الأحد، 23 أغسطس 2020

الإيمان: أولى الأسرار في صناعة الهمة

الإيمان: أولى الأسرار في صناعة الهمة


اتفقت خلاصات البشر على ضرورة توفر شرط “الإيمان” لصناعة الهمة، وتنوعت المراجع والمؤلفات الإسلامية والغربية التي تؤكد رسوخ هذه الحقيقة.

ولا شك أن المسلمين قد تفوّقوا على بقية الأمم في سمو الروح بالإيمان وفي معرفة الله جلّ في علاه، فكان تاريخهم مضرب الأمثال سواء على مستوى قوة الروح أو القدرة على الثبات أو الانبعاث في أسوأ الظروف المادية أو إقامة حضارة مبهرة ماجدة ممتدة، فقدموا بذلك أفضل نموذج قدوة لصناعة الهمة.

يقول مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في وحي القلم: “الإيمان وحده هو أكبر علوم الحياة، يُبصِّرك إن عميتَ في الحادثة، ويهديك إن ضللت عن السكينة، ويجعلك صديق نفسِك تكونُ وإياها على المصيبة، لا عدُوَّها تكونُ المصيبةُ وإياها عليك، وإذا أخرجَتِ الليالي من الأحزان والهموم عسكر ظلامها لقتال نفس أو محاصرتها، فما يدفعُ المالُ ولا ترد القوة ولا يمنع السلطان، ولا يكون شيء حينئذ أضعف من قوة القويّ، ولا أضيعَ من حيلة المحتال، ولا أفقرَ من غِنى الغني، ولا أجهل من علم العالم، ويبقى الجهدُ والحيلة والقوة والعلم والغنى والسلطان، للإيمان وحده؛ فهو يكسر الحادث ويقلل من شأنه، ويؤيد النفسَ ويضاعفَ من قوّتها، ويَرُدُّ قَدرَ الله إلى حكمة الله؛ فلا يلبثُ ما جاء أن يرجع، وتعود النفس من الرضا بالقدر والإيمان به، كأنما تشهد ما يقع أمامها لا ما يقعُ فيها.”

وبنفس الخلاصة خرج أبو فهر محمود شاكر رحمه الله، حين قال: “الإيمان صيقل الحياة الدنيا، ينفي خَبَثَها ويجلو صدأها، فإمّا ركبها من ذلك شيء، عاد إليها يحاداثها، ويصقلها حتى يتركها بيضاء نقية”.

وسبق الرافعي وشاكر العلامة ابن القيم رحمه الله بخلاصته في باب الإيمان حيث قال في مفتاح دار السعادة: “الإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة: حياة بدنه التي يدرك بها النافع والضار، ويؤثر ما ينفعه على ما يضره ومتى نقصت فيه هذه الحياة ناله الألم والضعف بحسب ذلك، وحياة قلبه وروحه التي يميز بها الحق والباطل والغي والرشاد فيختار الحق على ضده فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإرادات والأعمال”.

وقال في مدارج السالكين:” فَإنَّ الإيمانَ هو رُوحُ الأعْمالِ، وهو الباعِثُ عَلَيْها، والآمِرُ بِأحْسَنِها، والنّاهِي عَنْ أقْبَحِها، وعَلى قَدْرِ قُوَّةِ الإيمانِ يَكُونُ أمْرُهُ ونَهْيُهُ لِصاحِبِهِ، وائْتِمارُ صاحِبِهِ وانْتِهاؤُهُ “.

وقد أثبتت عدة دراسات أجريت لتبيان علاقة الإيمان بالصحة النفسية كان منها دراسة كمال مرسي، أن زيادة الإيمان يؤدي إلى زيادة الصحة النفسية، ونقصانه يؤدي إلى وهن في النفس، فالإيمان سبب للصحة النفسية والصحة النفسية نتيجة للإيمان.

ومن الكتب الغربية التي سلطت الضوء على هذا المفهوم رغم اضطراب قواعدها الإيمانية بارتكازها على النصرانية المحرّفة، كتاب «دع القلق وابدأ الحياة»، وهو الكتاب الشهير الذي ألفه ديل كارنيجي وترجمه عبد المنعم الزيادي وأشار إليه الأديب الفقيه علي الطنطاوي رحمه الله.

وكارنيجي مؤلف أمريكي ومطور الدروس المشهورة في تحسين الذات ومدير معهد كارنيجي للعلاقات الإنسانية، ولد في 1888م عام وتوفي في عام 1955م.
ديل كارنيجي (1888-1955) صاحب كتاب: دع القلق وابدأ الحياة.
وتضمن كتاب كارنيجي بعض خلاصات أستاذ الفلسفة بجامعة هارفارد الأمريكية، وليم جيمس كقوله: “إن أعظم علاج للقلق هو الإيمان”. وقوله: “إن بيننا وبين الله رابطة لا تنفصم، فإذا نحن أخضعنا أنفسنا لإشرافه -سبحانه- تحققت كل أمانينا”.
وقال ديل كارنيجي:”ترى لماذا يجلب الإيمان بالله والاعتماد عليه سبحانه الأمان والسلام والاطمئنان؟ سأدع وليم جيمس يجيب على هذا السؤال: إن أمواج المحيط الصاخبة لا تعكر قط هدوء القاع العميق، وكذلك الإيمان لا تعكره التقلبات السطحية، فالرجل المتدين حقاً عصيٌّ على القلق، محتفظ أبداً باتزانه، مستعد دائماً لمواجهة ما عسى أن تأتي به الأيام من صروف. فلماذا لا نتجه إلى الله إذا استشعرنا القلق؟ ولماذا لا نؤمن بالله ونحن في أشد حاجة لهذا الإيمان؟”.
ويدفعنا هذا لعرض خلاصات فيكتور فرانكل زعيم مدرسة “اللوجوثيرابي” أو ما يعرف بـ”العلاج بإحياء المعنى” حيث قال فرانكل: “إن بحث الإنسان عن معنى لحياته قوة أولية في حياة الإنسان وليست تبريرًا أوليًا لدوافعه الغريزية، وهذا المعنى متفرد وخاص ويجب أن يصل إليه ويحققه الشخص نفسه، وبهذا فقط تتحقق أهميته وترقى هذه الحاجة إلى المعنى لدى الشخص. وهناك بعض الكتاب يؤكدون على أن المعاني والقيم ليست إلا عمليات نفسية دفاعية وتكوين رد فعل وتسامي، ولكن عن نفسي فأنا لا أستطيع أن أعيش فقط في سبيل دفاعاتي النفسية وليس عندي استعداد أن أموت في سبيل تكوين رد الفعل، ولكن الإنسان يستطيع أن يعيش وأن يموت في سبيل مثله وقيمه”.
وفي هذا الكلام اعتراف ضمني بأهمية الإيمان وأثره في تحقيق الحياة الطيبة من فرانكل، الطبيب النفسي الذي قال عنه بعض الباحثين المسلمين: “وربما لو أن فيكتور فرانكل قد درس الإسلام دراسة وافية لأمكنه إكمال ما بدأه في هذا الاتجاه الصحيح”.
وبوضوح أكثر من فرانكل يقول سيرل بيرت، أحد أبرز علماء النفس البريطانيين، مؤكدًا على أهمية الدين بعد إخفاق علم النفس الحديث في تحقيق الراحة التي ينشدها الإنسان: “وإن الدين في تعابيره تتضمن أرقى أفكار الإنسان وأحاسيسه عما يحيط به من ألغاز الوجود وتبين أسمى موقف له نحو معضلات الفناء إذن فمهما يكن رأي عالم النفس في التفصيل فإنه مضطر أن يعترف أن الدين من أكثر العوامل الاجتماعية بقاءً، ومن أقوى الوسائل الفعالة للسمو بحياة الفرد والمجموعة البشرية”.
ويقول د. أ.أ.بريل المتخصص في علم النفس: “إن المرء المتدين حقًا لا يعاني قط مرضًا نفسيًا”.
واتفقت الدراسات النفسية وخلاصات علماء النفس الغربيون والمسلمون على حد سواء على ضرورة العقيدة والإيمان في حياة الإنسان لينعم بحياة مستقرة طيبة وليتمتع بالأمن والصحة النفسية التي تؤهله لأفضل حياة.
وتأتي هذه المقدمة لتقدم حقيقة دامغة لا تقبل الجدال ولا الارتياب في أنه لا حياة بدون إيمان، ولا صناعة للهمة بدون هذا الوصال السماوي باتباع دين الله.
وليس أي دين بلا شك، فجميع الأديان ما عدا الإسلام مشوّهة مليئة بكثير من الانحرافات.
وهذا ما يفسر كون الإسلام أسرع الديانات نموًا وانتشارًا في العالم إذ يجد فيه المعتنقون له ما لم يجدوه في مختلف الأديان الأخرى، بل يجدون فيه كل ما ترقى به النفس البشرية وتسمو وتتجاوز كل عقبات الخوف في الحياة فلا يخشى إلا الله.
يقول محمد عثمان نجاتي: “إن المؤمن الصادق الإيمان لا يخاف من الأشياء التي يخاف منها معظم الناس عادة وهي: الموت، والفقر، والمرض، كما أنه لا يخاف الناس ولا مصائب الدهر وهو ذو قدرة كبيرة على تحمل المصائب لأنه يرى أنها ابتلاء من الله تعالى يجب عليه أن يصبر عليه”.
ثم إن فقدان الإيمان مصيره النهايات الثابتة التي تنتهي لها حياة الملحدين، فمنهم من ينتهي به الحال للانتحار ومنهم من يتخبط ويتناقض فيؤمن حينا ويجحد حينا آخر فلا تستقر نفسيته ولا يعرف الأمن والاطمئنان ومنهم من يتوب ويعود منيبًا إلى ربه بعد أن أدرك عظم جرمه.
ولن تجد ملحدًا في هذه الحياة مطمئن النفس مستقرًا وقادرًا على صناعة شيئ يحمل معنى في حياته، ذلك أن من فقد الإيمان فقد معه كل نور وكل قيمة، كما قال الله تعالى ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) (الأنعام:122).
قال أهل التفسير: “أو من كان ميتا بالكفر والجهل وهوى النفس… فأحياه الله تعالى بنور الإيمان والعلم والمعرفة…. كمن مثله في ظلمات الكفر والجهل أعمى القلب أهذا وهذا سواء؟”.

إن الدين عند الله الإسلام

فالإيمان الصلب المتين الذي نتحدث عنه هو الإيمان بالله وحده لا شريك له، وهو الأصل الذي رسخه الإسلام وقام عليه، فلا يُقبل دين غيره، قال تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران: 19).
يقول ابن كثير في تفسير الآية: “وقوله تعالى ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) إخبار منه تعالى، بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فمن لقى الله تعالى، بعد بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) الآية”.
“ثم بيّن- سبحانه- أن اختلاف أهل الكتاب في شأن الدين الحق لم يكن عن جهل منهم بالحقائق وإنما كان سببه البغي والحسد وطلب الدنيا فقال تعالى (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)”.
وكان من آخر ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
لهذا أيها المسلم وأيتها المسلمة، (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ) ذلك أن أول سر من أسرار صناعة الهمة هو الإيمان المطلق الذي لا يتزعزع ولا يتلجلج، إيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، بتوحيد لا يقبل الشك ولا الشرك. رأس ماله كتاب لا ريب فيه. والتوحيد مُستِقرٌّ في فِطَر عامَّة البشر، فهم مُقِرُّون لله تعالى به؛ قال تعالى ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (لقمان: 25).
ولا يكون الإيمان إلا “بالإيمان الجازم والتصديق التامُّ بالله تعالى وما جاء عنه، وما يجبُ له سبحانه، والإقرار برسالة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وتصديقه والاتِّباع له في كلِّ ما شرَعه الله، وتحقيق ذلك نيَّةً وقصدًا، وقولاً وعملاً بمقتضى ذلك، وتركًا لكلِّ ما ينقص كمالَ الإيمان الواجب أو يُنافِيه ويُضادُّه”.
قال تعالى ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ) (البقرة: 177)، وقال تعالى ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (القمر: 49).
وسأل جبريل عليه السلام – معلما الصحابة- ما الإيمان؟ فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الإيمان: أنْ تُؤمِن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخِر، وتؤمنَ بالقدَر خيره وشرِّه”.
وقال – صلى الله عليه وسلم – جامعا الأركان القوليَّة والعمليَّة للإسلام بقوله: “بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ: شَهادةِ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وصَومِ رمضانَ وحجِّ البيتِ لمنِ استطاعَ إليهِ سبيلًا “.
يقول ابن القيم في الفوائد: “والإيمان حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علما، والتصديق به عقدا، والإقرار به نطقا، والانقياد له محبة وخضوعا والعمل به باطنا وظاهرا وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان، وكماله في الحب في الله والبغض في الله والعطاء في الله والمنع لله، وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده، والطريق إليه تجريد متابعته رسوله ظاهرا وباطنا”.
وذهب كثيرٌ من أهل العلم إلى أنَّ الإيمان في اللغة هو التصديق؛ وذهب آخَرون إلى أنَّ الإيمان في اللغة هو الإقرار أي: الاعتراف بالشيء عن تصديقٍ به. وقال في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بفراسته اللافتة: “فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد”.
وقال بعض السلف: “ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلي، ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال”.
ومن حِكمة الشعر في ذلك قول القائل:
إِيمَانُنَا عَقْدٌ وَقَوْلٌ وَعَمَلْ يَزِيدُهُ البِرُّ وَيَنْقُصْهُ الزَّلَلْ

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

ثم إن معرفة الله عز وجل فطرة راسخة في الإنسان منذ خلقه، وهي أساس الإيمان بالله وهي وسيلة التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وسيلة تورث السكينة والطمأنينة إلى الله تعالى والرضا به رباً ومعبوداً، يعايشها العبد بالتفكر والنظر في آيات الله الكونية والآيات الشرعية، قال تعالى (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:185) وقال سبحانه ( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) (المؤمنون: 68) وقال تعالى(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص: 29) 
ومن تدبر كتاب الله، وتفكر في خلقه سبحانه وتأمل في حكمته وقدرته سينال قدرًا كبيرًا من المعرفة بالله تعالى، بديع السماوات والأرض.
قال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية:”الطريق في معرفة الله تعالى النظر في مخلوقاته، إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخر أسهل من ذلك لسلكه إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم”. 
وقال ابن القيم في الفوائد:” الرب تعالى يدعو عباده في القرآن إلى معرفته عن طريقين: أحدهما: النظر في مفعولاته، والثاني: التفكر في آياته وتدبرها، فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته المسموعة المعقولة”.
وننقل من فوائد ابن القيم في هذا الصدد، استنباطًا رائعًا خلاصته:” القرآن كلام الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في صفات الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق وتنكسر النفوس وتخشع الأصوات ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء.
وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال الدال على كمال الذات، فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحب كلها بحب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح فؤاد عبده فارغا إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء كما قيل:
يراد من القلب نسيانكم     وتأبى الطباع على الناقل
فتبقى المحبة له طبعا لا تكلفا، وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان انبعثت قوة الرجاء من العبد وانبسط أمله وقوي طمعه وسار إلى ربه وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلما قوي الرجاء جد في العمل كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المغل غلق أرضه بالبذر، وإذا ضعف رجاؤه قصر في البذر.
وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة انقمعت النفس الأمارة وبطلت، أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنة رعوناتها فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر.
وإذا تجلى بصفات الأمر والنهي والعهد والوصية وإرسال الرسل وإنزال الكتب شرع الشرائع، انبعثت منها قوة الامتثال والتنفيذ لأوامره والتبليغ لها والتواصي بها وذكرها وتذكرها، والتصديق بالخبر والامتثال للطلب والاجتناب للنهي.
وإذا تجلى بصفة السمع والبصر والعلم انبعث من العبد قوة الحياء فيستحي ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع غير مهملة ولا مرسله تحت حكم الطبيعة والهوى.
وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب والقيام بمصالح العباد وسوق أرزاقهم إليهم ودفع المصائب عنهم ونصره لأوليائه وحمايته لهم ومعيته الخاصة لهم انبعثت من العبد قوة التوكل عليه والتفويض إليه والرضا به، وما في كل ما يجريه على عبده ويقيمه مما يرضى به هو سبحانه والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله وحسن اختياره لعبده وثقته به ورضاه بما يفعله به ويختاره له.
وإذا تجلى بصفات العز والكبرياء أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته والانكسار لعزته والخضوع لكبريائه وخشوع القلب والجوارح له، فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته ويذهب طيشه وقوته وحدته.
وجماع ذلك أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات إلهيته تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة والشوق إلى لقائه والأنس والفرح به والسرور بخدمته والمنافسة في قربه والتودد إليه بطاعته واللهج بذكره والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همه دون ما سواه، ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكل عليه والافتقار إليه والاستعانة به والذل والخضوع والانكسار له، وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته فى إلهيته، وإلهيته في ربوبيته، وحمده في ملكه، وعزه في عفوه، وحكمته في قضائه وقدره، ونعمته في بلائه وعطاءه في منعه وبره، ولطفه وإحسانه ورحمته في قيوميته، وعدله في انتقامه، وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه، ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه، وعزه في رضاه وغضبه، وحلمه في إمهاله، وكرمه في إقباله، وغناه في إعراضه.
وأنت إذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وأفكار المتكلفين أشهدك ملكا قيوما فوق سماواته على عرشه يدبر أمر عباده يأمر وينهى، ويرسل الرسل وينزل الكتب ويرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل ويخفض ويرفع يرى من فوق سبع، ويسمع ويعلم السر والعلانية فعال لما يريد موصوف بكل كمال منزه عن كل عيب لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقه إلا بعلمه ولا يشفع زهد عنده إلا بإذنه ليس لعباده من دونه ولي ولا شفيع.” انتهى.
فسبحان الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور سبحانه الحكيم الخبير علام الغيوب، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور جل وعلا لا تكفي الكلمات لوصف عظمته وقدرته ذو الجلال والإكرام.
وهكذا تنطلق النفس المؤمنة المطمئنة التي لا حول ولا قوة لها إلا بالله، تشق عنان الحياة عابدة لله مستعينه به فتحقق بشاشة الروح والرضى من القلب والثقة بوعد الله وتتجاوز المحن والابتلاءات بثبات وصبر ويقين، لا تركن ولا تطغى خشية من الله وعذاب الآخرة، وتسابق بالخيرات مستقيمة، رغبة في الجنة والمراتب السامقة فينعكس هذا المشهد على المجتمع وعلى الأمة، فتحفظ الحقوق، وتزدهر الحضارة وتتحقق البشرى.
ومما لا يجب إغفاله في هذا المقام، أن المسيرة سيتخللها مكر الشيطان وتربصه قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة: 208) لهذا فسيستمر التدافع بين نزعات الخير والشر في داخل الإنسان حتى يخرج الأعز منها الأذل وهذا يستوجب معرفة بعوامل تعزيز الخير وإخماد الشر، ثم سنتحدث بعدها لزاما عن روعة العطاء ورقي الإنسان وسعادته، فردًا وجماعة وأمة.
وإنه لمن تمام النجاح والفوز أن ينطلق العبد في صناعة الهمة من توطيد وصاله بخالقه سبحانه، بحسن ذكره وشكره وعبادته، بالتفكر في عظمته وقدرته، بإقبال المخلص بقلبه وجوارحه، فلا يكون ممن قال الله فيهم الله سبحانه ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر: 67).
وأي قلب حي يتدبر هذه الآية العظيمة ولا يخشع! ولا يتملكه الوجل، ولا تقشعر من وقعها جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله!
وبقدر حرصك على القرب من الله سبحانه وتعالى بقدر ما تنعم بفضله وكرمه وإحسانه إليك وتلك السكينة والطمأنينة والسعادة التي تقر في قلبك لا تضاهيها سعادة في الدنيا.
وكيف يطيق العبد أن يسير في هذه الأرض المكتظة بالعقبات والتحديات دون أن ينشد توفيق الله ومعيته! كيف يمكنه أن يستشعر القوة دون أن يستمدها من خالقه، كيف يمكنه أن يعتد بنفسه الضعيفة مستكبرا وهو الذي يقعده المرض والشوكة الصغيرة يشاكها!
فجدد الإيمان وأطلق البصر في السماء، واقطع حبال الغفلة بصدق الدعاء والرجاء واللجوء إلى الله سبحانه، قبل أن تخطو أي خطوة ومع كل خطوة وبعد كل خطوة! فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : يقول الله تعالى : ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم ، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) رواه البخاري ومسلم .
وقال الشاعر:
     وإني لأدعو الله حتى كأنني     أرى بجميل الظن ما الله صانع

الإيمان بالنفس

وإن كان الحديث عن الإيمان بالله العظيم يضبط الأصل والمنطلق الذي يقوم عليه أداء المرء السليم، ويكسب المؤمن المعية الإلهية التي لا سبيل للنجاح والنجاة بدونها، فإن هناك إيمان ينضوي تحت هذا الإيمان ألا وهو الإيمان بالنفس ومقوماتها وقدرتها على تحقيق صناعة الهمة، وهو البند الثاني في خطتنا لبناء الهمة، وهو يستدعي المعرفة التامة بالنفس البشرية وسبل حفظ سلامتها وتحقيق رقيها، وإلمام المرء بهذه المعطيات بعد معرفته بالله ونظام هذا الكون، يسمح بمعرفة خصائص نفسه ونقاط ضعفه والتحديات وأسباب التفوق والنجاح.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه “إن البعد عن الله لن يثمر إلا علقما.. ومواهب الذكاء والقوة والجمال والمعرفة تتحول كلها إلى نِقم ومصائب.. عندما تعرى عن توفيق الله.. وتحرم بركته”.
والحديث عن معرفة النفس البشرية حديث تطول فصوله، سنتناوله بعمق أكثر في حلقتنا الرابعة بعنوان “معرفة النفس البشرية لصناعة الهمة”.
فأحسن الظن بالله يا صانع الهمة، وردد إلى لقاء مقبل: “سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته”.
لا إله إلا الله..
من سلسلة “صناعة الهمة” للدكتورة ليلى حمدان.
لقراءة السلسلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق