محمود سامي البارودي: يقود ثورة الأحرار ضد الذل!
هناك الكثير من الشخصيات في تاريخنا المعاصر يمكن أن تسهم دراستها في تطوير علم القيادة، منهم محمود سامي البارودي الذي قاد حركة التجديد في الشعر العربي الحديث، وأعاد لشعراء العرب القدرة على التعبير عن آمال الأمة في الحرية والاستقلال، ورفض الخضوع للاستبداد والاستعمار.
وكان البارودي أحد قادة الثورة العرابية ضد استبداد الخديو توفيق، حيث مثلت تلك الثورة محاولة لإنقاذ مصر من الغرق في الديون؛ التي كانت المبرر الذي استخدمته دول الاستعمار للسيطرة على الاقتصاد، وإفقار الشعب بجباية الضرائب لسداد فوائد الديون، ولم يكن أمام الاستبداد سوى الاستنجاد ببريطانيا التي احتلت مصر، ليصبح المندوب السامي البريطاني هو الحاكم الفعلي لمصر، وليكون المستبد مجرد خاضع ذليل، يطيع أوامر بريطانيا، وينفذها.
تولى محمود سامي البارودي رئاسة الوزارة التي عبرت عن الثورة، وكافحت لحماية مصر من الاحتلال، والتفّ حولها الشعب المصري، وعلق عليها آماله في تخليصه من فساد الخديو وحاشيته. لذلك شكلت هزيمة الثورة العرابية صدمة لشعب مصر.
النفي بدل الإعدام!
عندما سيطر الاحتلال البريطاني على مصر حكم على عرابي ومحمود سامي البارودي بالإعدام؛ ثم تم تخفيف الحكم إلى النفي إلى جزيرة سرنديب (سريلانكا)؛ فهل يعني ذلك أن النفي يعادل عقوبة الإعدام لزعيم وطني يتطلع له شعبه لأنه يعبر عن أشواقه للحرية والاستقلال؟!
لكن البارودي أطلق لخياله العنان في المنفى، وواجه الوحدة والمرض والغربة بالإبداع، والتعبير عن رفضه للذل، فالأحرار يثورون من أجل الحرية والكرامة، فكانت أول قواعد فلسفة البارودي الثورة ضد الذل مهما كانت التضحيات.
لذلك يقول البارودي:
فلا تعترف بالذل خوف منية * فإن احتمال الذل شر من القتل
ويقول:
عيش الفتى في فناء الذل منقصة * والموت في العز فخر السادة النبل
ويقول أيضا:
وكيف ترون الذل دار إقامة * وذلك فضل الله في الأرض واسع
بذلك يوضح البارودي للأحرار أن القتل أو الموت أو النفي أفضل من القبول بحياة الذل، وهذا المعني يشكل أساسا لحركتهم وكفاحهم لبناء مستقبل أمتهم، والذل يعني الخضوع للاحتلال، والعبودية للطغيان والاستبداد، والوقوف في صف الباطل؛ لذلك فإن المقاومة هي الطريق الوحيد أمام الأحرار لاستعادة الكرامة الإنسانية، وتحرير البلاد والعباد.
ومهما كانت نتائج المقاومة، والآلام التي يمكن أن يتعرض لها الثوار الأحرار فإنهم يتمسكون دائما بالأمل؛ فكما يقول البارودي:
لا بد للضيق بعد اليأس من فرج * وكل داجية يوما لإشراق
بذلك حدد البارودي الطريق أمام الأحرار، الذي يبدأ برفض الذل، وأن الموت أهون على نفس الحر من حياة ذليلة يخضع فيها للاحتلال أو الاستبداد.
في المنفى لا يتوقف الأحرار عن الكفاح
توضح لنا تجربة البارودي في منفاه، أن الأحرار لا يتوقفون أبدا عن الكفاح، وأنهم يمكن أن يحولوا تجربة االمنفى رغم مرارتها وآلامها إلى فرصة يبحثون فيها عن وسائل جديدة لتطوير قدراتهم على قيادة شعوبهم لتحقيق الحرية والعدل، ومقاومة الاستعمار والاستبداد، ونشر العلم.
هكذا فعل محمود سامي البارودي، فتعلم اللغة الإنجليزية، وقام بدور مهم في الدعوة الإسلامية، حيث أصبح خطيبا للمسلمين، الذين توحدوا حوله، وأحبوه لأنه نشر العلم والمعرفة، وربما يكون ذلك أهم الأسباب التي أدت إلى إصدار السلطات البريطانية قرارًا بالسماح له بالعودة إلى مصر، بعد أن أدركت خطورة وجوده في الجزيرة، وأن تأثيره يمكن أن يمتد إلى كل المسلمين في آسيا، وأنه فتح أمام المسلمين آفاقا جديدة للعلم والمعرفة والكفاح.
ليقود تيار التجديد
انتهت تجربة المنفى وعاد محمود سامي البارودي إلى مصر ليصبح من أهم قادة المعرفة، وليصبح أستاذا للشعراء الذين أعادوا للشعر العربي قوته وقدرته على التعبير عن كفاح الأمة، وعن عواطف الإنسان، وأشواقه للحرية والعدل. وفي بيته تجمع الشعراء شوقي وحافظ ومطران وإسماعيل صبري ليتعلموا الشعر والثورة، وليشكلوا مدرسة النهضة في الشعر العربي.
انتهت محنة النفي الطويلة وعاد البارودي إلى أرض وطنه، ولم يمدح بعد ذلك حاكما؛ بل تفرغ لمدح محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز للشعراء الأحرار أن يمدحوا سواه، فمدحه شرف يليق بشاعر حرّ. لذلك نظم قصيدة مطولة في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، تقع في أربعمئة وسبعة وأربعين بيتا، عارض فيها قصيدة البوصيري “البردة”، كان عنوانها “كشف الغمّة في مدح سيّد الأمة “، وسار على نهجه أحمد شوقي بعد ذلك، فقدم للأمة قصيدته “نهج البردة”.
تحويل آلام المنفى إلى إبداع
في المنفى يمكن أن نعيد قراءة شعر البارودي لا لنلتمس بعضا من العزاء، أو نستمد منه القدرة على الصبر، بل لنطلق لمشاعرنا الحرية لتعبر عن الآلام والأشواق؛ فمن حق شعوبنا أن تعرف كيف يعاني الذين يحلمون بحريتها وتحريرها.
يقول البارودي:
أُكَلِّفُ النَّفْسَ صَبْرًا وَهْيَ جَازِعَةٌ * وَالصَّبْرُ فِي الحُبِّ أَعْيَى كُلَّ مُشْتَاقِ
لا فِي سَرَنْدِيبَ لِي خِلٌّ أَلُوذُ بِهِ * وَلا أَنِيسٌ سِوَى هَمِّي وَإِطْرَاقِي
كما يقول:
وَمِنْ عَجَائِبِ ما لاقَيْتُ مِنْ زَمَنِي * أَنِّي مُنِيتُ بِخَطْبٍ أَمْرُهُ عَجَبُ
لَم أَقْتَرِفْ زَلَّةً تَقْضِي على بِما * أَصْبَحْتُ فيهِ فَماذَا الْوَيْلُ والْحَرَبُ
فَهَلْ دِفَاعِي عَنْ دِيني وَعَنْ وَطَنِي * ذَنْبٌ أُدَانُ بِهِ ظُلْمًا وَأَغْتَرِبُ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق