصر المبين الذي ينتظر هذه الأمة بوعد من الله حق. لأنها الحياة الدنيا واحدة، وهي دار الامتحان، فلتبذل كل ما في وسعك لجعلها رائعة مزدانة بأنوار العلم والعمل، فبعد الموت العودة مستحيلة وإما قصور السعداء في الجنة وإما حفر الأشقياء في جهنم.

لأنك ستنتقل لعالم من السعادة والأمان هو جنة الدنيا قبل الآخرة. ولأنه لا خيار أمامك، فإما حياة العز والسؤدد وإما موت الهوان والذل والصغار. لأن الهمم المثابرة كفيلة بتغيير مسار الأحداث وتاريخ الأمم، بل هي من تتكفل بكتابته على أحسن حال.

لأن مراتب الآخرة تتفاضل كما تفاضلت مراتب الدنيا، وبقدر سعيك ترتفع مرتبتك في الجنة. لأنها من أسباب تحصيل محبة الله ورضوانه سبحانه وتعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فاز بمحبة خالقه ونبيه، فقد فاز فوزًا عظيمًا.

لأن كل مؤمن بيده أن ينجح إن أراد بالفعل ذلك واستعان بالله:

ولم أر في عيوب الناس عيبًا
كنقص القادرين على التمام

والنفس كالطفل إن تهمله شب على، حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم.

القدوة في صناعة الهمة

الاقتداء بقدوة في صناعة الهمة شرط ملازم لا يمكن تجاهله ولا الاستغناء عنه، ولن نجد في تاريخ البشرية أفضل ولا أروع ولا أقوى من قصة الإسلام التي انطلقت يشيّد أمجادها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم، فهي قصة تنبض بالهمم المسابقة والنماذج الراقية المبهرة لعطاء النفس البشرية، ولا عجب أن انبهر المؤرخون بإنجازات تلك الثلة التي خرجت في عمق الصحراء، صحراء الطبيعة وصحراء الجاهلية، ومع ذلك فقد كانت السرعة التي أقام بها المسلمون دولة الإسلام الأولى عجيبة، والسرعة التي انهارت بها الإمبراطوريتان العظيمتان آنذاك (الفرس والروم) عجيبة أخرى، خاصة بالنظر لإمكانيات المسلمين المادية آنذاك ولحجم التحديات، ولا شك أن سر هذه الإنجازات يكمن في قوة الروح وقوة تلك الهمم المؤمنة التي حازت فضل الله سبحانه ومعيته فمن يجرأ على هزيمة مثل هذه الهمم!

قال تعالى (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).

وكذلك كانت همم التابعين ومن بعدهم من صناع المجد، فقد أدركوا سر التفوّق، واشتعلت هممهم حركة وبركة، فكانت الإنجازات المبهرة، “فالحركة ولود، والسكون عقيم، والحركة في قاموس الدعاة هي الحياة، والسكون هو الموت”. قال الجيلاني: “الحركة بداية والسكون نهاية، والحركة في الفاصل بين عهد الرخاوة وبين عهد حمل الأمانة بعزم وحزم ووفاء”.

وجاء في كتاب علو الهمة لمحمد إسماعيل المقدم: “وبالحركة انتشر المسلمون الأوائل مثل شعاع الشمس في أقطار الأرض، يفتحون البلاد، ويفتحون قلوب العباد، ويدعون إلى التوحيد، ويحطمون الطواغيت، ويقودون الناس إلى الجنة، وبالحركة صاروا في ظلمات الحياة سراجًا وهَاجًا، فإذا الباطل رماد بعد التهاب، وخمود بعد حركة”.

وتأمل قول عمر الفاروق رضي الله عنه جعل مناه في وجود أصحاب الهمم: “وددت لو أن لي ملء هذه الدار رجالًا كأمثال أبي عبيدة ومعاذ وسالم مولى أبي حذيفة؛ فأطوف بهم الديار أبلغ بهم دعوة الله في الآفاق”.

خريطة الطريق

يقول الشيخ عبد العزيز الطريفي: “النفس تتمنّى والعقل يُقيّدها والوحي يُنير طريق العقل، هكذا تسير قافلة الحق، وأي اختلال أو تبادل مراكز بين هذه الثلاث انحراف عن الطريق الصحيح”. 

وصناعة الهمة تتم تحت أنوار الوحي، موظفة طاقات النفس والعقل لكل فرد أفضل توظيف. ولا يمكن أن نحقق صناعة للهمة دون تحصيل نصاب العلم اللازم لصناعتها. ومن خلال خلاصات من سبق من أهل العلم والبصيرة تتلخص لنا المحاور الأساسية لمخطط صناعة الهمة وهي كالتالي:

• المعرفة بالله سبحانه وتعالى ونظام الكون الذي خلقه عز وجل.
• المعرفة بذاتك ونفسك البشرية، للوصول إلى حالة نفسية سليمة تمكنك من تحقيق أفضل عطاء واستقرار وسعادة وبها تتم إدارة نفسك وتطوير ذاتك.
• المعرفة بالمجتمع الذي تعيش فيه والظروف المحيطة بك وفهمها واستيعابها بسيئاتها وحسناتها لتحصيل القدرة على توظيفها لصالح ارتقائك وأهدافك السامقة.
• ترجمة كل هذه المعارف إلى حالة الرضا والتوافق والاتزان.
• الانطلاق في مرحلة العمل والانتاج بعد إعداد العدة الممكنة واستبانة السبيل.
• التمتع بعيشة هنية طيبة في الدنيا والاستبشار بالفوز في الآخرة.

وبين هذه العناوين يتم إشباع حاجات المرء النفسية وضبط قدراته لتحمل المسئولية واكتساب المهارات الحيوية والاستفادة من فرص التعاون والتفاعل وأداوت الدعم، والمضي في ثبات، تحدو فارس الهمة وفارستها، المسايرة والصبر والمرونة لتحقيق أهداف واقعية ذات قيمة تُعد في مقاييس الهمة أفضل الأهداف.

ولابد من التنبيه إلى أن رحلتنا مع صناعة الهمة تستوجب العناية بصحة المرء النفسية والجسدية في ذات الوقت، فالهمة العالية أول مبعث لراحة الجسد واستقراره وتجاوزه للعقبات الصحية وهذه من بركات علو الهمة فلا يشقى معها معاق ولا مريض ولا مسنّ ولا ضعيف الجسد عليل بل تشرق حياته معها.

وبتحقيق نصاب العلم الكافي لصناعة الهمة، تنطلق الإرادة لتحقيق الأماني بإلهام لا ينضب!

عن ابن معاذ، قال: “سألت أبا عمرو بن العلا: حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم؟ فقال: ما دام تحسن به الحياة”. يقول ابن القيم في إغاثة اللهفان: “لما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز، وقوة الإرادة والحب، كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه، ويعود عليه بصالحه وسعادته، فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته، والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل”. وعلى رأس هذا العلم العلم بالله عز وجل وشرعته، وإنما إرادتنا مندرجة تحت إرادة الله سبحانه.

وعلى أنوار هذه المفاهيم الأساسية سنصل إلى تحصيل العلم النافع والإرادة الفاعلة فيما يشكل أداء همة مبهرة صنعت على نور من الله. وإن نجاحك في صناعة الهمة لهو القفزة الأهم في تغيير حالك وحال أمتك، يحدوك في ذلك: “لن يسبقني إلى الله أحدٌ!”.

تماما كما فقهها ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سل” فقال:” أسألك مرافقتك في الجنة”. فتمعن في هذه المعاني واستجمع شوقك لننطلق إلى حلقة ثالثة عنوانها: “الإيمان أول الأسرار في صناعة الهمة”. 

وردد إلى ذلك الحين: “لا حول ولا قوة إلا بالله” فهي كنز من كنوز الجنة، روحها التوكل والافتقار إلى الله، وبها تنجو إن رافقها الإخلاص.

لقراءة أول مقال في السلسلة.

صناعة الهمة أول مهمة