هل مثَّل حازم أبو إسماعيل حالة من الوعي؟
محمد جلال القصاص
01/08/2020
وإن الذين يقولون بزيادة الوعي عند أبناء الجيل يتكئون على ما يرونه من زيادة في تدفق المعلومات، وكأن كثرت المعلومات يؤدي إلى إرتفاع الوعي، وغير صحيح.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
بعد رحلة على ظهر الأيام كشفتُ فيها عن سياقٍ متصل خلاصته أننا منذ قدم الاحتلال الغربي ونحن لا نفهم ما يحدث. فقط نفهم ما قد حدث. وجاءت بعض الردود من كرامٍ أفاضل فيها: أن هذا ينطبق على الذين من قبلنا أما نحن فنفهم جيدًا ما يحدث. فهل حقٌ ما يقول هؤلاء الأفاضل؟، هل حقًا يفهم الحضور ما يُفعل بهم، أم كالذين من قبلهم؟!
ولا داعي للمقدمات، دعني أعرض مشهدًا من عشرات المشاهد التي تتزاحم في خاطري تريد أن تمثل بين يديك شاهدةً على أن الحضور كالذين من قبلهم، يفهمون ما حدث بعد أن يحدث وينتهي أثره.. على أن الحضور لا يمتلكون إلا الرفض والنية الحسنة في التغيير للأحسن، وأتحدث عن المجموع لا عن الجميع، فدائمًا ثمة من يفهم ويؤسس لواقع جديد.
السلفيون في المشهد الثوري. وهم يهتمون بطلب العلم ونشره، ولا ينفكون من الحديث عن "فهم الواقع". دعنا نتفحص مشهدهم كحالة على أن لا وعي إلا بما قد كان.. على أن مكر الخصوم يمر مرَّ السحاب ونحن تحته فرحين مسرورين نظنه غيث ورضوان ثم هو ريح تدمر كل شيء بأمر ربها...!!
أجمع السلفيون قبل يناير على رفض المشاركة السياسية. بعضهم أحجم عنها تحريمًا لها وبعضهم أحجم لعدم جدواها؛ وحين بدأت نذر الثورة تتجمع في الأفق لم يشاركوا ولم يعلنوا تأيديهم باستثناء الشباب. وشارك الشباب لأنهم شباب مندفعون. ينطلقون من حماسة لا من تنظير وعقلانية في الغالب. وبعد رحيل مبارك أقبل السلفيون وشاركوا في العملية السياسية: أسسوا الأحزاب على قواعد الديمقراطية، وتنافسوا مع بعضهم منافسة حقيقية، وتحالف بعضهم مع "عدوهم" ضد "إخوانهم"، ودخلوا مجلس الشعب الذي كانوا يكفرونه، وساروعوا لبرامج "التوك شو" وأصبحوا نجوم شاشات وواجهات اجتماعية، وتقدموا صفوف المرشحين للرئاسة فهل كانت هذه القفزة المفاجئة بين الضدين عن وعي وبصيرة؟!
تأمل معي في هذه المشاهد:
لم تشارك سلفية الأسكندرية في أحداث "يناير"؛ وفي أول ظهور لها بعد أن رحل مبارك رفعت لواء "الهوية". ثم تبين أن الهدف من إعلان الهوية هو تقسيم صفوف "الثورة" إلى إسلاميين وعلمانيين، بل وتقسيم صفوف الإسلاميين أنفسهم إلى مدافعين عن الهوية ومساندين لأعداء الملة.. أولئك الذين قدَّموا الحريات على المطالب الدينية. ولم تكد تبرح الأيام مكانها حتى بدَّلوا وغيروا وتحالفوا هم مع المخالفين هوياتيًا (جبهة الانقاذ). فهل كان هؤلاء، وهم عِراض غِلاظ في حس من يشاهد، يفهمون ما يحدث؟، أم دُفعوا إلى ما لا يفهمونه إلا بعد حدوثه. أو يفهمونه ولهم فيه مآرب أخرى؟!
وفي القاهرة كان عامة السلفيين يميلون إلى المنهج القطبي، بمعنى تجريم الديمقراطية على مستوى المبادئ وعلى مستوى الأدوات، ويسخرون من الديمقراطية ومن يمارسها، وذات مساء طُلب منهم المشاركة في العملية السياسية، فأقبلوا مسرعين، وأسسوا الأحزاب. حزبًا، ثم حزبين، ثم ثلاثة وأربعة وبدأ التكاثر الميتوزي للأحزاب، وأعرف أحدهم من فئة "عصبي المزاج/ سريع الاشتعال"، لم يجد حزبًا يترأسه، فجلس مع نفسه وافتكس مسمى لحزبٍ، ثم أعلن نفسه رئيسًا لحزب كذا تحت التأسيس؛ ورآه آخر مثله (عصبي المزاج ..سريع الاشتعال) فأعجب بصنيعه فقلده، ولو طال بنا المقام في ساحة الديمقراطية فلربما رأينا عشرات من هؤلاء، كما هو حال الأحزاب الشيوعية مثلًا.
واسأل معي: ما الفرق بين الأحزاب السلفية؟!، ولم لم يشكل التيار الإسلامي كله كيانًا واحدًا؟!، على أي خلفية تمايزوا؟!
ضع المشهد بين يديك وأعد النظر فيه مرة بعد مرة، وسل معي: هل هؤلاء أهل وعي؟!؛ أم مزيج من الجهل بالواقع وحب الذات؟!
لن تجد غير هذه الإجابة التي توصلتُ إليها بعد النظر أكثر من مرة في حالهم من فوقهم ومن بينهم: بحث عن الذات في إطار تدين، وهو سياق مضطرد في ساحة المتدينين، فما حدث من منافسة في ساحة الديمقراطية امتداد للمنافسة في المساجد.
والشيخ حازم صلاح أبو اسماعيل: هل مثَّل حالة من الوعي بالخصوم ومكرهم؟!
إذا نظرت للدائرة الداخلية (داخل مصر) فقد كان يعي جيدًا أن ثمة من يمكرون، وأشار إليهم، وانتصب في وجههم، ولكن: غاب سؤالٌ: هل يقدر الشيخ على قفز المفازة بالفقراء والمساكين؟، هل يقدر على خوض غمار المواجهة بالمبعدين عن كل أسباب القوة؟!، هل كان من العقل أن يواجه بالجماهير دون أدنى أدوات القوة؟!، هل كان من العقل أن تحسب الحسابات على مستوى قطر واحد في عالم متماسك ومترابط ويدار برأس واحدة؟
أجابت الأيام بأفعالها المؤلمة المرَّة. وتبين بوضوح أن الجماهير إحدى أدوات الفعل، وتستدعي للمشهد مؤقتًا ثم تُخرج رغمًا عنها وإلى حيث لا تريد. وقد أسهبت في هذا أكثر من مرة (انظر: ثورة جديدة شدة جديدة).
إن مشهد الشيخ حازم يحتاج لدراسة من عدة نواحي، أهمها:
أولًا: موقف السلفيين منه، وكيف أن التكتلات السلفية نفَرت منه ونفَّرت عنه، ولم يتبعه إلا عوام السلفيين وقلة من خواصهم، وكثير من هذه القلة كان طامحًا في مغنم يحققه من الاكتساح الجماهيري للشيخ، وقد اختلفوا عليه واستداروا له واستعدوا لمنازعته قبيل الانتخابات البرلمانية، وبدأ الحديث عن تسفيه رأيه وصنعه من داخل الدائرة القريبة جدًا منه، وإن كذبوني تحدثت بالأسماء، وأرجو أن لا أضطر لذلك.
ثانيًا: أين مؤيدوا أبو اسماعيل، مع كثرتهم؟، وبالتالي ما السبب الرئيسي في التأييد؟ ما الذي جمَّع الناس سريعًا ثم انصرفوا كأن شيئًا لم يكن؟!
وقد تكون الإجابة على هذا السؤال في مثالية الخطاب الذي تبناه الشيخ حازم، وهذا يأخذ البسطاء من الرجال وعامة النساء بعيدًا، فالبسطاء (مهما كان رقيهم التعليمي) لهم عقلان: عقل جمعي وعقل فردي، ويتحركون سريعًا للعقل الجمعي أو للخيال- وجرب أن تحدث زوجتك- أو طفلك- بأنك حين تمتلك مالًا ستشتري لها سيارة فارهة، وتسكنها فيلا واسعة، وتذهب بها لمكة والمدينة تتسوق وتسكن الفنادق وترى فخامة البناء في المسجدين في كل عامة مرة أو مرتين، ستصدقك وتنتشي وتدعو لك وإن كانت تعلم فقرك، وكذبك، وإن كانت عاقلة متفوقة دراسيًا-، وحين يواجهون الواقع يهربون للماضي يتحدثون عنه بحنين العشاق. وللأسف هؤلاء أكثر من في المشهد. وصوتهم عال. والعقلاء تائهون بين الأقدام. هذا ما حدث مع أبي إسماعيل: حلم في الطرح، فنصرة من الحالمين، فواقع شديد الألم. ولازال يستحضر من باب أحلام اليقظة، ولا أحد يريد أن يدرس الظاهرة ويستخلص منها العبر. وقفوا عند اللحظة التي استعذبوها ويريدون الرجوع إليها، والله يقول: {وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ} [محمد:4] .
ويضاف إلى العقل الجمعي الذي يسيطر على الجميع في وقت الأزمة أن أغلب المتدينين يعظمُ الموقف الرافض دون أن ينظر لتبعاته، يعظم المقاومة وإن كانت ذات أثر سلبي، ولا رؤية لفعل ممتد.
ثالثًا: مسئولية أبو اسماعيل عن دفع الحالة الإسلامية للمواجهة الصريحة مع العلمانية بأذرعها المختلفة فكان ما كان. إذ لم يكن الإخوان (وهم رأس الإسلاميين يومها) ينتوون الترشح للرئاسة أو حيازة أغلبية في البرلمان.
رابعًا: طبيعة الشخصيات التي قربها أبو اسماعيل منه، وهو شيء يتحدث عنه الجميع في مجالسهم الخاصة.
وإن الذين يقولون بزيادة الوعي عند أبناء الجيل يتكئون على ما يرونه من زيادة في تدفق المعلومات، وكأن كثرت المعلومات يؤدي إلى إرتفاع الوعي، وغير صحيح. فعمليًا نُزعت البركة من أدوات المعرفة، بفساد القائمين عليها. فالتطور في الأدوات التقنية أدى إلى ربكة معلوماتية، وأدى إلى شغلٍ بما قلَّ- أو انعدم- نفعه، ولذا فقدنا العمق والسكينة، وكثر اللهو والعبث.. بعدنا عن الجد.. إلا قليل.
شيء مهم في التفسير والتحليل:
المعنيون بتفسير الظواهر السياسية في الأكاديميات لا يعطون العوامل النفسية كبير اهتمام، والسبب- في الغالب- حضور المدرسة السلوكية التي تبحث عما يقاس رقميًا (التحليل الإمبريقي)، والسبب هيمنة المناهج العلمانية الوضعية التي لا تؤمن بغير الماديات (ما تراه بعينها) وتكاد تجحد الضمائر وما انطوت عليه الصدور..
تقول الوضعية: الكل خلف مصلحته. وهذا صحيح، ولكن: المصلحة يحددها بُعد نفسي.. شهواني أو عقدي، ما يعني أن البعد النفسي هو الأساس في تحليل الظواهر السياسية والاجتماعية، فالاختلاف والشقاق سببه في الأساس أمراض نفسية لا غياب الحقيقة أو التباسها، يقول الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۚ} [الشورى: 14] ، فالفرقة جاءت بعد العلم والسبب هو البغي. وفي قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيم} [آل عمران:105] قدَّم الله الفرقة على الاختلاف مع أن الذي نراه بأعيننا في الواقع غير ذلك ليبين لنا أن أمراض النفوس هي السبب.
يقرر أحدهم أن يفترق ويعزم على ذلك، ثم يظهر خلافًا يبرر به فرقته. فالخلاف أداة في الغالب والمرض الحقيقي هو مرض النفس، ولذا اتجه القرآن الكريم للقلوب يداويها بترهيبٍ وترغيب وربط كل شيء بالله وما أعده في الآخرة للمتقين والعاصين. فإلى القرآن.. مأدبة الله. إذ لا بد من سلامة القلب مع سلامة العقل كي نحصل على وعي صحيح، ( {أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰب} [الزمر:18] .
محمد جلال القصاص
مساء الأربعاء 23ربيع أول1441هـ20/11/2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق