الهوى الإسرائيلي في البرهان وحميدتي
لعل من سخريات القدر أن الجنرالين المتقاتلين في السودان، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع في محمد حمدان دقلو (حميدتي) قد اتفقا وثابرا وأبديا حرصاً في الفترة الانتقالية على إقامة علاقات وثيقة مع إسرائيل، تقودهما فكرة أساسية وساذجة إن على السودان أن يقدّم مصلحته، وما قد تعود إليه من هذه العلاقة من فوائد مأمولة من الكيان المحتل، وهذه الفكرة، عدا سذاجتها وبعدها عن الوازع الأخلاقي قبل السياسي، سقطة مهلكة، إذ تخالف المواقف التاريخية المجيدة للسودان وشعبه تجاه حركات التحرّر الوطني في كل العالم، والقضية الفلسطينية خصوصاً. المرجّح أن البرهان ينفذ حزمة مقرّرات جاهزة من النظام القديم، فقد كان رئيس اللجنة الأمنية التي عيّنها الرئيس المعزول عمر البشير، وكانت مهمتها وأد الثورة الشعبية. ومن الناحية الأخرى، استئناف محاولات إبّان النظام السابق لإقامة صلاتٍ مع إسرائيل. يدلل على ذلك اعتراف البرهان، عقب لقائه، في فبراير/ شباط 2020 في أوغندا رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، بأنه عمل ضمن لجنة للتطبيع مع إسرائيل تشكّلت أربع سنوات قبل ثورة ديسمبر (2019) في السودان.
وقد أكّد عبد الفتاح البرهان وشريكه ونائبه حميدتي مراراً إعجابهما بالنموذج الإسرائيلي. ويمكن القول إن تمثّلهما به أوصل عمليا إلى الكارثة المشهودة الراهنة التي جلباها معاً على السودان، وشرّدت أهله، كما لم يحدُث في التاريخ الحديث. وهذا حجم الدمار في الخرطوم وعدد الذين قتلوا جرّاءها وكذا أعداد الهاربين النازحين واللاجئين تماثل الذي نكب به قطاع غزّة وأهله. ومن المهم ذكر ما أورده الجنرال حميدتي في حديث تلفزيوني في الخرطوم وبثقة كبيرة "الناس تشوف مصلحتها وين إسرائيل متطوّرة وكل العالم شغّال مع إسرائيل. نحن نحتاج إلى إسرائيل". ولا شك أن كلّاً من الجنراليْن، البرهان وحميدتي، قد رأى بمنظاره التشابه الغريب في النهج التدميري والقتل إلى درجة الجرائم ضد الإنسانية والموجبة للمساءلة دولياً بين ما أقدما عليه في السودان وما يفعله المحتلّ في غزّة.
من الصعب التكهّن بما سيحدُث غداً في السودان، في غياب السياسة واللاعبين السياسيين والأفكار والمشروع السياسي
وأحيانا يقرّ في أفهام كاتب هذه السطور أن الجنرالين قد استذكرا معاً وطبقا في السودان وصفة من كتاب الجرائم الاسرائيلية نفسه، وبالطاقة التدميرية ذاتها التي جعلتهما يتماهيان مع الكيان الصهيوني من حيث حجم الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية التي تمتد من دارفور إلى الخرطوم، مع اعتبار مساحة السودان والكثافة السكّانية فيه.
هل من مخرج؟ إنه السؤال الذي يبحث عن إجابة في ظل واقع سياسي ضعيف ومنهك. من المؤكّد أن المشهد السياسي في السودان تقوده اليوم اجتهاداتٌ في غياب القوة السياسية القادرة على اجتراح أفكار ومشروع سياسي جدير يفضي إلى المخرج من الحرب العبثية، بحسب وصف الجنرالين لها. ومن الناحية المقابلة، ما تعكسه تحرّكات البرهان الداخلية والخارجية أنه ماض، وباجتهاد، في تنفيذ الفكرة الساذجة إعادة النظام القديم الى الحكم. يظهر ذلك في إبراز مقصود لدور المقاتلين من التنظيم العسكري للحركة الاسلامية الذي بات يتصدّر المشهد العسكري على حساب الجيش، وبصورة بدأت محتشمة، ثم أصبحت سافرة. ويظهر ذلك في زياراته إلى كل من إيران وليبيا بكل ما تمثله من تحدٍّ للإقليم، وإعادة العلاقات مع الحلفاء القدامى. ويبدو أن فكرة إعادة النظام القديم بشراكة مع حركة تقدّم الوريث الشرعي لقوى الحرية والتغيير هي الوصفة القديمة، والتي يتم بعثها مخرجاً أميركياً يتم التوافق عليه لتجنّب توسّع دائرة الحرب. ولكن هذه الخطوة تصطدم بلعنة التمثل بالصهيوني المحتل، فالبرهان اليوم ومعه أركانه في الجيش، ومن خلفهم الراعي الرسمي الحركة الاسلامية، يحرصون على توصيف قوات الدعم السريع بالمستوطنين، ويُنكرون عليهم سودانيتهم. وهذه النظرة بالذات تدخل الحرب إلى دائرة الاستقطاب القبلي الحاد، إذ بات حميدتي يحظى بتأييدٍ متعاظم من القبائل في دارفور، وخصوصاً الرزيقات القبيلة العربية التي ينتمي إليها.
أكّد البرهان وشريكه ونائبه حميدتي مراراً إعجابهما بالنموذج الإسرائيلي
وإذا ما نظرنا الى خطاب البرهان ونائبه الجنرال ياسر العطا الذي هو أكثر سفورا فيمكن قراءة أن الحركة الإسلامية تعد وبجدية لتكرار فصل جنوب السودان، وهذه المرّة على إقليم دارفور ومعه أجزاء من كردفان شمالاً وجنوباً. وفكرة الانفصال ردّدها عمر البشير في السابق، وتحديدا فصل شرق السودان، وتعليله الذي ساقه وقتها إنهم مختلفون عنّا (سكان الوسط النيلي) ومشكلاتهم بلا عدد. باختصار، تسير الخطوات من البرهان وقادة الجيش في وجهة الحرب المفتوحة، الكلّ ضد الكلّ، بجعل دور الجيش يأتي ثانياً مقابل حشد أنصار الحركة الإسلامية من كتائب عسكرية مدرّبة باتت تتصدّر المشهد أخيراً. وقد جلب هذا الحشد العسكري معه فظاعاتٍ، مثل قطع الرؤوس والتمثيل بالقتلى، مع فتاوى غريبة، كالدعوة إلى إخصاء أسرى "الدعم السريع"!!
لذا من الصعب التكهّن بما سيحدُث غداً في السودان، في غياب السياسة واللاعبين السياسيين والأفكار والمشروع السياسي. وما يثير الخوف أكثر أن من يجتهد لإيجاد الحلول (تكتل تقدّم) يفتقر إلى الخبرة والقاعدة الجماهيرية الداعمة. كما أن الأحزاب الكبرى في حالة يرثى لها من الضعف والتشتت وتقدّم السن بقياداتها. ولهذا، المخرج الوحيد المأمول أشبه بعملية قيصرية إقناع الجنرالين بوقف الاقتتال والتوصل إلى اتفاقٍ ما، وعودة مدنية بقيادة من التكنوقراط وبصلاحياتٍ محدّدة تتولى ترتيب المشهد السياسي لمنع الحرب الشاملة والتمزّق الذي سيكون نتيجة حتمية لاستمرار الحرب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق