الثلاثاء، 13 مايو 2025

بيني وبينك.. الجوعُ كافرٌ

 بيني وبينك.. الجوعُ كافرٌ

د. أيمن العتوم

كانت العرب تقول: «الجوع كافر».وكانوا يقصدون أنّه كافرٌ في قسوته، فلا يعرفُ الرّحمة، قسوة القلب ليستْ لأخيك ولا لمن تعرفه، فوُصِفَ بالكفر لغرابة الصّفة التي لا تلتصقُ إلا بِمن كان كافِرًا، وفي شِدّته؛ فإنّ الكافر شديدٌ على سِواه، شديدٌ في مُعتقده وفيما يتبع هذا المُعتقد من إلحاق الضّرر بالآخرين، وإنزال الأذى فيهم. 

وكافرٌ في جحوده النّعمة، فإنّه إذا حَلَّ بالإنسان كأنّما أذهبَ عنه نِعمة الشِّبَع، أو نِعمةَ إقامة الأود بما تتبلّغ به النّفس، وتصلحُ معه الحياة.

وفي العبارة دلالةٌ على تأثيرها على النّفس من جهةٍ أخرى، فكأنّ الجوع إذا استحرّ في جسد الجائع فقد يدعوه إلى الكُفر، فلا يعرفُ خالِقه، بل لربّما يسأل كيفَ يحدثُ لي ما يحدث وأنا على هذه الحالة من الحاجة والهَوان، أليسَ لي رَبّ خلقَ هذا الجسد ونفخَ فيه الرّوح وتكّفل برزقهما؟!
وهي عبارة مُوجزة ذات أسلوبٍ خبريّ، يتكوّن من المبتدأ والخبر في أقصر صُوره. 
كلمتان فحسب، والجملة الخبريّة تُشير في لغة العرب إلى الثّبوت، فكأنّهم أرادوا القول: 
إنّه ما ظهر الجوع إلا لازمه الكُفر، وفي العبارة إيحاء يتضمّن دُعاءً يتوجّه فيه المرء إلى الله: تعلمُ يا ربّ أنّ الجوع يلازمه الكُفر، فبحقّ نعمتك التي حفظْتَ بها عَلَيّ ديني ألا تبتليني به.
لربّما كانتْ هذه الدّلالات أو سِواها في ذهن العرب حينَ أطلقوا هذه العبارة أو المثل، لكنّهم ما كانوا - على الأغلب - يتوقّعون أوان التّلفُّظ به أنْ يُصاحِبَ هذا الجوع حِصار، فإذا ضَرَب الإنسانُ الجائعُ في الأرض يبحثُ عن رزقه، ويبتغي من فضل ربّه، فستزول صفةُ الجوع عنه، ويعودُ إليه إيمانه، ولكنْ أنْ يكونَ جوعٌ وحِصارٌ، فيُحبَس الجائع من البرّ والبحر والفَضاء، فلا يجدُ مهما بحثَ لقمة خُبزٍ واحدة يدفعُ بها عن نفسه شبَح الموت، أو حَفنةَ طحينٍ يُعيدُ بها الرّوح الهاربة إلى الجسد، فهذا ما لم يكنْ في حسبان العرب الأوائل أصحاب هذه المقولة.
والجوعُ والحصار لا يقودان إلى غير الموت، فكأنّ العبارة اليوم التي تصدقُ في أهل غزّة (الجوع قاتلٌ)، بدلًا من (الجوع كافر)، لأنّهم كانوا سيقبلون بالجوع الكافر بدلًا من الجوع القاتل. 
ليكنِ الجوع ما يريد، ليكنْ كافرًا، ومُنافِقًا، وقاسِيًا، وطويلًا أو قصيرًا، وعامًّا أو خاصًّا، ولصيقًا أو يأتي مرّة ومرّة، إنّه سيكون مُحتَملًا، لكنْ كيفَ يُمكن أنْ تحتملَ جوعًا قاتِلًا، جوعًا تلمعُ شَباةُ سكّينه في وجهكَ كلّ يومٍ، ويسخر من بقائِكَ حَيًّا، ويتهدّدك بالفناء؟! كيفَ يُحتمل جوعٌ لا يكون معه أملٌ مهما كان ضئيلًا بأنّ له نهاية؟ 
كيفَ يُحتمل جوعٌ تُعدّ معه أضلاع القفص الصدري، وتُرى فيه فقراتُ الظّهر، فقرة فقرة، ويتحوّل فيه الجائع إلى كيسٍ رقيقٍ من الجلد يحملُ كومةً من العِظام؟!
otoom72_poet@yahoo.com
AymanOtoom@

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق