الرؤيا على سبيل المثال، كل الناس مولعون بالرؤيا إلى حد كبير، وجزء من حديث الناس، بل في مجال الإعلام أكثر البرامج التلفزيونية استقطاباً هي برامج الرؤيا ولو كانت بمقابل مادي، لو كان الاتصال بمقابل مادي تجد اندفاعاً من الناس غريباً في السؤال عن الرؤى، والإنسان في الليلة الواحدة قد يرى عدداً كبيراً من الرؤى فيذهب للمعبر ويسأله عنها، وقد تكون هذه الرؤى من أضغاث الأحلام وقد تكون من حديث النفس، وقد تكون مما يراه الناس كلهم في المنام، وقد تكون بسبب كدر نفسي مثل البنات عادة ترى مثلاً حشرات في الرؤيا، هذا معناه أن عندها اكتئاباً نفسياً ليس أكثر، متضايقة ليس غير، ولكن هي تعتقد أن هناك ما يمكن أنه معمول لها عمل أو سحر أو هناك شيء من هذا القبيل، وبعض المعبرين أحياناً يزيد الطين بلة.
الغريب أن هناك معلومات الإنسان يتعجب كيف توصل إليها الناس، كنت أذكر للشيخ عصام قبل قليل أنه يوجد كتاب اسمه نبوءات نوستراداموس هذا مترجم للعربية، وهو مطبوع بكثير من لغات العالم، وقرأت الكتاب، هذا الكتاب تحدث وهو قديم جداً عن تنبؤات وتوقعات غريبة وحصل الكثير منها، حتى الحادثة الشهيرة حادثة السفينة التايتنك التي غرقت في المحيط وكانت كارثة وتم تمثيلها في دراما، هناك رواية تحدثت عما يشبه التفاصيل لهذا الحادث قبل وقوعه بحوالي مائة وخمسين سنة، كيف؟ هذا السؤال، هل هي رؤيا رآها أحد؟ هل هو خيال متطابق مع الواقع؟ هل هو إلهام؟ الله أعلم، لكن هذا يحدث أحياناً، وهو يساق في مجال ولع الإنسان بالتساؤل عن أمور الغيب وأمور المستقبل بدلاً من مجرد الانتظار.
أحياناً بعض الناس قد يلجئون إلى وسائل محرمة مثل التكهن، مثل قراءة الكف قراءة الفنجان، وهذا رأيتهم في تركيا، ناس من الغجر قبائل الغجر وغيرها، تمر فيقول لك: أخبرك، وأحياناً يتبين أنهم فقراء، لو كانوا يعلمون الغيب لاستكثروا من الخير وما مسهم السوء، فهذا دليل على أن فاقد الشيء لا يعطيه، كذلك عملية اللمح والتدبر، هذه قد تحدث الاستبصار لبعض الناس، الله سبحانه تعالى قال: (( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ))[الحجر:75]، التوسم والتلمح والاستبصار هو موهبة، وفي نظري أن هناك موهبة قلما يتم الحديث عنها وهي مواهب روحية، هذه المواهب الروحية ليست كما يظن البعض أن هذا الإنسان تكشف له الغيوب والأستار ويعلم ما لم يعلم غيره، ولكن يكون عند الإنسان رهافة حس وحسن استقراء، وربما يقيض الله للصالحين ملائكة تسددهم وتوفقهم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: ( إن يكن في أمتي محدثون فعمر)، وفي الحديث المروي: ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله )، عمر بن الخطاب كان محدثاً كان ملهماً، ولذلك يقولون: قلما يقول عمر لشيء: أظنه كذا إلا كان كما يظن، وكان عمر يدرك أشياء عجيبة، وذكر هذا في سيرته، منها أنه ذات مرة كان جالساً في أصحابه وشاهد شخصاً مقبلاً من بعيد معه طفل، فلما نظر إليه عمر من بعيد هز رأسه وقال: [ عسى الغوير أبؤساً] -هناك شيء ما هناك بؤس هناك خطأ-، [فلما أقبل الرجل بادره عمر بالسؤال: ما هذا الغلام الطفل الذي معك -رضيع-؟ قال: يا أمير المؤمنين! هذا لقيط وجدته في الشارع وأخذته، -كأن عمر ما قبل الرواية هذه- فجاءه ناس من العرفاء الذين يعرفون هذا الرجل وقالوا: يا أمير المؤمنين! نحن نعرفه وهو رجل صالح -إلى آخره- فصدق عمر ما قاله وكذب ظنه ]، فهنا هذا الظن، ولذلك الله سبحانه وتعالى لما قال: (( اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ))[الحجرات:12]، ما قال: اجتنبوا كل الظن؛ لأن من الظن ما يكون تحرياً وتوسماً وتوقعاً للأحداث.
اليوم علم التوقع أو فقه التوقع أصبح علماً يدرس، ليس مجرد إلهام ولا نظريات ولا اعتماد على استقراء غير محدد أو ادعاء بلا دليل، وإنما أصبح هناك مراكز أبحاث في العالم، في أوروبا في أمريكا في اليابان وفي الدولة الصهيونية في إسرائيل هناك مراكز أبحاث تسهر على جمع المعلومات، والمعلومات لهذا السبب أصبحت نفيسة، كل ما نكتبه نحن في الجوال أو الواتس أب أو تويتر أو الفيسبوك أو نتصل أو نتكلم به كله تمتلكه شركات، ويتحول إلى قيمة شرائية يباع ويستفاد منه ويستثمر ويحلل ويدرس، وهذا ليس سراً هذا أصبح شيئاً محدداً معروفاً.
واحد بنى في سطح بيته غرفة بدون إذن من البلدية أو الجهات المسئولة، فجاءه صديق له وأراه في جوجل في الخريطة، وبدأ يكبر ويكبر ويكبر حتى وصل إلى بيته، وصل إلى بيته وأراه هذه الغرفة المبنية.
فاليوم العالم يحتفل بالمعلومة، ويحتفل بمركز البحث، ويحتفل بالدراسة، وبناء على ذلك يكون عندهم توقع، علينا ألا نبالغ حتى مع وجود هذه المعلومات عندهم، إلا أن الله سبحانه وتعالى يخلف ظنهم، ولذلك قال الله سبحانه في محكم تنزيله: (( فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ))[الحشر:2].
هناك أحداث كثيرة وكبيرة وقعت ولم يكونوا يتوقعونها ولم يحسبوا لها حساباً، ومن ذلك أحداث الربيع العربي التي صرحوا واعترفوا بأنهم لم يكونوا يتوقعونها ولا كانت ضمن حساباتهم وخططهم وظنونهم، ولكن بلا شك أيضاً أن هذه المعرفة وهذا العلم وهذا البحث مهم في عالمنا الإسلامي لا يكاد يوجد من ذلك شيء، وإن وجد فهو قليل جداً ولا يكون مبنياً على دراسات عميقة وصحيحة وشاملة، وإنما هي مجرد انطباعات وتخمين وظنون لا تغني من الحق شيئاً؛ لأنها ليست مبنية على رؤية عميقة وصادقة.
علماً أنه سبحان الله لما تقرأ في القرآن الكريم تجد العجب، أول سورة نزلت: (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ))[العلق:1]، تدبرت فوجدت أن القرآن بدأ بفعل مستقبل وليس فعلاً ماضياً ولا مضارعاً، معروف أن فعل الأمر يتعلق بالمستقبل أو ... المستقبل، فبدأ الله تعالى بالأمر بالقراءة، وهذه دعوة إلى العلم، دعوة إلى المعرفة ... أيضاً، لو تأملت لوجدت فيها إشارة إلى أن عصرك يا محمد ليس عصر المعجزات والخوارق والآيات التي كانت تنزل مع الأنبياء، وإنما هو عصر المعرفة وعصر العلم، والمجاهدة تكون بالعلم وتكون بالحجة وتكون بالبرهان وتكون بالقرآن: (( فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ))[الفرقان:52].
ثم الله سبحانه وتعالى لما يقول: (( الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ))[العلق:1-2]، يتحدث هنا عن الإنسان وبدايته ومراحل تكوينه وتعليمه.
(( عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ))[العلق:5]، إشارة إلى أن هذا الإنسان سيكون له شأن أكبر في هذا الوقت بعد النبوة المحمدية وهكذا كان، يعني لم تصل المعرفة البشرية والتواصل الكوني والإنتاج والإبداع والاختراع والعلم، لم يصل في وقت منذ هبط آدم إلى الأرض- والله أعلم- إلى ما وصل إليه بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث بدأت العلوم تكبر وتنضج، وبدأ الإنسان يعتمد على هذه المعلومات.
ثم قول الله سبحانه وتعالى في السورة نفسها: (( كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ))[العلق:15]، إشارة إلى عزة هذا الدين، وأن المستقبل لهذا الدين، وأن الله توعد المكذبين والمعاندين والذين يحاربون الدين، الذي ينهى عبداً إذا صلى، إن الله سوف يكبتهم كما كبت الذين من قبلهم، فهناك رسالة واضحة جداً في هذه السورة الأولى والحروف الأولى من القرآن الكريم.
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: النبي صلى الله عليه وسلم تحدث كثيراً عن المستقبل، وكتب العلماء وألفوا مثلما ألف نعيم بن حماد وكذلك البخاري ومسلم في الصحيحين وغيرهم من أهل العلم، عندهم كتاب يسمونه كتاب الفتن والملاحم، هذا الكتاب يتحدث عما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم مما يقع بعد موته، مثل: ( لا تقوم الساعة حتى تقتتل طائفتان كبيرتان من المسلمين دعواهما واحدة )، وهذا وقع في قتال المسلمين بعضهم وبعض، وكذلك قول النبي عليه السلام عن الحسن بن علي: ( إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين كبيرتين أو عظيمتين من المسلمين )، وهكذا وقع، وهلم جراً مما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في مجال السياسة.
حتى في مجال الحياة الاجتماعية مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما، وذكر: رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس )، وهذا إشارة إلى عملية الظلم والاستبداد والتعذيب الذي نشاهده اليوم في بلاد المسلمين على وجه الخصوص أكثر مما نشاهده في أي مكان آخر في العالم، ثم قال: ( ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت )، وهذا أيضاً إشارة إلى ما نشهده اليوم في بيوت الأزياء، وعمليات الاستعراض في المحافل والملاهي والقنوات الفضائية وغيرها، مما يحاول فيه الغرب ودهاقنة الرأسمالية إلى تحويل المرأة إلى سلعة للبيع للشراء للتسويق للترويج.
إضافة إلى أحاديث لم نرها حتى الآن، فستجد في البخاري ومسلم والكتب التي ذكرت أحاديث كثيرة قد يحاول بعض الناس تنزيلها على حال معينة، وهذا من أخطر ما يكون التعاطي مع أحاديث الفتن، ففي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر فيه الشام: ( وأنكم تصالحون الروم صلحاً آمناً، وتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم فتغنمون وتسلمون، فيقوم رجل من أهل الصليب ويقول: غلب الصليب ) إلى آخره، وذكر فيه الغوطة وذكر فيه دمشق، وذكر فيه أشياء، فبعض الناس يستعجلون هذا الخبر النبوي عملياً، كأنهم يستدعونه من خلال أعمال وتصرفات ومبادرات ما أذن الله بها؛ لأن هذه الأحاديث لم نتعبد بها، وإنما هي من الغيب الذي إذا وقع ورأيناه قلنا: (( هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ))[الأحزاب:22]، لكن لم يأمرنا الله أننا نستدعي هذه الأوضاع، أو نحاول أن نستعجلها: (( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا ))[الشورى:18]، لا تستعجل هذه الأشياء، هذا أمر إلهي رباني ليس تعبدياً للبشر، هذا نمط من الاستعجال.
النمط الآخر من الاستعجال: هو أن بعض طلبة العلم يتعاطون مثل هذه الأحاديث ويتسرعون في تنزيلها على أوضاع معينة، وعلى سبيل المثال في زمن الإمام ابن كثير وابن الأثير المؤرخون ذكروا حالات معينة، وعلماء في وقتهم وقبل وقتهم، كانوا إذا جاءت واقعة مثل واقعة التتر المغول أو أزمة من الأزمات نزلوا بعض الأحاديث عليها، وقالوا: هذا خبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تذهب ويتبين أن الأمر ليس كذلك، وليس غريباً أن نجد مثلاً الحديث الوارد في المهدي، يعني كم من الدعوات من المهدي بن تومرت إلى مهدي مكة أو متمهدي، وكنا نذكرها آنذاك، كنا شباباً حدثاء، فنسمع أصدقاءنا الذين كانوا معنا في الدرس كل واحد منهم ينقطع عنا، أين ذهب فلان؟ قالوا: ذهب مع الجماعة من أهل الحديث، ما هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء شباب عندهم علم ويقرءون في السنة وإلى آخره، بعد فترة بدأت تتوارد عليهم رؤى بظهور المهدي، يأتي واحد من القصيم وآخر من الكويت وثالث من الرياض ورابع من مصر، سبحان الله! الفتنة أحياناً يقيض لها، وكلهم يقولون: رأينا المهدي رأينا المهدي، ثم أخرجوا من بينهم شاباً وتبعوه، وحدث ما حدث من انتهاك حرمة البيت الحرام، ثم لما حدث هذا وجدنا من يطبق الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( يعوذ عائذ بالبيت، ولن يستحل البيت إلا أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب )، ثم يطبقون هذا الحديث على ما وقع وعلى ما جرى، فالتعاطي مع أحاديث الفتن هو نوع من العلم الخاص الذي لا يتقنه كل أحد، ولا يجوز فيه التسرع والمبادرة، وإنما ينبغي أن يكون هناك تأنٍ، وألا يقف الإنسان عنده كثيراً؛ لأن هذا ليس مما تعبدنا به إلا إذا وقع ورؤي رأياً لا لبس فيه، وصار فيه نوع من الحجة على إخبار النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صدق نبوته، ويكون فيه للمؤمن استرشاد أنه يتجنب مواطن الفتن ولا ينغمس فيها.
يظل أن هذه الأحاديث والآيات الكريمة الواردة هي دعوة وإلهام لنا أنه علينا أن نتقن فن النظر في المستقبل، ليس من خلال التخمين المحض والانطباع العفوي، ولا من خلال التمني، لأن بعض الناس أيضاً يحولون أمنياتهم وأحلامهم إلى مستقبل سيحدث كذا وسيحدث كذا، وهو ليس عندهم معلومات موثقة ولا خبرة ولا رؤية، ولذلك قال معاوية رضي الله عنه: [ إياكم والأماني التي تغر أصحابها ].
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: النقطة الثانية: أن النظر للمستقبل ليس تطلعاً محضاً، بمعنى: أنه ليس مجرد لعبة يحاولها الإنسان، لا، النظر إلى المستقبل عند المؤمن مقرون بالاسترواح، انتظار الفرج من عند الله وانتظار الفرج عبادة، ولذلك في الأزمات: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر التلفت إلى أصحابه وقال لهم: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ فيحدثه أحد منهم، فيفسرها النبي صلى الله عليه وسلم )، ولا شك أن كون النبي عليه السلام يفسر الرؤيا، ( الرؤيا هي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة )، فإذا فسرها الصادق المصدوق أصبحت حقاً لا ريب فيه وأصبحت وحياً، وكذلك النبي عليه السلام نفسه كان يرى رؤى وينزل عليه الوحي، ومن ذلك لما: ( نام عند أم حرام ثم استيقظ مبتسماً يضحك، فقالت له: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: رجال من أمتي ) - رآهم يعني في منامه- ( ملوكاً على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة يركبون ثبج هذا البحر غزاة في سبيل الله، قالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، ثم رأى مثل ذلك عليه الصلاة والسلام )، فهنا تلاحظ أن القصة مرتبطة بفرج لهذه الأمة، لهذا الدين، بزوال هم أو غم أو كرب، مرتبطة بحلم جميل، والحلم جزء من المستقبل، شريطة ألا تحرق هذا الحلم بتصرف أرعن.
الذي لا يحلم ما هو بإنسان، آدم في الجنة أعطاه الله غريزة الحلم، ولذلك الشيطان أغراه بأن يقول: (( يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ))[طه:120]، النبي صلى الله عليه وسلم كان من أحلامه أن يقول: ( وددنا أنا رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: لا، أنتم أصحابي، وإخواني هم الذين لم يأتوا بعد )، إلى قوله عليه السلام: ( للصابر منهم على دينه أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله خمسين منا أو منهم؟ قال: بل منكم )، انظر كيف جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين البشارة ببقاء هذه الأمة جيلا بعد جيل ورعيلاً بعد رعيل، وفي نفس الوقت تحدث عن المعاناة، وكيف أن هؤلاء صابرون، فالواحد منهم يلقى العنت، ويكون ( مثل القابض على الجمر ).
وكذلك في القرآن الكريم لما الله سبحانه وتعالى يلهم رسوله عليه السلام أن يقول لخصومه وأعدائه: (( فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ))[التوبة:52]، فـ(( تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ))[الطور:31]، انتظروا فإني من المنتظرين.
وكذلك لما يقول سبحانه بعدما سرد قصص الأنبياء في سورة ص: (( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ))[ص:88]، انظر وقع الكلام هذا قبل ما يحدث شيء، سورة مكية نزلت والنبي عليه السلام مشرد مطارد وأصحابه، ولكنهم ثابتون مؤمنون، فهو يواعدهم في المستقبل: (( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ))[ص:88].
وكذلك في سورة الصافات: (( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ))[الصافات:171-173]، في سورة النور: (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ))[النور:55].
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
***
إذا ضاقت بك الدنيا ففكر في الم نشرح
فيسر بين عسرين تفكر فيهما تفرح
هذه المعاني ترفع عن المسلم والمؤمن حالة الإحباط واليأس والقنوط والاكتئاب، بعض الناس يتحدث في خطبة أو جلسة، أو حتى لو لم يتحدث في قلبه يحدث نفسه: أنك حيث ما التفت وجدت دماً مراقاً واعتداء على الطفولة وعلى الأنوثة، وعلى الحرية وعلى العدل، وظلماً، وأحياناً يكون باسم الحرية وباسم العدل وباسم الإسلام، وتجد هذا في بلاد الإسلام اليوم خاصة، فمثل هذه الرشحات والمعاني تعدل مزاج الإنسان، تجعله يحس بأن الأمر لله: (( قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ))[آل عمران:154]، وإنما المطلوب منك أن تعمل؛ لأن النظر للمستقبل ليس مجرد أن يكبر الإنسان وسادته ويبدأ يضرب يميناً وشمالاً بالتوقعات، لا، النظر للمستقبل فيه معنى العمل للمستقبل، فيه معنى صناعة المستقبل، فيه معنى على الأقل المشاركة في صناعته.
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: النقطة الثالثة: الذي يقرأ في التاريخ ولو قل أو يفكر يلاحظ أن المستقبل عادة ليس انفصالاً عن الحاضر وليس خطاً جديداً مختلفاً، بمعنى: أن الإنسان لا ينبغي أن يكون عنده أحياناً تصور لمفاجآت خارقة مذهلة، لا، المستقبل هو نتاج الحاضر قد يكون أفضل منه وقد يكون أقل بحسب جهد الناس، ولكن من أكبر الخطأ أن تتصور أن المستقبل هو قفزة ونقلة ليست محسوبة؛ لأن الله تعالى جعل لكل شيء سبباً، وأسباب المستقبل موجودة في الحاضر، فلذلك سبحان الله لما تقرأ في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وهو النبي الخاتم، جبريل يتنزل عليه، القرآن الكريم هو كتابه، آمن به من آمن ودانت له جزيرة العرب، لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث وعشرين سنة من البعثة ما الذي حدث؟ ارتدت قبائل العرب، وخاف أهل المدينة العاصمة وداخلهم ما داخلهم، حتى جاء عمر بن الخطاب الرجل القوي والصلب الشديد إلى أبي بكر الصديق الخليفة وقال له: [ يا أبا بكر! لا داعي لأن نقاتل الناس كلهم وقد تألبت علينا قبائل العرب، دعنا نقاتل الذين ارتدوا عن الإسلام، أما الذين رفضوا دفع الزكاة نؤجلهم-نعطيهم فرصة-، فقال له أبو بكر] الذي يرى بنور الله، هنا انعكست الآية عمر الشديد القوي كان رأيه ضعيفاً أبو بكر اللين، الصديق الهادئ، صاحب تأليف القلوب والنفوس كان رأيه صلباً حاسماً: [ يا ابن الخطاب! أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟! والله لو لم أجد إلا الذر لقاتلتهم بهم، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ]، والشاهد في هذه القصة والسياق: الحمد لله رجعت جزيرة العرب واستقر الأمر للإسلام، ولكن هذا يوحي بأن ما نعبر عنه أحياناً بالدولة العميقة أو الثورة المضادة ما هو بشيء جديد، ما هو بوليد اليوم، حتى إن إبليس نفسه هو جزء من الثورة المضادة، هو جزء من الدولة العميقة، كيف؟ لأن إبليس وجماعته كانوا يعيشون على الأرض، فلما أراد الله خلق هذا الخليفة الجديد الذي هو أبونا آدم، آدم من غرب السودان يا شيخ؟!
مداخلة: ...
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: فلما خلق الله تعالى آدم انزعج إبليس وجماعته؛ لأنهم شعروا أن هناك تكريماً وخاصة الملائكة أيضاً لما قالوا: (( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ))[البقرة:30]، يعني: مثل السابقين الذين هم جماعة إبليس الذين كانوا على الأرض ويعيشون عليها، فأفسدوا وسفكوا الدماء، فالله تعالى قال: (( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ))[البقرة:30]، وأمر الملائكة بالسجود لـآدم، ومن هنا بدأ الحسد والغيظ والحقد من الشيطان، هذه الدولة العميقة، ولهذا تعهد: (( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ))[ص:82-83]، فندرك أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حدث ما حدث واستقرت الأمور، ولكن ينبغي أن ندرك أن المستقبل.. فنحن كشباب أنا والشيخ شباب.
مداخلة: ...
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: فويق الأربعين.
مداخلة: كنا.
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: كنا ولا زلنا.
أسأل اليوم أحد الأصدقاء أقول له: كيف الوالد؟ قال: والله الوالد طيب، وهو تمضي عليه الأيام والليالي ويكبر، قلت: وهو كذلك ما دام حياً، طبيعي هو إما يكبر أو يموت، فأيهما تختار؟
فلما كنا شباباً نتكلم عن تاريخ الإسلام ومجد الإسلام وإلى آخره، وعندنا تخيل أنه ستكون الأمور المقبلة أفضل بكثير من الواقع، والناس كلهم بررة وأتقياء صلحاء، والعالم كله يضج بالتسبيح، والمساجد في كل مكان في العالم، والأمم كلها دانت، من أين لنا هذا التصور يا أخي؟! هذه سنة الله في العباد الصراع بين الخير والشر، النبي عليه السلام لما قال لأصحابه، وهذا أيضاً جزء من الحديث عن المستقبل، لما يقول خباب: ( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة )، هذا المشهد، مشهد النبي عليه السلام متوسد بردة في ظل الكعبة نائم، هذا يوحي لك بالسكينة: (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ))[الفتح:4]، من دون أن يكون عندك سكينة لا تستطيع أن تقرأ المستقبل جيداً، بل ولا تستطيع أن تعمل جيداً ولا أن تعيش جيداً، أنت لن تغير الكون ولن تغير القدر وإنما عليك أن تعمل وتعمل بهدوء وسكينة: (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ))[الفتح:4] النبي صلى الله عليه وسلم كان متوسداً بردة في ظل الكعبة نائماً، وهذا لا يعني تضييع الرعية ولا يعني عدم الاهتمام، لكن هو يعطينا درساً، أنت لما تحبط مشاريعك، وقفت دراستك وتجارتك وعملك بناء على أن الأوضاع والأوضاع والأوضاع .. ما صنعت شيئاً إنما زادت الطين بلة.
( وإذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر ).
( فقالوا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فجلس عليه الصلاة والسلام )، فهم ما قالوا شيئاً، فقط طلبوا منه الدعاء، لكن النبي عليه السلام أدرك أن وراء هذا الطلب قلوباً أمضها الألم واستطال عليها البلاء وتباطأ فرج الله ونصر الله، ولذلك أعطاهم الدرس: ( إن من كان قبلكم يؤخذ الرجل منهم فيوضع المنشار على مفرق رأسه ويشق باثنين، ويحفر له في الأرض فيوضع فيها، ويمزق ما دون لحمه وعظمه من عصب لا يصده ذلك عن دينه )، أعطاهم لفتة للماضي، وهذا درس في الصبر والثبات، ثم انتقل بهم فوراً إلى المستقبل، ما يركز على الحاضر، الحاضر قد يكون مريراً لكنه في الحديث لم يشر إليه قط إلا بإشارة عابرة سأذكرها، انتقل بهم إلى المستقبل فقال:( والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت)، عمق الجزيرة العربية التي كانت مليئة بالوحوش والسباع واللصوص وقطاع الطرق، ( لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه )، ولا أفهم من هذا الحديث الإشارة للأمن فحسب، هي إشارة للأمن لكنها إشارة للحرية، أن الإنسان لا يخاف من الإنسان الذي مثله إنما يخاف الله سبحانه وبحمده، ( لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه )، ثم ختم صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ولكنكم تستعجلون )، هذه الإشارة للحاضر أن هذه مشكلتكم الاستعجال، استعجالكم في قراءة المستقبل أو استعجالكم في مجيء المستقبل، (( وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ))[هود:104].
سبحان الله! في قصة موسى صورة القصص الله تعالى قال: (( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ ))[القصص:4]، وهذا الواقع الآن.
الشيء الثاني: الإرادة الإلهية: (( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ))[القصص:5]، هذا المستقبل يخبر الله به، وهذه القصة قرأها على المنبر مصعب بن الزبير في العراق، فالله بين إرادته سبحانه.
ثم قال: (( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ))[القصص:7]، انظر كيف الانتقال من قضية ضخمة كبرى، تحول في موازين القوى، إلى قصة تبدو صغيرة وعادية جداً امرأة ترضع طفلها هذا كل ما في الأمر، (( فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ ))[القصص:7] الآن خوف، ما قال: ضعيه في أقصى مكان من البيت، ولا قال: خذيه للجيران، (( فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ))[القصص:7]، والبحر غدار، البحر هو الخوف نفسه، ومع ذلك الله سبحانه وتعالى قال: (( فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ))[القصص:7].
(طيب) ما الذي حدث بعد المداولات والقصة الطويلة؟ خرج موسى وبنو إسرائيل من مصر وأغرق الله فرعون وأغرق الله جنده، سقطت الدولة الفرعونية لبعض الوقت أكيد، ومن بقي من بني إسرائيل نهبوا الذي في القصور والمخازن إلى آخره، لكن بعد ذلك رجعت دولة الفراعنة إلى مصر وحكموا أزمنة متطاولة بعد موسى عليه الصلاة والسلام، وكان حكم بني إسرائيل في الأردن والشام وفلسطين، الأرض المقدسة التي هي بيت المقدس التي قال الله لهم: (( ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ))[المائدة:21]، ما دخلوها، نكلوا، ومات موسى لعله لم يدخلها، وإنما دخلوها بعد ذلك بواسطة القائد الجديد والنبي يوشع بن نون الذي هو فتى موسى: (( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ ))[الكهف:60].
فهنا تلاحظ التحولات ما هو دائماً تحولات جذرية وضخمة ولا تقلب الموازين، ولكن المؤمن يفرح بكل تحول إيجابي، الوضع في هذا البلد أفضل الحمد لله، لا تتوقع أن الأمور انقلبت رأساً على عقب، والناس خلعوا ثوباً ولبسوا ثوباً جديداً، أو تركوا طريقاً وسلكوا طريقاً آخر مختلفاً، لا، عود نفسك أنك تستمتع وتفرح وتسر بالإيجابيات، ولو كانت أقل من طموحك وأقل من توقعك وأقل من ظنك، حتى لا يغلب عليك الاكتئاب.
مرة من المرات أحد الشباب كنا في مجلس قال: والله أنا رأيت رؤيا وأتى برؤيا، فأحد الحاضرين تبرع وفسر له أن الرؤيا هذه رؤيا حق، الرؤيا هذه سقوط أمريكا، قلت له: يا حبيبي! أمريكا ما هي بطائرة تسقط بلحظة، أمريكا خمسون دولة وتاريخ عريق، وقوة اقتصادية وعسكرية وسياسية، تبدأ فيها عوامل الضعف وعوامل التخلخل والتحلل والتراجع، وتقوى دول، أمريكا تنسحب من العالم الذي تتدخل فيه وتنكفئ على نفسها وهكذا، بريطانيا الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس كانت تستعمل مصر والهند والشرق والغرب انسحبت، وظلت بريطانيا دولة قوية لها تأثير في السياسة العالمية، ومطبخاً سياسياً غير عادي، ولها نفوذ، فلا ينبغي أن تكون تمنياتنا، والتمنيات التي أحياناً قد يكون فيها بعض البساطة، لأنه حتى لو سقطت أمريكا ما هو البديل؟ القضية أنت جاهز، عندك استعداد وجاهزية وما شاء الله قوة؟ لو كان عندك قوة ما يضرك وجود أمريكا، ممكن تستفيد من وجودها، لكن لأنك ضعيف كل أحد يتغلب عليك حتى لو كان قوة محلية، اليوم في سوريا على سبيل المثال الناس صاروا يترحمون على أمريكا بعد تدخل الروس، فبعض الشر أهون من بعض.
فلذلك المهم هو وجود قوة عندنا، وجود استعداد؛ استعداد نفسي، أخلاقي، تربوي، هل نحن أفلحنا في إدارة الخلاف فيما بيننا؟ الآن مثلاً كبريات المدن فيها ملايين السيارات والبشر، تأتي في الصباح وكلهم منطلقون إلى العمل، فتجد أنفاقاً وكباري وجسوراً ومنعطفات ودوَّارات وترتيبات معينة، الحركة ماشية من أحسن ما يكون، وكل في طريقه، هكذا الخلاف لا يلزم أن يكون الخلاف أن أقف في وجهك أو تقف في وجهي أو أمر أنا أو تمر أنت، يمكن أن نصنع للخلاف جسوراً وأنفاقاً ومعابر وطرقاً متوازية تجعل كل واحد منا يمضي في سبيله، لكن لم نفلح نحن في هذا حتى الآن.
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: النقطة الرابعة: المستقبل ليس سياسياً فحسب، كثير من الناس إذا سألوا عن المستقبل: ماذا تتوقع للدولة الفلانية أو للمستقبل، فالغالب أنهم يقصدون السياسة، ما الذي سيحدث؟ لا، المستقبل ليس سياسياً بحتاً، وحتى السياسة ليست أوراقاً في يد شخص أو إدارة، لا، السياسية تتأثر بالمال، تتأثر برجال الأعمال، تتأثر بالشعوب والجماهير، تتأثر بالإعلام، تتأثر بالمحيط، تتأثر بالظروف، ولذلك ينبغي أن نراعي قضية الفكر في المستقبل، ما هو الفكر الذي نستطيع أن نحفظ به شبابنا من لوثات الإلحاد والمادية والانسلاخ من الهوية؟ ما هو الفكر الذي نستطيع أن نحفظ به شبابنا من الانجراف وراء شعارات الخلافة الوهمية التي تعتمد على القتل وعلى الاستبداد في سبيل ترسيخ دعائمها؟
وهذا أول إخفاق، الخلافة ليست ظلماً ولا أخذاً للناس بالقوة، والخليفة الأول كان يقول للناس على المنبر: [ أنا وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني ]، والخليفة الثاني .. الثالث، اختارهم الناس؛ الرجال والنساء، الكبار والصغار، حتى كانوا يسألون العذراء في خدرها، فينبغي أن نراعي قضية صناعة الفكر.
صناعة السلوك في ظل سيطرة وسطوة الشبكات الإعلامية والإعلام، أتينا السودان فوجدنا بلداً طيباً، أجمل ما فيها البساطة، العفوية، العلاقات الاجتماعية، زواج، عزاء، صلة، تعارف، في الشارع، في الجامعة، في المسجد، في البيت، هذه الروح الاجتماعية، هذا الجمال، هذه البساطة، هذه العفوية هي نعمة، كيف تستطيعون أن تحافظوا عليها في ظل هجمة الإعلام، في ظل الشبكات الاجتماعية الجديدة والانشغالات المختلفة، في ظل التحديات الاقتصادية وغير الاقتصادية، قضية السكن البناء .. إلى آخره؟
خذ هذا المثال: السيارة كمنتج كيف كان أثرها على كل شيء في حياتنا: في بناء المدن، توسعة الشوارع، في الصلاة، في الزكاة، في الحج، في العمرة، في كل أعمالنا؟ السيارة أحدثت تأثيراً هائلاً ضخماً في حياتنا الإسلامية والإنسانية لم تحدثه أعظم حرب في التاريخ، ينبغي أن نقرأ مثل هذه الأشياء.
الأجهزة الذكية اليوم، كل إنسان معه آيفون، العالم كله مختصر هنا، فيه البيع والشراء، والعلاقة والتعاطي، والأمر والنهي، والتأثير والتأثر، والتلقي والإرسال والتواصل، هناك إمكانيات غير عادية، هذا أيضاً تأثيره على نفسيات الناس، على تدينهم، على علاقتهم، هو جزء من قراءة المستقبل.
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: النقطة الخامسة: قضية التغيير: (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ))[الرعد:11]، هنا التغيير ليس مجرد حلم وإنما هو فعل يبدأ من النفس، أنت جاهز في داخلك، هل أنت صافي القلب؟ هل أنت سليم من الأحقاد والحزازات والبغضاء؟ إذا كان الإنسان يفرح بعثرة أخيه المسلم إن عثر فكيف الله سبحانه وتعالى يفرحه بعثرة الأعداء؟! ( الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم )، وفي رواية: ( وأعمالكم )، أن يرى الله منا صفاء القلوب.
فـالتغيير يبدأ من النفس، وهذه هي القوة قوة الأخلاق، الله قد يرزق الإنسان المال فيتغير، أنا أعرف أناساً طيبين لما أغناهم الله تغيروا وابتعدوا، وآخرون على العكس ربما الواحد منهم يمرض فييئس، فأن يكون الإنسان كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [ الفقر والغنى مطيتان لا أبالي أيهما ركبت ].
وحالات الزمان عليك شتى وحالك واحد في كل حال
يكون عند الإنسان قوة نفسية قوة أخلاقية قوة علمية قوة إيمانية، هذا شيء كبير هو التغير هذه القوة، وهنا نكون عصيين على هاجس المؤامرة؛ لأنه دائماً نحن نلقي التبعة والتهمة على خصومنا، هم الذين جعلونا متخلفين ومتفرقين، هم استغلوا، عدوك استغل مشكلات عندك، نعم، والشيطان شخصياً يقول: (( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ))[إبراهيم:22]، ولذلك ينبغي أن ندرك أهمية التغيير الفردي والاجتماعي، وأن التغيير أنواع، هناك تغيير قسري، يتم شئنا أم أبينا، وهناك تغيير اختياري، الأجمل هو التغيير الاختياري الذي نختاره نحن؛ لأننا نتحكم فيه ونحدد وجهته، وهناك تغيير سريع بين يوم وليلة، وهذا التغيير عادة لا يستمر، بينما هناك تغيير متدرج كما يقولون: بطيء ولكنه أكيد المفعول.
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: النقطة السادسة: اليأس والقنوط لا يصنع شيئاً، الله سبحانه وتعالى يقول: (( إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ))[يوسف:87]، المؤمن بالله لا ييئس؛ لأنه يدري أن الفرج من الله، وأن التغيير بيد الله، ويجب أن تدرك أن أعداءك وخصومك الذين تراهم ينتصرون اليوم لو يئسوا ما وصلوا.
الصهاينة اجتمعوا في بازل وكان رئيسهم هرتزل رئيس المؤتمر القومي الصهيوني، وقالوا: إن دولة إسرائيل تقوم بعد خمسين سنة وقامت، كانوا شذاذاً، كما قال الله: (( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا ))[الأعراف:168]، ومضطهدين وتعرضوا لحالات كثيرة من القتل والتجويع والحرب وغيرها ومع ذلك صبروا، وفي الأخير حققوا حلمهم، وهكذا كل المشاريع الموجودة اليوم، دعونا ننظر إلى المشروع الصفوي، هذا المشروع كان حلماً عند أصحابه على مدى ألف سنة يقوم مرة ويخفق، الآن نرى هذا المشروع يتترس بالقوة، بالسلاح النووي إلى غير ذلك.
واقع المسلمين اليوم بدون شك أنه واقع بئيس إذا تلفت الإنسان رأى ما يجري في سوريا مجازر خلف مجازر عدوان عشرات الملايين، أكثر من نصف الشعب السوري خارج سوريا ما بين قتيل وما بين شريد وما بين طريد، وأمم الأرض كلها هناك زحمة في الفضاء السوري زحمة شديدة، من هو الشرطي الذي يقوم بتنظيم الأدوار؟ هذا هو السؤال، في العراق مثل ذلك انهيار كامل لبناء الدولة والمجتمع، في ليبيا صراع، في اليمن أيضاً حرب واختطاف للدولة، وفي بقية بلاد الإسلام ربما أحوال أفضل ولكن ما زالت تئن تحت وطأة حالات من الضعف أو التخوف من المستقبل، والكثيرون يسألون عن الحل.
الحل عند الله سبحانه، ولكن علينا أن نكون متفائلين بأن الأمور إلى أفضل، وأننا إن كنا وصلنا إلى القاع فما بعد القاع إلا بداية الصعود.
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: وهذه النقطة السابعة والأخيرة: نحن نسير نحو الأفضل بحول الله، وأعتقد بإذن الله أن الأمور في العالم الإسلامي ستكون أفضل ولكن علينا ألا نعجل: ( ولكنكم تستعجلون )، لو مدينا في العمر خمس عشرة سنة إلى عام (1450هـ) على سبيل المثال، بدلاً من أن نصبح كل يوم الصباح نسمع الأخبار ونحن نتوقع أنه يوجد تحولات وتغيرات نتمناها، أعط فرصة خمس عشرة سنة وتخيل أن بلاد الإسلام أصبحت أكثر استقراراً وهدوءاً، هذه البلاد وعت أنها لا تستطيع أن تحافظ على أمنها واستقرارها حتى تمنح شعوبها الحقوق والعدالة أو قدراً معقولاً من العدالة، الشراكة في الرأي والقرار والموقف، نتيجة لذلك سيكون هناك عملية التنمية والبناء وتحسن اقتصادي، وبلاد الإسلام فيها خير كثير، في السودان المياه وكما يسمى الحوض النوبي الذي يقال: إنه يحتوي على (10%) من مخزون العالم من الماء، وفي بلاد أخرى النفط، وفي بلاد أخرى ألوان من الخيرات، إضافة إلى المواقع الإستراتيجية في عالمنا الإسلامي.
نحن نرى بوادر إيجابية اليوم، نرى تركيا والسعودية وقطر والسودان وبعض بلاد الإسلام الأخرى في تقارب جيد بينها، بمقدورنا أن نحلم- والحلم جميل كما ذكرت- أن العالم السني بدأ يستفيق، بدأ يحس بأنه بحاجة إلى مشروع لا يستطيع أن يواجه المشاريع المجاورة والمضادة، سواء كان صهيونياً أو صفوياً أو ما شاء الله، إلا بمشروع متكامل، عنده قدرة على احتواء الناس، وعلى التواصل معهم، وعلى تفعيل جوانب الشراكة، وعلى القبول بالاختلاف، وعلى تفعيل دور الشعوب ودور الشباب، وعلى التنمية، وعلى حفظ الحقوق، توقعوا أن هذا سيحدث بإذن الله: (( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ))[ص:88].
نتيجة لهذا سوف تتناقص الهجرة، الشباب الذين يهاجرون إلى أوروبا طمعاً في حياة كريمة وغيرها سيجدون بلادهم أفضل لهم وخيراً لهم، والعالم سوف يسعد بذلك أيضاً، سوف نجد أن هناك انحساراً للعنف والتطرف الذي يعصف بالعالم الإسلامي، ولعله من أخطر التحديات اليوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق