عندما فاضت دموعي!
لم تذرف عيناي دمعة واحدة منذ بداية حرب الإبادة الجماعية الصهيو-أميركية التي يتعرض لها قطاع غزة منذ حوالي ستة أشهر، رغم قسوة الألم وشدة الصدمة وفداحة التضحيات وبشاعة المعاناة التي يواجهها أهل غزة في كل لحظة من لحظات ليلهم ونهارهم. لم تذرف عيوني دمعة واحدة وهي تتابع هذه التفاصيل، ليس بلادة أو عدم اكتراث، وإنما لأن هذا الصمود الأسطوري لأهل غزة، رغم فداحة المعاناة وضخامة المصاب، لا تواسيه الدموع ولا تكفيه الزفرات، وإنما الإجلال والإكبار والدعم والمساندة والمشاركة بكل أنواعها.
النصر قادم لا محالة، ولكن كيف ومتى وأين، فهذا شأن الله سبحانه وتعالى، وما يدور في غزة لا يعني حركة "حماس" والشعب الفلسطيني فحسب، بل يعني العالم العربي والإسلامي وسائر الأمم التي ترزح تحت وطأة الظلم والاستعباد والفقر والصراعات والهيمنة والاستبداد والفقر والمرض والتمييز والإفساد.
الحرب في معية الله
أما لماذا انهمرت دموعي عند قراءة هذه الآية، فكانت فرحا واستبشارا بالمعنيين اللذين تجليا أمامي فجأة من معانيها التي لا يعترف بها أساطين السياسة؛ المعنى الأول: أن الله مطلع على تفاصيل الظلم الذي يتعرض له سكان قطاع غزة في هذا الحرب، وتفاصيل الألم الذي يعانونه، وتفاصيل الابتلاء الذي وقع عليهم في الأهل والمال والولد، ولكنه سبحانه يمحّصهم ويختبرهم ليعلم الصادق من المنافق، ويعلم الصابر من الجزع. يقول الله تعالى في سورة العنكبوت: ٣ (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)، ويقول عز وجل في سورة آل عمران: ١٤٢ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)، والصابرون أكرمهم الله بالبشرى في قوله سبحانه في سورة البقرة: ١٥٥ (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). والصابرون يوفيهم الله أجورهم بغير حساب، قال تعالى في سورة الزمر: ١٠ (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ).
هذه الآيات تنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو إلى توحيد الله ويحارب الكفار والمشركين والمنافقين، ولكن عندما نقرأها في ضوء ما يدور في غزة، نشعر وكأنها نزلت في أهل غزة، انظر إلى قوله تعالى في سورة الأحزاب: ١٠ (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)، وقد نزلت في معركة الخندق، في العام الخامس للهجرة، وقد ظن بعض المسلمين كل ظن بأن الدائرة على المؤمنين، وظهر النفاق حتى قال بعضهم: كان محمد -صلى الله عليه وسلم- يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر بينما أحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط، أما الصادقون من المؤمنين فأيقنوا أن وعد الله حق، وأن رسوله حق، وأنه سيظهر على الدين كله.
في معركة الخندق؛ ظن بعض المسلمين كل ظن، وظهر النفاق، حتى قال بعضهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر بينما أحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط. أما الصادقون من المؤمنين فأيقنوا أن وعد الله حق، وأن رسوله حق، وأنه سيظهر على الدين كله.
النصر قادم
أما المعنى الثاني الذي استوقفني: فهو أن الله قادر على نصر المؤمنين وكف هذا الظلم عنهم، وقادر على هزيمة أعدائهم. نعم إن الله قادر على نصر أهل غزة وإيقاف هذه الحرب منذ أول يوم، ولكنه يدبر الأمر لهذا الكون وما فيه من أمم وخلائق، على مر الأزمان والعصور، فالنصر قادم لا محالة، ولكن كيف ومتى وأين، فهذا شأنه سبحانه العزيز الحكيم، وما يدور في غزة لا يعني حركة "حماس" والشعب الفلسطيني فحسب، بل يعني العالم العربي والإسلامي وسائر الأمم التي ترزح تحت وطأة الظلم والاستعباد والفقر والصراعات والهيمنة والاستبداد والفقر والمرض والتمييز والإفساد. ولا ندري لعل الله تعالى اختار غزة وأهلها في هذا المكان وهذا الزمان لأمر كبير قادم لا يعلمه إلا هو سبحانه القائل في سورة البقرة: ٢٥١ (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)، وقد ختم الله تعالى الآية بقوله (ذو فضل على العالمين) وليس على المؤمنين فحسب، وقد نقل الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية، عن الإمام الثعلبي قوله "وقال سائر المفسرين: ولولا دفاع الله المؤمنين الأبرار عن الفجار والكفار لفسدت الأرض، أي هلكت" وذكر الثعلبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله يدفع العذاب بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم الله طرفة عين، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}. إنه الدفع الذي يميز الله به الخبيث من الطيب، ويدفع به الظلم ويقيم العدل، ويتحقق به التوازن الذي يفسح المجال للبشرية أن تجد طريقها إلى الله.
وقد يظن ظان أن تمحيص الله بهذه الحرب الجائرة في قطاع غزة، إنما هو لأهلها فحسب، وهذا ظن قاصر، فالتمحيص الإلهي في حرب غزة يتسع ليشمل جميع الفلسطينيين والعرب والمسلمين على وجه الخصوص، على المستويين الرسمي والشعبي في كافة قطاعاتهم ومجالاتهم ومستوياتهم، وربما يتسع ليشمل الأمم غير المسلمة التي تخلط الأخلاق بالرذائل، والعدل بالمظالم، والحقوق بالانتهاكات، والحرية بالاستعباد، والسلام والاستقرار بالقتل والاضطرابات.
إن العالم كله بعربه عجمه، بمسلميه وغير مسلميه، يتألم لما يجري في قطاع غزة من حرب إبادة جماعية جائرة، يقودها التحالف الصهيو-أميركي
إن استحضار معية الله سبحانه مع أهل غزة، وهو العليم الخبير المهيمن العزيز الجبار المتكبر، يجعلنا لا نعتمد على حسابات البشر فحسب، وإنما على حكمة العزيز القدير، وما قدره من مقادير وصرفه من أحوال لأمر الكون وما فيه من خلائق حتى آخر الزمان، كما يجعلنا في حالة استبشار دائمة بوعد الله بالنصر القادم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق