الأربعاء، 12 أغسطس 2020

لَبـرَلة الولاء والبراء

لَبـرَلة الولاء والبراء


الكاتب: الباحث إبراهيم السكران.

في الأوساط المحلية طرح كثيرًا موضوع ضرورة إعادة قراءة الولاء والبراء وقضايا بغض الكفار والزوجة الكتابية ونحوها، وكل هذه القراءات والمراجعات طبعًا تحت وطأة موجات الحرية الليبرالية الغالبة؛ فليست قراءة علمية معرفية تتوخى البرهان؛ بل هي قراءات تستهدف بشكل مكشوف تخفيض مضمون الولاء والبراء ليقترب من نظرية الحرية الليبرالية؛ فالولاء والبراء في القرآن يقيم نظام العلاقات على أساس العقيدة بينما الحرية الليبرالية تقيم نظام العلاقات على أسس مادية.

والطريف في الأمر أنني لما تأملت في كلامهم وجدت أنهم لم يتخلوا عن الولاء والبراء مثقال ذرة، ولم يتغير عندهم أي شيء حول وجود الولاء والبراء في تصرفاتهم وسلوكهم، وإنما الذي تحول عندهم هو أرضية الولاء والبراء، أو المبررات التي تستحق الولاء والبراء فقط؛ فقد كانوا سابقًا يقولون يجب أن يبغض الإنسان كل مَن كفر بالله بغضًا دينيًا، ثم صاروا الآن يستفظعون ذلك، لكن لو قلت لهم إنني أحب من يعادي وطني لشنعوا بي، ولو قلت لهم إنني أحب من يعادي وطني لاعتبروا ذلك تطرفًا وتخلفًا.

فالقضية فيما يبدو ليست تخليًا عن الولاء والبراء، وإنما إعادة تحديد لمن يستحق الولاء والبراء؛ فقد كانوا سابقًا يقولون إن الله هو المستحق لأن يكون الولاء والبراء على أساس القرب والبعد عنه، صاروا يقولون إن وطنهم هو الذي يستحق الولاء والبراء على أساس القرب والبعد عنه، هذه كل القضية بحسب دراستي لهذه الأطروحات؛ فالولاء والبراء لم ينتهِ لحظة واحدة، ولكن تحول على أساس الولاء والبراء من الله إلى الأرض، كما أشار تعالى فقال: (وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ). [الأعراف: 176] 
وقال تعالى: (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) [التوبة: 38] وهكذا كان فريق من الناس في عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتعاملون مع الجهاد على أسس أرضية، لا على أسس عقدية، فهم لم يرفضوا القتال ولكن يرون القتال مبررًا على أساس الأرض لا العقيدة، كما قالوا في تحليلهم الفكري لجهاد الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) [الأحزاب: 13].

إنه مشهد يتكرر ولكنه يتكرر بألم، حين تكون الأرض أغلى في نفوسنا من الله، فيكون الولاء والبراء والبغض والمعاداة على أساس الأرض أمرًا مقبولًا بل رقيًا فكريًا، لكن الولاء والبراء والبغض والمعاداة على أساس القرب والبعد من الله فهذا كله تخلف وتقوقع في قراءات ضيقة لبعض النصوص.

الأمر لا يحتاج بتاتًا كل هذه الفذلكة، لكن لأن العقيدة انهارت في النفوس وتشبعت القلوب بالإخلاد إلى الأرض، فقد فزع البعض إلى عيون الزوجة الكتابية لعلهم يجدون بين مشاعرها عذرًا لنقل ولائهم وبرائهم من الله جل جلاله إلى الأرض. القضية باختصار شديد لو كانوا يريدون الحق أن كل كافر هو عدو الله بمجرد كفره؛ 
كما قال تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) [البقرة: 98] وأخبر أنه (لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)، وقال: (وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا) [فاطر: 39] 
وأخبر أن عداوة المؤمن تبع لعداوة الله؛ كما قال تعالى: (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا) [النساء: 101].

فكل مؤمن لابد أن تقوم في نفسه العداوة القلبية الدينية لكل عدو لخالقه ومولاه جل وعلا، فإن لم يجد هذه العداوة القلبية الدينية لأعداء ربه سبحانه فليبكِ على إيمانه، ولو كمل حب الله في قلبه فيستحيل أن يحب خالقه وعدو خالقه في آن واحد، إلا إن كان المؤمن يتجرأ ويقول إن أعداء الله أحباب له فهذا شأن آخر، أو كان المرء يقول إن الكافر إذا لم يحاربنا فهو ليس عدو الله وإذا حاربنا فهو عدو الله، فصارت كرامته أعظم من كرامة الله! فهل يقول هذا عاقل؟ فأي تحد لله تعالى أن نقر أن الله عدو لجميع الكافرين وأن الله لا يحب جميع الكافرين، ثم نتحدى ربنا جل وعلا ونقول أما نحن فنحب بعض الكافرين؟

وتأمل معي في قوله تعالى: (هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ) [آل عمران: 119] فهؤلاء قوم مظهرون للمسالمة بل يُظهرون غاية المسالمة، حتى أنهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا، ومع ذلك يلوم الله المؤمنين على حبهم ولم يُبِح لهم حبهم بحسب ظاهرهم. 
ثم تأمل معي كيف انعكست آيات البراء وبغض الكفار على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمن ذلك أن أسماء بنت عميس وهي ممن هاجر إلى الحبشة، تقول كما في صحيح البخاري: “كنا في أرض البُعَداء البُغَضاء بالحبشة”. 
فانظر في قول هذه الصحابية الجليلة! فأهل الحبشة مسالمون بل نفعوا أصحاب النبي، وفّروا لهم لجوءًا سياسيًا في وقت الأزمة مع قريش، ومع ذلك تسميهم البغضاء، لماذا؟

لأن هذه الصحابية الجليلة استوعبت درس القرآن جيدًا، وأن كل كافر هو قطعًا عدو لله، مبغوض له مهما كان، مسالمًا عسكريًا، ولما بعث نبي الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن رواحة إلى اليهود لخرص الثمار، خافوا أن يظلمهم فقال لهم -كما عند أحمد بسند صحيح-: “يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إلي، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم”. فهؤلاء كفار مسالمون وليسوا محاربين، ومع ذلك يستعلن رضي الله عنه ببغضه لهم. وأمثال هذه النماذج كثيرة في سيرة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من بغض الكافر حتى لو كان مسالمًا.

ومن الطرائف أن بعض الناس لكي يتخلص من هذا الأصل الشرعي العظيم، صار يسلك استراتيجية إلصاق أحكام البراء بالوهابية، ويدعي أننا أسرى الفكر الوهابي، وأن مسألة بغض الكفار جميعًا إنما هي فكرة وهابية… إلخ، وهي حيلة ساذجة للتخلص من قاعدة شرعية، والواقع أن قاعدة البغض العقدي للكافر قد أطفقت عليها المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة، وليس مسألة ابتكرتها “الدرر السنية”.

فقد قال السرخسي الحنفي: “وهكذا ينبغي لكل مسلم أن يكون في بغض اليهود بهذه الصفة”. وتعرض القرافي المالكي لبعض الأوامر الشرعية فقال: “حب المؤمنين وبغض الكافرين وتعظيم رب العالمين، وغير ذلك من المأمورات”. وقال ابن الحاج المالكي: “واجب على كل مسلم أن يبغض في الله مَن يكفر به”.

وقال الشيخ عليش المالكى: “نفوس المسلمين مجبولة على بغض الكافرين”.
 وفي أشهر متون الشافعية: “وتحرم مودة الكافر”. 
وقال العز بن عبد السلام الشافعي: “جنايته على أمر نفسه بالكفر أخرته وأوجبت بغضه”. 
بل هذا ابن سعدي الذي يحاول البعض تزوير صورته وأنه كان فقيهًا تغريبيًّا مبكرًا يوضح التلازم بين الإيمان بالله وبغض الكفر فيقول: “الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم وبغض الكافرين وعداوتهم”.

والمراد أن نصوص فقهاء المذاهب الأربعة لأهل    السنة كثيرة في منع حب الكافر، فكيف يزعم        البعض ويدعي أن وجوب بغض الكافر فكرة وُلدت في “الدرعية” وانتهت مع مؤتمرات حوار          الأديان؟ أم أن أئمة المذاهب الأربعة في القرون    الأربعة المتقدمة حفظوا في صغرهم “كشف        الشبهات”؟ أم أرسلت إليهم نسَخ من “الدرر       السنية”؟                                  

وهؤلاء الذين يسعون لِلَبرلة الولاء والبراء يتمسكون ببعض التأويلات للنصوص والمفاهيم الشرعية، وسأناقش بعضها:

فأما قولهم: “إننا نقر أن الله أمر بمعاداة أعدائه؛ كقوله تعالى: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) [الممتحنة: 1] لكن هذه في المعتدي وليس كل الكفار أعداء الله”. فهل يقول هذا مَن قرأ كتاب الله؟ فكل كافر هو عدو لله أصلًا؛ كما قال تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) [البقرة: 98]، وقال تعالى: (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا). [النساء: 101].

وأما قولهم: “إننا نقر أن الله نهى عن موالاة الكفار، لكن آيات النهي عن موالاة الكافر لا يلزم منها النهي عن حبهم والأمر ببغضهم؛ لأن الموالاة فيها قدر زائد على مجرد الحب والبغض وهي النصرة”. 
فالجواب أن الموالاة لفظ عام يشمل الحب والنصرة؛ فالحب موالاة والنصرة موالاة، والنهي عن العام يشمل جميع أفراده، ومن ظن أن الموالاة لا تكون إلا لما تركب منهما فقد خالف النص الذي منع الحب؛ كقوله: (هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ) [آل عمران: 119] وهي في المسالمين. وخالف إجماع الفقهاء على منع حب الكافر ومودته، فضلًا عن مخالفته لما حرره الفقهاء المحققون؛ كقول الإمام ابن تيمية: “وأصل الموالاة هي المحبة، كما أن أصل المعاداة هو البغض”.

وأما قولهم: إننا نقر أن الله نهى عن موادّة من يحادّ الله ورسوله، لكن المحادّ هو المحارب. فهذا تحريف لكتاب الله، فإن الله تعالى قال: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) [التوبة: 62-63] فهؤلاء الذين حلفوا لرسول الله ليسوا محاربين، ومع ذلك جعلهم الله محادين، ولما ذكر الله حدود الله في مطلع المجادلة قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّه) [المجادلة:5] ومعلوم أن انتهاك حدود الله ليس محاربة ومع ذلك جعله الله محاداة لله جل وعلا، فإن كان هؤلاء يجعلون المحادّة هي المحاربة فهذا باطل بكون الله في كتابه سمى ما دون المحاربة محادة، وإن كان هؤلاء يجعلون المحادة كل قول وفعل يسيء إلى الله وكتابه ونبيه وشريعته فلا يكاد يوجد كافر معاصر لا يسيء لأحكام الله في التعدد والقوامة والحجاب والقرار في البيوت والقتال… إلخ.

فهؤلاء يقولون لنا إن الموادّة المنهي عنها مخصوصة بالمحادة، فإذا قلنا لهم هؤلاء الذين يسيئون لأحكام الشرع من مستشرقين وسياسيين ومفكرين وعامةً في المجتمعات الكافرة لكنهم مسالمون غير محاربين، فهل يجوز مودتهم؟ عادوا وتناقضوا وقالوا نعم يجوز لأنهم غير محاربين! وتركوا علتهم الأولى وهي المحادة بمعنى الإساءة.

وليس مقصودنا هاهنا المرادفة بين الكفر والمحادة؛ فإن المحادة بلا شك قدر زائد على مجرد الكفر كما قرره ابن تيمية في الصارم المسلول، وإنما المراد أن المحادة أوسع من المقاتلة.

وأما احتجاجهم بترخيص الشارع في الزواج بالكتابية وأن هذا ينقض كل الآيات والأحاديث والآثار وإطباق المذاهب الأربعة.. فقائل هذا الكلام ليست إشكاليته إشكالية مسألة مفردة بعينها؛ بل لديه إشكالية منهجية، وهي ترك الأصول الظاهرة وتحويل الاستثناء والمحتمل إلى القاعدة.

والجواب من استدلالهم بأن الله أباح الزواج بالكتابية والزواج يفضي للمودة، أن يُقال المودة الحاصلة بالزواج بالكتابية هي أمر كوني قدري، وأمر الله ببغض الكافر أمر شرعي ديني، وأوامر الله الشرعية لا يعترض عليها بالأمور الكونية، والمحتج بذلك هو نظير من يقول إن الله خلق الخلق مختلفين ولن يزالوا كذلك فلا داعي للأمر بالجماعة والائتلاف، فأبطل أمر الله الشرعي بالأمر الكوني، أو كمن يقول إن الله قضى على العباد أن تقع منهم المعاصي وأخبر أن بني آدم مذنبون خطاؤون، وعليه فلا داعي لأن ننهى الناس عن المعاصي، فأبطل أمر الله بعدم معصيته بناء على الأمر الكوني من وقوع المعاصي، وهكذا، فكيف يعترض على أمر الله ببغض الكفار بأمر كوني قدري وهو وقوع المتزوج في حب زوجته؟

ثم إنه لا يمتنع أن تكون بين الزوجين عداوة دينية؛ كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن: 14] فالله أثبت احتمال قيام العداوة الدينية بين الزوج والزوجة؛ فلا أدري لماذا يأخذون آية (خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ) [الروم:21] والتي تتحدث عن المودة القدرية الكونية ولا يضعون معها هذه الآية (التغابن 14)؟ والتي تثبت احتمال قيام العداوة الدينية؟

ثم إن المودة التي ذكرها الله بين الزوجين لا يلزم منها أن تكون دومًا هي الحب؛ بل قد يكون المراد بها الصلة والإحسان؛ كما قال تعالى: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) [الشورى: 23]؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يطلب أن يتحاب مع كفار قريش، وإنما كما في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال: “إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة”.

ثم إن ما يجده الإنسان في نفسه من الولاء والحب لوالده وشقيقه، أعظم مما يجده من الولاء لزوجته، ومع ذلك قطع الله موالاة الأب الكافر المسالم والشقيق الكافر المسالم؛ كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [التوبة: 23] ثم إن أهل العلم بيّنوا أن مورد الأمرين مختلف أصلًا؛ فبغض الكافر المسالم وعداوته القلبية هي بغض وعداوة قلبيه دينية، أما المودة التي تقع بين الزوج والزوجة فهذه مودة غريزية فطرية، ولا يمتنع أن يجتمع في الشخص الواحد الأمران.

وأما قولهم: إنه يمتنع أن يجتمع في الشخص الواحد المحبة والبغض، وبالتالي فما دام يجوز أن يحب زوجته الكتابية فلينتفِ البغض الديني عنها. فهذا كلام في غاية الضعف العلمي فإن الدواء يجتمع فيه الحب والبغض فهو محبوب من وجه ومبغوض من وجه، وهذا مثال يكرره أهل العلم للتدليل على كيفية اجتماع الحب والبغض في شخص واحد، ونظير ذلك في الشرعيات أن القتال في سبيل الله يجتمع فيه كره طبيعي لما فيه من إيذاء النفوس، وحب شرعي لما فيه من ثواب عظيم.

كما قال تعالى في الكراهية الطبيعية للقتال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ) [البقرة: 216]، وقال تعالى في الحب الشرعي للقتال: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) [التوبة: 92] فانظر كيف أخبر أنهم يكرهون القتال طبعًا ثم تفيض أعينهم من الحزن إذا فاتهم القتال لحبهم إياه شرعًا وديانة.

فمن أنكر الكره الطبيعي للقتال فقد كابر، ومن أنكر الحب الشرعي للقتال فما عرف معنى الإيمان بعد، فإن أثبت اجتماعهما في محل واحد فكيف ينكر اجتماعهما في شخص واحد وهو الزوجة الكافرة؟ وكذلك فإن كل نفس تجد في داخلها كراهية السجن كراهية طبيعية، ولكن لما كان فيه مصلحة شرعية ليوسف عليه السلام صار أحب إليه شرعًا وإن كان يبغضه طبعًا، كما قال تعالى عن يوسف: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ ) [يوسف: 33] وكذلك فإن الإنسان إذا تصدق بأنفس ماله عنده اجتمع في هذا الفعل حب وبغض، فهو يحب ماله طبعًا، ويحب التخلي عنه والصدقة به شرعًا، 
كما قال تعالى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ) [آل عمران: 92]. 
وقال تعالى: (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ) [البقرة: 177]، 
وقال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ) [الذاريات: 8].

وأما قول بعضهم: إن الحب والبغض عمل قلبي يهجم على القلب لا حيلة فيه، وبالتالي يعفى عن حب الكفار. فمؤدى كلام هؤلاء إخراج الحب والبغض عن أصل التكليف، وبالتالي يطال كل أوامر الحب والبغض التي أمر الله بها ورسوله، فصار أمر الله بحبه، وحب رسوله، وحب الأنصار، وحب آل البيت، وغيرها من الشرائع، كلها لغو وعبث لا قيمة له؛ لأن الحب والبغض شأن قلبي يهجم على الانسان ولا حيلة له فيه، ومشهور أن من أعظم خصال الإيمان ما نبه إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده ولده” (أخرجه البخاري /14/ من حديث أبي هريرة).

فلو جاء شخص وقال: الحب عمل قلبي يهجم على المرء بلا حيلة، ولا أجد في نفسي حب النبي أكثر من والدي وولدي. فهل هذا الكلام مقبول؟ ولذلك لما جاء عمر وأخبر النبي بما في نفسه لم يقبل النبي هذا الكلام، وصحح له هذا الفهم، حتى ارتقى إيمان عمر، كما في البخاري: “يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي! 
فقال النبي: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي: الآن يا عمر” (أخرجه البخاري /6623/ من حديث عبد الله بن هشام).

فعمر -رضي الله عنه- حين قال: “لأنت الآن أحب إليّ من نفسي” إنما جاهد نفسه حين عرف ثواب الحب، فالحب والبغض يحصل بالمجاهدة. ولذلك فإنه لما أبغض بعض الناس بعض التشريعات بغضًا دينيًا جعل الله ذلك منهم ردة وخروجًا عن الإسلام ولم يقل الحب والبغض شعور يهجم على القلب لا حيلة له فيه، كما قال تعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ). [محمد: 9].

وأما قول بعضهم: “بعض الكفار يحسنون إلينا، فكيف نكرههم وهم يحسنون إلينا، ولا يوجد إنسان سوي إلا وهو يحب من أحسن إليه، ويجد ذلك في نفسه ضرورة”. 
فهؤلاء المعترضون بمثل ذلك لم يتفطنوا إلى أن الحب هو حصيلة أفعال المحبوب، والبغض هو حصيلة أفعال المبغوض، فهذا الكافر أحسن إليك بمال أو هدية أو ابتسامة لكنه أساء إلى ربك بالكفر، وربك أغلى عليك من نفسك، ولذلك فإساءته لك أعظم أضعافًا مضاعفة من إحسانه المادي إليك، إلا إن كانت نفسك أغلى عليك من ربك وخالقك وصرت ترى أن من أساء إليك فهو مستحق للبغض، لكن من أحس إليك وأساء لخالقك فهو مستحق للحب، فقائل هذا قد جعل نفس أعظم من الله، وإلى هذا المعنى أشار السبكي إشارة بديعة للغاية حين قال في فتاواه: “والذي يظهر أن النفوس الطاهرة السليمة لا تبغض أحدًا ولا تعاديه إلا بسبب إما واصل إليها أو إلى من تحبه أو يحبها، ومن هذا الباب عداوتنا للكفار بسبب تعرضهم إلى من هو أحب إلينا من أنفسنا”.

فمن اعترض بالقول إنه ليس من المروءة أن أبغض كافرًا أحسن إليّ، فيقال له: “بل ليس من المروءة أن تحب كافرًا أساء لخالقك لمجرد أنه رشاك بلعاعة من الدنيا، فخالقك قد أحسن إليك أضعاف أضعاف ما يقدمه لك هذا الكافر، بل لا نسبة للنعم التي أعطاك إياها خالقه ولعاعة الدنيا التي أعطاك إياها هذا الكافر”.

وعلى أية حال، فإن من يستحضر أن هذا الكافر يسيء إلى الله بجحد إلهيته أو نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولم يهجم على قلبه بغضه قلبياً، فهذا يعني أنه قلب ميت، فليبك على قلبه، فإن القلب الحي لا يرضى بأن يساء لخالقه ومولاه، إلا إن كان يعتبر الكفر وجهة نظر شخصية لا تغضب الله.

وأما قولهم: كيف أكرهه وأحبه وقد يكون في داخل الأمر على خلاف ما هو عليه؟ بمعنى: قد أعتقد أنه كافر لكنه في حقيقة الأمر مسلم.

فيقال: الحب والبغض من الأحكام الشرعية، والأحكام الشرعية تتعلق بالظاهر، ولذلك كان تطبيق هذا الحكم على الأعيان مسألة اجتهادية قد يصيب المرء فيها وقد يخطئ خطأ مغفورًا، ولذلك قال ابن تيمية: “ثم الناس في الحب والبغض، والموالاة والمعاداة، هم أيضًا مجتهدون يصيبون تارة ويخطئون تارة”. 

وقبل ذلك نبه الإمام محمد بن الحنفية كما رواه اللالكائي عنه حيث يقول: “من أبغض رجلًا على جور ظهر منه، وهو في علم الله من أهل الجنة؛ أجره الله كما لو كان من أهل النار”.
وأما قولهم: الكفار متفاوتون فكيف نجعلهم سويًا في البغض والمعاداة القلبية؟!. فهذا غير صحيح، ولم يفتِ أحد من أهل السنة بكون الكفار سواء في البغضاء، فإن الكفر يتفاوت في ذاته، كما يتفاوت الإيمان، ولذلك فإنه كما يكون في أهل الخير أئمة في الإيمان، كما قال تعالى: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 74]، فإنه كذلك يكون في الكفار أئمة فيه، كما قال تعالى: (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) [التوبة: ۱۲]، وكما يتفاوت حب أهل الإيمان بحسب رسوخهم وإمامتهم فيه، فكذلك تتفاوت معاداة وبغض الكفار بحسب رسوخهم وإمامتهم فيه.

وأما قولهم: إن تغيير الحكم الشرعي في بغض الكفار سيكون له دور في الترويج للإسلام والدعوة. 

فقائل هذا الكلام عكس النتيجة كليًا؛ بل تحريف النصوص الشرعية في بغض الكفار أعظم ذريعة إلى الطعن في علماء الإسلام ودعاته أنهم كاذبون مخادعون يتلاعبون بنصوص شريعتهم لأجل مصالح حركية.

إنه لا يخدم صورة الإسلام مثل العلم الصحيح الصادق، نعم؛ قد يتدرج العالم أو الداعية في تنفيذ بعض الأحكام، أما تحريف الأحكام الشرعية فهذا لا يقع من عالم صادق لأجل أي مصلحة موهومة، وشتان بين التدرج والتحريف، على أن بعض أهل الأهواء يحتجون بأفعال النبي، وعمر بن عبد العزيز في التدرج على التحريف، فيخلطون بينهما. 

ثم افترض أننا استطعنا عبر عمليات تجميلية لبرلة الولاء والبراء وتحريف نصوص «بغض الكفار»، فماذا سنصنع بقوله تعالى عن الكفار: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ) [الفرقان: 44]؟ وقوله تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال:55]، وقوله تعالى: (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ) [الجمعة: 5]، وقوله تعالى: (إنَّمَا الْمُشركون نجسٌ) [التوبة: 28]، وقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) [التوبة: 1]، وقوله تعالى: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) [الأنفال: 7]، وقوله تعالى: (أعِزَةً على الكافرين) [المائدة: 54]، وقوله: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ ) [الممتحنة: 10]، ونحو هذه الآيات.

فهل سنحرف كل هذه الآيات ونظائرها حتى نقوم بترويج الإسلام والدعوة؟ هناك ملفات كثيرة يريد متفقهة الثقافة الغربية الغالبة العبث بها، لكن آخر ما يمكن أن يحرفوه هو موقف القرآن من الكافر، لقد وضع القرآن الكافر في غاية ما يتصوره العقل البشري من دركات المهانة والحقارة والانحطاط، واستعمل القرآن كل التعابير الممكنة في بيان رجسية الكافر، فأي تأويل يا رحمكم الله يمكنه أن يتلاعب بهذه الآيات القرآنية؟

وهل تدري أين جوهر المشكلة في كلام هؤلاء الذين يريدون تغريب العقيدة ولبرلة الولاء والبراء؟ 

إنها في حرمان المسلمين من أوثق عرى الإيمان: “إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله”. [أخرجه أحمد] وتصرفات متفقهة الثقافة الغالبة في لبرلة الولاء والبراء هي من أوضح النماذج والتطبيقات في تقديم المتشابه على المحكم، وعاهة تقعيد الاستثناءات (أي تحويل الاستثناء إلى أصل، والأصل إلى استثناء)، فالله أمر ببغض الكفار وأجاز نكاح الكتابية، فأخذوا الاستثناء وهدموا به الأصل، فهل هذا إلا فعل أهل الأهواء؟ فكفوا يا رحمكم الله عن تشذيب الإسلام وقصقصته لأغراض التبسم في مؤتمرات إنشائية يخدع بها الحاضرون أنفسهم، قبل أن يخدعوا غيرهم.
المصادر
هذا المقالة للباحث إبراهيم السكران 
وهي مقتطفة من كتابه: سلطة الثقافة الغالبة، ص194 وما بعدها،
  ط: دار الحضارة، ط1، الرياض، 1435.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق