لم نتوقع هذا
أحمد عمر
قليل من يتوقع انتصار غزة، وما النصر إلا من عند الله، أو يأملون نصرا في المدى البعيد، فالعدو المتجهّم من فوق غزة، والقريب المُمّلك أمرها من أمامها، والبحر من ورائها، وليس لها إلا الصبر.
لكن لم نتوقع أن تقتحم حركة محاصَرة مثل حماس حصون إسرائيل الحصينة، خفافا وعلى الدراجات، ولم نتوقع أن تأسر كل هذا العدد من الإسرائيليين، وأن تحتفظ بهم كل هذه المدة، وغزة فيها كثير من العملاء والأعداء والخصوم.
لم نتوقع أن تهاجم حركة صغيرة مثل حماس المحاصَرة، أقوى دولة في المنطقة، حتى أنَّ جيشها يوصف بأقوى جيش في العالم، مدعومة من أقوى دول العالم؛ أمريكا، بريطانيا، فرنسا.. ومعها أقوى الدول العربية أيضا من وراء حجاب، ثم من غير حجاب.
ولم نتوقع أن تستمر الحرب كل هذه المدة الأحقابية، وهي طويلة للطرفين، وقاسية، وهي أشد قسوة على غزة.
لم نتوقع أن تسارع دول عربية إلى نجدة إسرائيل، وأنّ تتداعى لها بالسهر والحمّى، بل وتحثّها على استئصال المقاومة، وتمدّها بالوقود والغذاء والتعزية والمصابرة.
لم نكن نتوقع أن يغلق الحوثي باب المندب من غير قفل، لم نكن نتوقع أن يكتفي حزب الله بالمساندة على الحدود بصواريخ تسقط في الأرض الجرداء غالبا، وقد خسر بعض قادته وكثيرا من جنده، وأمّلَ جمهوره بالرد المزلزل.
ولم نكن نتوقع أن يزيل طوفان الأقصى كل مساحيق التجميل عن أوجه دول الغرب وإسرائيل "الديمقراطية"، كما أزالها عن وجوه الأنظمة العربية، ولم نكن نتوقع أن تشبه إسرائيل أخواتها الأنظمة العربية كل هذا الشبه، وأن تجتمع كل هذه النظائر، الخالق الناطق، في الفتك بالمعتقلين، وفي خرق الدساتير الإنسانية والأعراف المحلية والقوانين الدولية.
لم نكن نتوقع أن تصير إسرائيل دولة مارقة لا تكثرت بقوانين المحكمة الدولية، بل أن تصير منبوذة، كما يقول ديفيد هيرست.
لم نكن نتوقع أن تكون دول مثل البرازيل أو جنوب أفريقيا أو أيرلندا أكثر عروبة من العرب.
لم نكن نتوقع أن يكون "الجيش الأكثر أخلاقية" في العالم أشرّها أخلاقا، لم نكن نتوقع أن يشبه جيش إسرائيل جيش بشار الأسد وجيش بوتفليقة وجيش السيسي، لم نكن نتوقع أن يقصف كل هذه المستشفيات والجوامع والكنائس حفاظا على صورته "النقية" لدى أصدقائه، بل إنه قصف مؤسسات دولية مثل الأونروا، والمشفى المعمداني، وسيارات الصليب الأحمر.
لم نكن نتوقع أن يكون لزعماء العالم ودوله الكبرى التي لها حق الفيتو في مجلس الأمن؛ كل هذا الشبه بالزعماء العرب في الثرثرة والهتاف والصراخ. لم نكن نتوقع أن يبلغ عجزهم منع إسرائيل من قصف المنظمات الدولية، ومنع الطعام والشراب في القرن الحادي والعشرين، الذي بلغت فيه الإنسانية ما بلغت.
لم نكن نتوقع أن نرى أكبر منظمة دولية على كوكب الأرض، هي الأمم المتحدة، تشبه حزب البعث العربي الاشتراكي في عجزه وعطله، أو أن تشبه الجامعة العربية.
لم نكن نتوقع أن تعلمنا إسرائيل الديمقراطية، لكن لم نتوقع أيضا أن تقصف غزة بآلاف الأطنان من الأسلحة بما فيها المحرمة مثل الفوسفور الأبيض، وأن تخسر صورة الضحية المقدسة في القرن العشرين والحادي والعشرين، ولم نتوقع أن يزهد نتنياهو الأيرلندي الأصل، أبيض البشرة، الديمقراطي، في منظمة فتح حاكما لغزة، وأن يسعى إلى التعاون مع العشائر فيها!
لم نكن نتوقع أن نرى رئيس أمريكا شبيها بالرؤساء العرب، في أرذل العمر، متشبثا بالكرسي حتى الرمق الأخير.
لم نكن نتوقع أن نرى خطوط أمريكا الحمراء التي وضعتها لإسرائيل وردية، وأن يكون رئيس البرازيل أكثر مقاومة من رئيس محور المقاومة بشار الأسد، وأن نرى الناس يموتون جوعا، والعالم، كل العالم، عاجز عن مدّهم برغيف الخبز.
لم نكن نتوقع أن يغلب غضب إسرائيل عقلها وحصافتها، أو أن يتبنى نتنياهو شعار الزعماء العرب المفضل في برنامج ما يطلبه الجمهور: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"!
لم نكن نتوقع أن يكون الإسرائيلي الأسير الذي كان يساوي في السلم يا -بن زبيبة- ألفا ومائتي فلسطيني أسير في تجارة الأسرى، رخيصا، فيُقتل بيد الإسرائيليين أنفسهم بتعاليم هانيبعل، فالجيش الأكثر أخلاقية في العالم يقصفهم مع مرتهنيهم كما تقول تحقيقات صحافية إسرائيلية وفرنسية وأمريكية، من واشنطن بوست وليبراسيون وهآرتس.
لم نكن نتوقع أن يصور ملك عربي مشهدا تمثيليا لمعركة، تمثيلا رديئا يشبه ألعاب الأطفال في العيد.
لم نكن نتوقع أن تفسد حركة مقاومة صغيرة محاصرة الحفلة الدولية الكبرى المسماة بصفقة القرن.
لم نكن نتوقع أن تصير وسائل التواصل التي أسسها غربيون شبيهة بالصحف العربية في قوانين النشر، وتضطر الكتّاب والمدونين إلى كتابة آرائهم بالكناية والرمز حتى لا تتعرض إلى الحذف والحجب، أو أن تحظر دولة أوروبية رائدة شعار البطيخ في المظاهرات، ربما حتى لا تشعر الفواكه الأخرى السامية مثل الموز والتفاح، بالتنمر! فالبطيخ أيضا سامي.
لم نكن نتوقع أن توشك أمريكا، بلاد الحريات والديمقراطية وسبّ الرؤساء، على حظر تطبيق تيك توك في أمريكا خوفا من تعاطف الناس مع أهل غزة.
لا يتوقع الكثيرون انتصارا لغزة، وقد وعدت أمريكا بمنعها من النصر، لكن حتى مراكز الأبحاث تكذب مثل المنجمين، تصيب وتخطئ، والدول العظمى تنتصر وتنهزم بجنود لا نراها؛ مثل ثلوج روسيا التي دحرت أقوى جيشين في العالم، أو مثل سقطة من فوق الدرج، وبايدن يتعثر كثيرا، أو فيروس "الصدفة والغباء" وهو فيروس غيّر كثيرا من مجريات التاريخ كما يقول الباحث أريك دورتشميد.. والصدفة والغباء من جنود الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق