بناء جيش البرهان بالخسران
جعفر عباس
يمر الجيش السوداني بأسوأ أزمة يتعرض لها جيش نظامي، مهمته الأساسية حماية الوطن والدستور والأرواح والممتلكات، فهذا الجيش الذي ظل يحظى بأكثر من 75% من مخصصات الميزانيات السنوية للبلاد على مدى عدة سنوات، ويدير مؤسسات اقتصادية ضخمة، بات يذكر الناس بالجيش الذي ورثه العراق عن رئيس وزرائه الأسبق نوري المالكي، واتضح أنه كان يضم عشرات الآلاف من الجنود الافتراضيين، الذين كانت رواتبهم الشهرية تدخل جيوب بعض المتنفذين من العسكر والمدنيين.
معلوم أن الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، كان فخورا بتشكيل قوات الدعم السريع، وبأنها نجحت في ما فشل فيه الجيش، من تقليم أظافر حركات التمرد في إقليم دارفور، وكان يردد من على المنابر أن محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي "هو حمايتي"، وتباهى أيضا في خطاب جماهيري "تفتخر الدول بأن لها رصيدا من القمح والذهب وغيرهما، وأنا عندي رصيد من الرجال" في إشارة إلى قوات الدعم السريع.
ثم جاء عبد الفتاح البرهان وجلس على كرسي البشير في القصر الجمهوري، مصطحبا معه حميدتي نائبا له، وقام الإثنان بالتنكيل بالقوى التي اسقطت عمر البشير، لكونها طالبت بحكم مدني بالكامل، وأطلق أيدي حميدتي وجنوده في العديد من المدن السودانية، وعملوا فيها سلبا للممتلكات وقتلا للأرواح، ولكنهما لم يفلحا في قمع وإسكات الأصوات المطالبة بجلاء العسكر من القصر، فتواصلت التظاهرات رافعة شعار "ما في مليشيا تحكم دولة"، والمليشيا المعنية بالهتاف كانت قوات الدعم السريع التي يرمز اليها اختصارا ب"ق. د. س"، فكان الهتاف "قاف دال سين قوات ما عندها دين"، وبإزاء ذلك أرعد البرهان وأبرق محذرا من ان من يعادي الدعم السريع، يعادي جيش الوطن من منطلق أن قوات الدعم السريع خرجت من رحم القوات المسلحة، كما ردد الرجل مرارا.
وكما أن اللصوص العاديون يتقاتلون عند توزيع ما سرقوه، فقد اختلف سارقا السلطة في السودان حول تقاسم كراسي، الحكم فكانت الحرب التي زجا فيها بالجيش الوطني وقوات الدعم السريع، والتي ستكمل عامها الأول في نيسان، إبريل المقبل، وكانت المفاجأة التي ما زال العالم كله يقف مذهولا أمامها: قوات الدعم السريع التي صار البرهان يصفها بالمليشيا اجتاحت واحتلت خلال الشهر الأول للحرب، القصر الرئاسي، ومقر مجلس الوزراء، والهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، ورئاسة الدفاع الجوي، ورئاسة جهاز المخابرات، ومجمع اليرموك للصناعات الدفاعية، والقائمة طويلة، ثم احتل الدعم السريع ولاية الجزيرة التي تضم أكبر مشروع زراعي في إفريقيا بما فيه من مدن وقرى ومشاريع ومنشآت، فوق احتلالها ل90% من إقليم دارفور وانحاء كثيرة من إقليم كردفان الغني بالنفط والصمغ والفول السوداني، ولأنه "هاوي وغاوي" حكم دون أن يملك الأدوات والدربة والمؤهلات التي تعينه على ممارسة الحكم، فإنه يقف على المنابر يصم قوات الدعم السريع بالتمرد، وبهذا ودون قصد منه يعود فيقول أن تلك القوات فرع من أصل هو الجيش الوطني، والمتمرد هو من يخرج على سلطة وطاعة "الأصل" .
يعيش الشعب السوداني في حالة صدمة حاليا، فقد ظل معظمه يعي خطورة وجود الدعم السريع في المسرح العسكري والسياسي بعناصره غير المنضبطة، ويطالب بتفكيكها بالدمج في الجيش والتسريح "بمعروف"، وعندما بدأت الحرب بين الطرفين حسب السودانيون عموما أن الأمر سيكون نزهة: ما هي إلا ساعات أو بضعة أيام حتى يمحو الجيش تلك القوات من الوجود، فمنطق الأشياء كان يقضي بأن جيشا عمره أكثر من قرن ولديه أفرع في جميع مجالات النشاط العسكري قادر على سحق قوات الدعم السريع الذين لا يملك أفرادها سوى أسلحة يدوية، فإذا باليد الطولى في الحرب تكون للدعم السريع الذي ما زال يتمدد افقيا في كل الاتجاهات.
لم يعد خافيا أن الجيش السوداني يفتقر إلى قوات مشاة، ولكن لا أحد يعرف لماذا. وأن الجيش اساء تقدير قدرات الدعم السريع، والأدهى من كل ذلك اتضاح ان الدعم السريع كان يعد العدة للمنازلة مع الجيش منذ شهور، وكان وبعلم البرهان يحشد الجند والعتاد في نواحي عاصمة البلاد، بل أن البرهان سمح لتلك القوات بالتمدد في مفاصل البلاد، لأنه وقبل المفاصلة بينه وحميدتي، كان يحسب الأخير قُفّة (سلّة)، يستطيع هو تحريكها من أُذنيها كيفما شاء، لتحقيق غاياته في الانفراد بالحكم، بعد الهاء حميدتي بألقاب ومناصب تدغدغ حواسه وترضي غروره، ولكن فات عليه أن الجلوس في القصر بمسمى نائب رئيس مجلس السيادة رفع سقف طموح حميدتي.
ومنذ شهور والبرهان ينطح في مستودع الخزف السياسي والدبلوماسي، فبعدما طاف دول الجوار طالبا إياها المبادرة بطرح حلول تؤدي الى وقف الحرب، عاد الى البلاد ووجد صقور الجيش يرفضون وقفها، فوقف على المنابر يشتم الجيران "من طرف"، ثم لجأ الى المواطنين مناشدا إياهم أن يحملوا السلاح ويحاربوا من نفس خندق الجيش، وتدافعت آلاف مؤلفة للتطوع وحمل السلاح، ولكن "منين يا حسرة": عندما داهمت قوات الدعم السريع مدينة ودمدني حاضرة ولاية الجزيرة، لم يكن أمام المتطوعين إلا النجاة بجلودهم، لأن معظمهم كان بلا سلاح، ومن كلن بسلاح، لم يكن يملك الذخائر الكافية للتصدي للعدوان.
فكّر البرهان وقدّر وانطلق إلى إيران، التي ظلت العلاقات بينها وبين السودان مقطوعة منذ عام 2016، طالبا السلاح، ولم يكسر الإيرانيون خاطره، واعطوه عددا قليلا من طائرات الدرون (المسيرة) من طراز ابابيل، لأن روسيا تحتكر معظم انتاج ايران من هذه الطائرات لحربها على أوكرانيا، ثم رأى أن يستجدي السلاح من الشطر الغربي من ليبيا، فتوجه إلى طرابلس وكله أمل في أن يحرك لدى الحكومة هناك غريزة الثأر، باعتبار أن حكومة الشرق الليبي بقيادة خليفة حفتر، تساند الدعم السريع وتجد منه السند، وهنا أيضا فات عليه أن شقي ليبيا يخضعان لحظر استيراد السلاح، بينما نار الحرب بينهما مشتعلة منذ عام 2011، فلا خيل عند ليبيا تهديها ولا سلاح.
فاجعة البرهان الأكبر هي أن الإسلاميين الذين يريدون للحرب أن تستمر حتى يتم القضاء على الدعم السريع تماما، باتوا ـ في ضوء بؤس أداء الجيش في الحرب ـ يصمونه بالخيانة، متنصلين عن وزر خلخلة مفاصل الجيش خلال العقود الثلاثة التي حكموا فيها السودان، وصاروا يتكلمون عن أن الخسران لحق بجيش البرهان، وليس بجيش السودان، بينما وفي جميع الأحوال الخاسر الأكبر هو السودان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق