الاثنين، 23 مايو 2016

ابن تيمية ومعركة الحرية (5)

  ابن تيمية ومعركة الحرية
(5)
من الاجتهاد إلى معترك الجهاد

(إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحميه ويحوطه زمن الأمن)
ابن تيمية مخاطبا أمراء مصر

بقلم أ.د. حاكم المطيري
16 شعبان 1437هـ
23 مايو 2016م

لقد كان الدور الأبرز في حياة ابن تيمية الذي بوأه هذه المكانة التاريخية الفريدة في ذاكرة الأمة من بين أئمة الإسلام، وشيوخه الأعلام، هو تصديه لقيادة معركة سياسية وعسكرية استثنائية، لمواجهة غزو المغول وتحرير الشام وحماية مصر منهم، حين عجز الأمراء عن القيام بمسئوليتهم في حماية الأمة وأرضها، وقيامه باستنهاض همتهم، وحضه الأمة على الجهاد في سبيل الله معهم، والرد على من توقف من فقهاء عصره في مشروعية هذا الجهاد بدعوى أن غازان والتتار قد دخلوا الإسلام، وصاروا يؤذنون ويصلون! مما اضطره إلى إصدار الفتاوى تلو الفتاوى في وجوب جهادهم، وبيان الأدلة على صحة اجتهاده، وبطلان رأي من توقف في قتالهم، حتى كادت هذه القضية تكون الأشهر فيما كتبه، وقد أبان فيها عن فقه سياسي راشدي لم يكن للأمة فيه عهد منذ قرون.
وما زال ابن تيمية يخوض معركة تحرير الأمة في كل ساحاتها الفكرية والسياسية والعسكرية، حتى سطع في سماء المجد نجمه، وسطر في سفر الخلود اسمه، ليس كمجدد ومصلح ديني فحسب، بل كزعيم سياسي وقائد مخلص حقق نصرا تاريخيا في فترة حرجة كاد الإسلام فيها أن يصطلم من الأرض، وهو ما لم يكن معهودا في التاريخ الإسلامي بعد العصر الراشدي، حيث لم يعد يتصدى لمثل هذه المهمة إلا الخلفاء والأمراء والقادة السياسيون، الذين قد يكون منه الفقهاء والمصلحون، كعمر بن عبد العزيز، إلا أنه لا يتولاها عادة من هم خارج دائرة السلطة ومسئوليتها.
وقد أورث هذا الدور التاريخي ابن تيمية حب العلماء والصلحاء، والعامة والأمراء، على حد سواء، كما قال الذهبي عنه: (فإنه دائم الابتهال، كثير الاستغاثة، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يدمنها، وله محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه، لأنه منتصب لنفعهم ليلا ونهارا، بلسانه وقلمه، وأما شجاعته ففيها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال، فلقد أقامه الله في نوبة غازان، والتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد، وطلع وخرج، واجتمع بالملك مرتين، وبقطلوشاه، وببولاي، وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول، وله حدة قوية تعتريه في البحث حتى كأنه ليث حرب...).[1]
وقال ابن عبد الهادي: (ما فعله الشيخ رحمه الله في نوبة غازان من جميع أنواع الجهاد، وسائر أنواع الخير من إنفاق الأموال، وإطعام الطعام، ودفن الموتى وغير ذلك، معروف مشهور، ثم بعد ذلك بعام سنة سبعمائة لما قدم التتار إلى أطراف البلاد وبقي الخلق في شدة عظيمة وغلب على ظنهم أن عسكر مصر قد تخلوا عن الشام، ركب الشيخ وسار على البريد إلى الجيش المصري في سبعة أيام، ودخل القاهرة في اليوم الثامن يوم الاثنين حادي عشر جمادي الأولى، وأطلاب -كتائب عسكرية- المصريين داخلة، وقد دخل السلطان الملك الناصر، فاجتمع بأركان الدولة، واستصرخ بهم، وحضهم على الجهاد، وتلا عليهم الآيات والأحاديث، وأخبرهم بما أعد الله للمجاهدين من الثواب، فاستفاقوا وقويت هممهم، وأبدوا له العذر في رجوعهم، مما قاسوا من المطر والبرد منذ عشرين، ونودي بالغزاة وقوي العزم، وعظموه وأكرموه، وتردد الأعيان إلى زيارته).[2]
وقد كان هجوم غازان -حفيد هولاكو وجنكيزخان، وسابع ملوك المغول في المشرق الإسلامي، الذي تولى حكم إيران سنة 693 هـ، واتخذ من تبريز عاصمة له، وتظاهر باعتناق الإسلام سنة 694 هـ، مع وثنيته الشامانية، وعبادته للوثن تنغري، وحكمه بقانون الياسق- على الشام سنة 699 هـ، وكان قد تحالف مع الجيوش الصليبية في سواحل الشام وقبرص والأرمن؛ لحصار المماليك في مصر والشام، وتسليمهم القدس.
قال المؤرخ صلاح الدين الصفدي: (وكان جلوس غازان على تخت الملك في سنة ثلاث وتسعين وست مئة، وحسن له نائبه نوروز الإسلام، فأسلم في سنة أربع وتسعين، ونثر الفضة والذهب واللؤلؤ على رؤوس الناس، وفشا بذلك الإسلام في التتار، وكان صاحب العراقين وخراسان وفارس والجزيرة وأذربيجان والروم...).[3]
ومع تظاهر غازان بالدخول في الإسلام سياسةً -حيث كان عامة سلطانه على بلدان المشرق الإسلامي، وبدأ يستقل عن سلطان المغول في الصين- إلا أنه ظل محافظا على قانون جنكيزخان وثقافة المغول الطبقية التي طبعت ذلك العصر بطابعها، كما يقول الصفدي: (وكان غازان يتكلم بالتركية والمغولية والفارسية، ولكنه ما يتكلم بها إلا مع الخواجا رشيد وأمثاله من خواص حضرته، ويفهم أكثر ما يقال قدامه بالعربي، ولا يظهر أنه يفهمه تعاظمًا لأجل ياسا جنكزخان الخالصة، ولما ملك أخذ نفسه بطريق جنكزخان، وأقام الياسا المغولية، ورتب الأرغوجية لعمل الأرغو، وأن يلزم كل أحد قدره، ولا يتعدى طوره، وأن يكون الآغا آغا والأيني أيني).[4]
وقد كان غازان يطمع بضم الشام ومصر إلى مملكته، كما كان يحلم جده هولاكو، فشن غاراته على الشام وأثار الرعب في قلوب الناس، وقد تحدث ابن تيمية عن أحداث تلك الفترة، وما أصاب الأمة من خوف لهول هذه الواقعة التي كادت تذهب بالإسلام في آخر قلاعه -وما أشبه الليلة بالبارحة حتى في أحوال البلدان وأهلها في ظل الحملة الصليبية الصفوية (الأمريكية الروسية الإيرانية)- فقال عن الشام وأهله وحفظ الله لهم بالجهاد: (وقد جاء في حديث آخر في صفة الطائفة المنصورة "أنهم بأكناف البيت المقدس" وهذه الطائفة هي التي بأكناف البيت المقدس اليوم، ومن يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة هي أقوم الطوائف بدين الإسلام: علما وعملا وجهادا عن شرق الأرض وغربها؛ فإنهم هم الذين يقاتلون أهل الشوكة العظيمة من المشركين وأهل الكتاب، ومغازيهم مع النصارى ومع المشركين من الترك ومع الزنادقة المنافقين من الداخلين في الرافضة وغيرهم كالإسماعيلية ونحوهم من القرامطة معروفة معلومة قديما وحديثا، والعز الذي للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزهم، ولهذا لما هزموا سنة تسع وتسعين وستمائة، دخل على أهل الإسلام من الذل والمصيبة بمشارق الأرض ومغاربها ما لا يعلمه إلا الله، والحكايات في ذلك كثيرة ليس هذا موضعها، وذلك أن سكان اليمن في هذا الوقت ضعاف عاجزون عن الجهاد أو مضيعون له؛ وهم مطيعون لمن ملك هذه البلاد، حتى ذكروا أنهم أرسلوا بالسمع والطاعة لهؤلاء وملك المشركين لما جاء إلى حلب وجرى بها من القتل ما جرى، وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة، وفيهم من البدع والضلال والفجور ما لا يعلمه إلا الله، وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون؛ وإنما تكون القوة والعزة في هذا الوقت لغير أهل الإسلام بهذه البلاد، فلو ذلت هذه الطائفة -والعياذ بالله تعالى- لكان المؤمنون بالحجاز من أذل الناس؛ لا سيما وقد غلب فيهم الرفض، وملك هؤلاء التتار المحاربين لله ورسوله الآن مترفض، فلو غلبوا لفسد الحجاز بالكلية، وأما بلاد إفريقية فأعرابها غالبون عليها وهم من شر الخلق؛ بل هم مستحقون للجهاد والغزو، وأما المغرب الأقصى فمع استيلاء الإفرنج على أكثر بلادهم لا يقومون بجهاد النصارى هناك؛ بل في عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصلبان خلق عظيم، ولو استولى التتار على هذه البلاد لكان أهل المغرب معهم من أذل الناس، لا سيما والنصارى تدخل مع التتار فيصيرون حزبا على أهل المغرب، فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت، هم كتيبة الإسلام، وعزهم عز الإسلام، وذلهم ذل الإسلام، فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز ولا كلمة عالية، ولا طائفة ظاهرة عالية، يخافها أهل الأرض تقاتل منه، فمن قفز عنهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار؛ فإن التتار فيهم المكره وغير المكره، وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة..).[5]

استشرافه المستقبل وقراءته السنن الكونية:
لقد كان ابن تيمية ملهما في معرفة أحكام الله الشرعية، وربطها بأحكامه القدرية وسننه الاجتماعية الكونية، وكان لعنايته بالقرآن فهما وتفسيرا وتأويلا أثر في نفوذ قراءته لسنن الله في الخلق، واستشرافه للمستقبل، حتى ظن أصحابه أنها فراسة منه؛ وإنما هو الاستهداء بالقرآن وهداه، في باب الأحكام والسنن القرآنية والكونية، كما هي سنن الله في الذين خلوا من قبل {ولن تجد لسنة الله تبديلا}، {ولا تجد لسنتنا تحويلا}، وقد اشتهر ذلك عنه حتى قال ابن القيم عنه: (ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورا عجيبة، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم، ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما، أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة، وأن جيوش المسلمين تكسر، وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام، وأن كلب الجيش وحدته في الأموال، وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة، ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام: أن الدائرة والهزيمة عليهم، وأن الظفر والنصر للمسلمين، وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا، فيقال له: قل إن شاء الله فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا، وسمعته يقول ذلك قال: فلما أكثروا علي قلت: لا تكثروا، كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ: أنهم مهزومون في هذه الكرة، وأن النصر لجيوش الإسلام، قال: وأطعمت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو، وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر).[6]
وقد استدل ابن تيمية على ما سيؤول إليه شأن التتار في الشام بالسنن الكونية وبالكتاب والسنة، بما في ذلك ما ورد في باب الفضائل والبشارات في النصوص القرآنية والنبوية، كما جاء في رسالته في فضائل الشام وأهله، حيث قال: (ثبت للشام وأهله مناقب بالكتاب والسنة وآثار العلماء، وهي أحد ما اعتمدته في تحضيضي المسلمين على غزو التتار، وأمري لهم بلزوم دمشق، ونهيي لهم عن الفرار إلى مصر، واستدعائي العسكر المصري إلى الشام، وتثبيت الشامي فيه، وقد جرت في ذلك فصول متعددة، وهذه المناقب أمور... ومن ذلك أنها خيرة الله من الأرض، وأن أهلها خيرة الله وخيار أهل الأرض، واستدل أبو داود في سننه على ذلك بحديثين: حديث عبد الله بن حوالة الأزدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ستجندون أجنادا: جندا بالشام، وجندا باليمن، وجندا بالعراق، فقال الحوالي: يا رسول الله: اختر لي، قال: عليك بالشام؛ فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده، فمن أبى فليلحق بيمنه وليستق من غُدره فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله"، وكان الحوالي يقول: ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه... وحديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الرحمن، تحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم حيثما باتوا وتقيل معهم حيثما قالوا".
فقد أخبر أن خير أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم؛ بخلاف من يأتي إليه أو يذهب عنه، ومهاجر إبراهيم هي الشام، وفي هذا الحديث بشرى لأصحابنا الذين هاجروا من حران وغيرها إلى مهاجر إبراهيم واتبعوا ملة إبراهيم ودين نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان أن هذه الهجرة التي لهم بعد هجرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لأن الهجرة إلى حيث يكون الرسول وآثاره، وقد جعل مهاجر إبراهيم يعدل لنا مهاجر نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن الهجرة إلى مهاجره انقطعت بفتح مكة، ومن ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها في حديث الترمذي، ومن ذلك أن الله "قد تكفل بالشام وأهله"، كما في حديث الحوالي، ومن ذلك "أن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها على الشام"، كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر، ومن ذلك أن "عمود الكتاب والإسلام بالشام"، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت كأن عمود الكتاب أخذ من تحت رأسي فأتبعته بصري فذهب به إلى الشام"، ومن ذلك أنها عقر دار المؤمنين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وعقر دار المؤمنين الشام"، ومن ذلك أن منافقيها لا يغلبوا أمر مؤمنيها، كما رواه أحمد في المسند في حديث، وبهذا استدللت لقوم من قضاة القضاة وغيرهم في فتن قام فيها علينا قوم من أهل الفجور والبدع الموصوفين بخصال المنافقين لما خوفونا منهم، فأخبرتهم بهذا الحديث وأن منافقينا لا يغلبوا مؤمنينا، وقد ظهر مصداق هذه النصوص النبوية على أكمل الوجوه في جهادنا للتتار، وأظهر الله للمسلمين صدق ما وعدناهم به، وبركة ما أمرناهم به، وكان ذلك فتحا عظيما ما رأى المسلمون مثله منذ خرجت مملكة التتار التي أذلت أهل الإسلام؛ فإنهم لم يهزموا ويغلبوا كما غلبوا على " باب دمشق " في الغزوة الكبرى، التي أنعم الله علينا فيها من النعم بما لا نحصيه: خصوصا وعموما..).[7]

أثر عقيدة الجبر والإرجاء على الواقع السياسي:
لقد كان إعلان غازان عن دخوله في الإسلام كاف في إيجاب السمع والطاعة له لدى كثير من فقهاء الإرجاء، كما شاع في الخطاب الفقهي المؤول من أن الإقرار بالإسلام يمنح السلطة حق السمع والطاعة، حتى ولو لم تلتزم بشرائعه وأحكامه، بناء على أصل عقائدي إرجائي يقرر بأن الإيمان هو التصديق وحده، أو الإقرار باللسان فقط، وأن ذلك يوجب الحكم بالإسلام لمن صدق وأقر، واستصحاب هذا الأصل ليس فقط في الحكم للإنسان بالإسلام بما يعصم فقط دمه وماله في ساحة الحرب، بل صار عند هؤلاء الفقهاء -الذين عطلوا الأحكام عن عللها وأسبابها- يتعداه ليجعل لمثله شرعية الإمامة السياسية العامة على الأمة التي توجب السمع والطاعة له، وقتل من خرج عليه!
لقد كان الخلاف في الحكم على فاعل الكبيرة، وظهور رأي الخوارج الذين كفروا الأمة بالمعاصي، واستحلوا قتالها بالشبهة، هو الذي حمل بعض الفقهاء قديما من أهل الرأي على القول بأن الإيمان هو التصديق أو الإقرار فقط، كردة فعل تجاه تطرف الخوارج، ولم يتصورا بأنه سينتهي بالأمر بالمتأخرين منهم إلى طرد هذا الأصل، ليصبح التصديق وحده أو الإقرار باللسان ليس فقط عاصما للدم والحرمة، وإنما موجبا للسمع والطاعة والإمامة!  
وقد كتب غازان إلى أهل الشام فرمانا يدعوهم للدخول تحت طاعته احتجاجا بمثل هذه الآراء حيث يقول: (وجب عليهم وعلى كافة المسلمين طاعتنا لقوله تعالى وأمره بطاعة {أولى الأمر منكم}؛ وعليهم أن يخطبوا على المنابر باسمنا، وعند قرب الوصول إلى بلادهم يستقبلوننا، وتصاحبنا القضاة والعلماء والصلحاء والمشايخ والسادات والفقهاء مرشدين إلى المزارات المباركة من مشاهد الأولياء، ومواقف الأنبياء، مستوهبين من الله تعالى التوفيق لنيل مثوباتهم، وإحراز بركاتهم، وبعد ذلك نقصد الإحرام بحجة الإسلام وزيارة بيت الله الحرام، سيما وهو أكبر قواعد الإسلام؛ إذ هو على كافة، لقوله عز وجل: {ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا}..).[8]
وكذا وجه غازان الفرمان الثاني إلى أهل الشام يحتج عليهم بالقضاء والقدر ليسمعوا له ويطيعوا، فقال: (ليعلم الأمراء والنواب والولاة والقضاة والسادة والصدور والناس كافة بممالك الشام والسواحل أن جدنا جنكيزخان كان ملكًا وابن ملك إلى سبعة جدود في بلاد المغول، وحيث أيده الله تعالى ملك بسيفه ربع الأرض المسكون، ولم يبلغنا في تاريخ من التواريخ من لدن آدم عليه السلام وإلى يومنا هذا أن ملكًا ملك من الأقاليم ما ملكه، ولا تيسر له من التأييد ما تيسر له، ونحن سادس ملك من صلبه، وكان قد سبق في تقدير الله أن يصيب أولاده ممن سلف قبلنا عين نافذة، فوقع بينهم الخلف وطال التنازع بينهم سنين كثيرة... حتى وصلت نوبة المملكة إلينا، وزفّت عروسها علينا، زين الله قلوبنا بالإسلام، وأبهجها بأنوار الإيمان، وكان من الواجب المتعين، وأدب الملوك الهين، أن هؤلاء المماليك يهنئوننا بما وهب الله لنا من الملك العظيم، وهدانا إليه من الصراط المستقيم، ويرسلون إلينا رسلهم بتحف السلاطين، ويجدون في استجلاب مودتنا أوضح القوانين، فمرت على ذلك ثلاث سنين، وهم يجهلون حقوق الأدب، ولم يؤدوا من عوائد الملك ما يجب، ولما علموا أننا دخلنا في الإسلام راغبين، ولرضى الله سبحانه طالبين، حسبوا أنهم إذا فتحوا إلينا طريق المودّة جاءنا أكثر عسكرهم هاربين، ولم يكن لهم من التمييز أن يعلموا أن الملك لله يؤتيه من يشاء من عباده، وقد ملّك كثيرًا من الكفار أكثر بلاده، كما بلغهم عن جنكيزخان وعن كثير ممن كان، ولو كان نيل الملك بالتقوى لكان بنو فاطمة عليهم السلام على الخلافة أقدر وأقوى).[9]
وقد اضطر السلطان محمد قلاوون -سلطان مصر والشام بتقليد وتفويض من الخليفة العباسي بمصر- الرد على خطاب غازان بحجج شرعية يبطل فيها استدلاله بالقضاء والقدر على وجوب طاعته، ويبطل دعواه بأنه ولي أمر تفترض متابعته، فقال في جوابه: (وأما ما يتحججون به مما اعتقدوه من نصرة، وظنوا من أن الله جعل لهم على حزبه الغالب في كل كرة الكرّة، فلو تأملوا ما ظنّوه ربحًا لوجدوه هو الخسران المبين، ولو أمعنوا النظر في ذلك لما كانوا به مفتخرين، ولتحققوا أن الذي اتفق لهم كان غرمًا لا غنمًا، وتدبّروا معنى قوله تعالى: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً}، ولم يخف عنهم ما أبلته السيوف الإسلامية منهم، وقد رأوا عزم من حضر من عساكرنا التي لو كانت مجتمعة عند اللقاء لما ظهر خبر عنهم، فإنا كنا في مفتتح ملكنا، ومبتدئ أمرنا حللنا بالشام للنظر في أمور البلاد والعباد، فلما تحققنا خبركم، وقفونا أثركم، بادرنا نقدّ أديم الأرض سيرًا، وأسرعنا لندفع عن المسلمين ضررًا وضيرًا، ونؤدي من الجهاد السنة والفرض، ونعمل بقوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض}، فاتفق اللقاء بمن حضر من عساكرنا المنصورة، وثوقًا بقوله تعالى: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة}، وإلا فأكابركم يعلمون وقائع الجيوش الإسلامية التي كم وطئت موطئًا يغيظ الكفار، فكتب لها به عمل صالح... وما زالت تتفق الوقائع بين الملوك والحروب، وتجري المواقف التي هي بتقدير الله، فلا فخر فيها للغالب، ولا عار على المغلوب، وكم من ملك أُستظهر عليه ثم نُصر، وعاوده التأييد فجبره بعدما كُسر، خصوصًا ملوك هذا الدين؛ فإن الله تكفّل لهم بحسن العقبى فقال سبحانه: {والعاقبة للمتقين}..
وأما قولهم إنا ألفينا في قلوب العساكر والعوام أنهم فيما بعد يلتقوننا على حلب أو الفرات. وأنهم جمعوا العساكر ورحلوا إلى الفرات وإلى حلب مرتقبين وصولنا، فالجواب على ذلك أنه حين بلغنا حركتهم جزمنا، وعلى لقائهم عزمنا، وخرجنا وخرج أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ابن عم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الواجب الطاعة على كل مسلم، المفترض المبايعة والمتابعة على كل معترض ومسلّم، طائعين لله ولرسوله في أداء فرض الجهاد، باذلين في القتال بما أمرنا الله غاية الاجتهاد، لا يتم أمر دين ولا دنيا إلا بمتابعته، ومن والاه فقد حفظه الله وتولاه، ومن عانده أو عاند من أقامه فقد أذله الله).[10]
لقد كان لشيوع مثل هذه العقائد -عقيدة الجبر التي راجت في عصور الانحطاط الإسلامي، والخلط بين الإرادة الشرعية والقدرية، التي كان للصوفية من أهل الحلول والاتحاد دور كبير في ترويجها، وأن كل ما يقع في الوجود من أقدار الله محبوبة له، لا يجوز دفعها- أثرها في سقوط الأمة أمام عدوها، ولهذا أدرك المحتلون على مر العصور أهمية كسب الطرق الصوفية لاحتلال العالم الإسلامي، كما فعل التتار مع (الشيخ صالح الأحمدي الرفاعي، شيخ المنيبع، وكان التتار يكرمونه لما قدموا دمشق، ولما جاء قطلوشاه نائب ملك التتار نزل عنده، وهو الذي قال لابن تيمية حين تناظروا بالقصرنحن ما ينفق حالنا إلا عند التتار، وأما قدام الشرع فلا).[11]
فلم يحتج غازان وهو غاز محتل أكثر من التظاهر بالإسلام، والاحتجاج بالقضاء والقدر، والعناية بالقبور وتعظيمها، واستصحاب الدراويش معه؛ ليصبح ولي أمر تجب طاعته، بدلا من جهاده ومقاومته!

نابليون بونابرت والتظاهر بالإسلام:
وقد أدرك ذلك بعده كل من جاء من الغزاة، وكل من غزا الأمة من الطغاة، كما فعل نابليون بونابرت الذي لم يحتج أكثر من دخول الأزهر وادعاء أنه مسلم، ليخضع له الشعب المصري، وكان في فرماناته وبياناته يؤكد حبه للإسلام، والملة المحمدية، والعناية بالموالد، كما قص خبره المؤرخ المصري الجبرتي وساق بعض فرماناته ومنها: (بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله، لا ولد له ولا شريك له في ملكه: من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية: أمير الجيوش الفرنساوية بونابارته يعرّف أهالي مصر جميعهم: يا أيها المصريون قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرق إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه! وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، واحترم نبيه، والقرآن العظيم! وقولوا أيضا لهم إن جميع الناس متساوون عند الله.
أيها المشايخ والقضاة والأئمة وأعيان البلد: قولوا لأمتكم: إن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي الباب الذي كان دائما يحث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطرودا منها الكواللرية الذين كانوا يزعمون إن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين، ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني، وأعداء أعدائه، أدام الله ملكه، ومع ذلك إن المماليك امتنعوا من طاعة السلطان، غير ممتثلين لأمره، فما أطاعوا أصلا إلا لطمع أنفسهم! طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير؛ فيصلح حالهم، وتعلو مراتبهم، طوبى أيضا للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد من الفريقين المتحاربين، فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب، لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا، فلا يجدون بعد ذلك طريقا إلى الخلاص ولا يبقى منهم أثر:
المادة الأولى: جميع القرى الواقعة في دائرة قريبة بثلاث ساعات من المواضع التي يمر بها عسكر الفرنساوية؛ فواجب عليها أن ترسل للسر عسكر من عندها وكلاء، كيما يعرف المشار إليه أنهم أطاعوا وأنهم نصبوا علم الفرنساوية الذي هو أبيض وكحلي وأحمر.
المادة الثانية: كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تحرق بالنار.
المادة الثالثة: كل قرية تطيع العسكر الفرنساوي أيضا تنصب صنجاق السلطان العثماني محبنا دام بقاؤه!
المادة الرابعة: المشايخ في كل بلد يختمون حالا جميع الأرزاق والبيوت والأملاك التي تتبع المماليك وعليهم الاجتهاد التام لئلا يضيع أدنى شيء منها.
المادة الخامسة: الواجب على المشايخ والعلماء والقضاة الأئمة أنهم يلازمون وظائفهم، وعلى كل أحد من أهالي البلدان أن يبقى في مسكنه مطمئنا، وكذلك تكون الصلاة قائمة في الجوامع على العادة، والمصريون بأجمعهم ينبغي أن يشكروا الله سبحانه وتعالى لانقضاء دولة المماليك، قائلين بصوت عالي أدام الله إجلال السلطان العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك وأصلح حال الأمة المصرية).[12]
وقد استصدر نابليون فتوى من بعض علماء مصر توجب الطاعة للجيش الفرنسي المحتل ودفع الضرائب له، وجاء فيها: (نصيحة من علماء الإسلام بمصر المحروسة: نخبركم يا أهل المدائن والأمصار من المؤمنين: فننصحكم لا تحركوا الفتن ولا الشرور بين البرية، ولا تعارضوا العساكر الفرنساوية، بشيء من أنواع الأذية، فيحصل لكم الضرر والهلاك، ولا تسمعوا كلام المفسدين، {ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون}، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، وإنما عليكم دفع الخراج المطلوب منكم لكامل الملتزمين، لتكونوا بأوطانكم سالمين، وعلى أموالكم وعيالكم آمنين مطمئنين، لأن حضرة أمير الجيوش بونابارته اتفق معنا على أنه لا ينازع أحد في دين الإسلام، ولا يعارضنا فيما شرعه الله من الأحكام، وراجعوا إلى مولاكم مالك الملك وخالق العباد، فقد قال نبيه ورسوله الأكرم: الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها بين الأمم عليه أفضل الصلاة والسلام). [13]
لقد كان نابليون بونابرت في منشوراته يحتج بالقدر ليخضع الشعب المصري لإرادة الله، كما تقرره الطرق الصوفية التي عرف نابليون كيف يستخدمها لشرعنة احتلال مصر -وهو ما تقوم به أمريكا وروسيا اليوم حذو القذة بالقذة حتى أوقفوا رئيس (مجلس حكماء المسلمين) على منبرهم ليدعوا إلى السلام معهم، ويحذّر من العنف والتطرف، في الوقت الذي تدك جيوشهم مدن الشام والعراق- فقد كتب نابليون إلى أهل مصر منشورا جاء فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من أمير الجيوش الفرنساويه خطابا إلى كافة أهالي مصر الخاص والعام: نعلمكم أن بعض الناس الضالين أوقعوا الفتنة والشرور بين القاطنين بمصر فأهلكهم لله بسبب فعلهم ونيتهم القبيحة، والباري سبحانه وتعالى أمرني بالشفقة والرحمة على العباد فامتثلث أمره، وصرت رحيما بكم، شفوقا عليكم..
أيها العلماء والأشراف: أعلموا أمتكم ومعاشر رعيتكم بأن الذي يعاديني ويخاصمني إنما خصامه من ضلال عقله، وفساد فكرة، فلا يجد ملجأ ولا مخلصا ينجيه مني في هذا العالم، ولا ينجو من بين يدي الله لمعارضته لمقادير الله سبحانه وتعالى،والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله تعالى وإرادته وقضائه، ومن يشك في ذلك فهو أحمق وأعمى البصيرة، وأعلموا أيضا أمتكم أن الله قدر في الأزل هلاك أعداء الإسلام وتكسير الصلبان على يدي، وقدر في الأزل أني أجيء من المغرب إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها، وإجراء الأمر الذي أمرت به، ولا يشك العاقل أن هذا كله بتقدير الله وإرادته وقضائه، وأعلموا أيضا أمتكم أن القرآن العظيم صرح في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل، وأشار في آيات أخرى إلى أمور تقع في المستقبل، وكلام الله في كتابه صدق وحق لا يتخلف).[14]
وصار بونابرت يصف نفسه في كل خطاباته بمحب الملة المحمدية.[15]
فهذا وحده يفعل في أمة الإسلام -في عصور انحطاطها وشيوع عقائد الجبر والإرجاء- ما لا تستطيع فعله الجيوش الجرارة للمحتل!
لقد كان نابليون يتبع في تلك السياسة في خطاباته الدينية، واحتجاجه بالقدر، وتظاهره بالإسلام، خطوات هولاكو وغازان في خطاباتهم للمسلمين، وكذا في رعايته للصوفية وقبورهم وموالدهم، كما جرى في سنة 1213هـ حيث (سأل عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم؟ فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور وتوقف الأحوال، فلم يقبل، وقال لا بد من ذلك، وأعطى له ثلثمائة ريال فرانسا معاونة، وأمر بتعلق تعاليق وأحبال وقناديل، واجتمع الفرنساوية يوم المولد ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم ودبادبهم، وأرسل الطبلخانة الكبيرة إلى بيت الشيخ البكري، واستمروا يضربونها بطول النهار والليل بالبركة تحت داره، وهي عبارة عن طبلات كبار مثل طبلات النوبة التركية وعدة آلات ومزامير مختلفة الأصوات مطربة، وعملوا في الليل حراقة نفوط مختلفة، وسواريخ تصعد في الهواء).[16]
وكذا أمر بإقامة المولد الحسيني (وفي يوم الثلاثاء عمل المولد الحسيني، وكان من العزم تركه في هذا العام، فدس بعض المنافقين دسيسة عند الفرنسيس، وذلك أنه وقعت المذاكرة بأن من المعتاد أن يعمل المولد الحسيني بعد مولد النبي، فقال بونابارته ولمَ لم يعملوه؟ فقال ذلك المنافق غرض الشيخ السادات عدم عمله إلا إذا حضر المسلمون، فبلغ شيخ السادات ذلك فشرع في عمله على سبيل الاختصار، وحضر صاري عسكر وشاهد الوقدة ورجع إلى داره بعد العشاء).[17]
وهذا ما فعله بعد نابليون بمئة عام أيضا الإنجليز مع المرجعيات الشيعية والصوفية في العراق بعد احتلاله في الحرب العالمية الأولى 1917م، كما صرحت بذلك (المس بيل) التي كانت المسئول الأول البريطاني لإدارة شئون العراق بعد احتلاله بقولها عن تعاونهم معها: (كما إن الذين اشتركوا منا بالدراما (المسرحية) سوف لن ينسوا العضد والمؤازرة اللذين قدمهما لنا كل من النقيب -السيد عبد الرحمن الكيلاني نقيب بغداد السني- والسيد محمد كاظم اليزدي -المرجع الشيعي الأعلى- على أن فائدة الدرويش –أي النقيب الصوفي- مثل فائدة المجتهد -أي المرجع الشيعي- في هذا الشأن لها حدودها، حيث لم يكن بوسع كل منهما أن يكون في المقدمة، أو أن يجازف بتحمل النقد).[18]
وهو أيضا ما فعله بعد مئة عام أخرى سنة 2003 م الحاكم العسكري للاحتلال الأمريكي في العراق بول بريمر!

غزو غازان للشام سنة 699 هـ:
لقد كان اكتساح جيوش غازان للشام في هذه السنة شبيها باكتساح جيوش جده هولاكو لها سنة 657 هـ، وقد جرى فيه من الكوارث الفظيعة ما أنسى جرائم هولاكو تلك، وقد قام ابن تيمية فيها مقاما مشهودا، في حض الناس على الجهاد، وتثبيتهم، ثم الدخول على غازان وصدعه بالحق، وإطلاق أسرى المسلمين وأهل ذمتهم، حين عجزت السلطة عن القيام بمسئولياتها، وانسحبت أمام جيوش غازان، وقد سطر مؤرخو الإسلام لتلك الفترة هذه المواقف المشهودة المتواترة عن ابن تيمية، كالذهبي وابن كثير وابن فضل الله والصفدي وابن الوردي، ومن جاء بعدهم كالعيني والمقريزي وابن خلدون وغيرهم، وقد ذكر تفاصيلها أيضا ابن تيمية نفسه في كتبه ورسائله، وذكرها من ترجموا له كالبزار وابن عبد الهادي وابن ناصر الدين، وقد نوه ابن فضل الله العمري في هذا الموقف التاريخي، فقال عنه: (كل هذا لتبريزه في الفضل وقيامه في دفع حجة التتار، واقتحامه وسيوفهم تتدفق لجة البدار، حتى جلس إلى السلطان محمود غازان، حيث تجم الأسد في آجامها، وتسقط القلوب في دواخل أجسامها، وتجد النار فتورا في ضرمها، والسيوف فرقا في قرمها، خوفا من ذلك السبع المغتال، والنمروذ المختال، والأجل الذي لا يدفع بحيله محتال، فجلس إليه، وأومأ بيده إلى صدره، وواجهه ودرء في نحره، وطلب منه الدعاء فرفع يديه، ودعا دعاء منصف أكثره عليه، وغازان يؤمن على دعائه، وهو مقبل إليه، ثم كان على هذه المواجهة القبيحة، والمشاتمة الصريحة أعظم في صدر غازان والمغل، من كل من طلع معه إليهم، وهو سلف العلماء في ذلك الصدر، وأهل الاستحقاق لرفعة القدر... ولما قدم غازان دمشق خرج إليه ابن تيمية في جماعة من صلحاء الدماشقة، منهم القدوة الشيخ محمد بن قوام، فلما دخلوا على غازان كان مما قال ابن تيمية للترجمان: قل للقان: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا، وأبوك وجدّك هولاكو كانا كافرين وما عملا الذي عملت، عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت، وجرت له مع غازان وقطلو شاه وبولاي أمور قام فيها كلها لله، وقال الحق، ولم يخش إلا الله، أخبرنا قاضي القضاة أبو العباس ابن صصري: أنهم لما حضروا مجلس غازان، قدم لهم طعام فأكلوا منه إلا ابن تيمية، فقيل له: لم لا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه مما قطعتم من أشجار الناس، ثم إن غازان طلب منه الدعاء، فقال في دعائه: اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وجهادا في سبيلك فأن تؤيده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر، فأن تفعل به وتصنع، يدعو عليه، وغازان يؤمّن على دعائه، ونحن نجمع ثيابنا خوفا أن يقتل فتطرطش بدمه، ثم لما خرجنا قلنا له: كدت تهلكنا معك، ونحن ما نصحبك من هنا، فقال: ولا أنا أصحبكم، فانطلقنا عصبة، وتأخرت خاصة من معه، فتسامعت الخواص والأمراء فأتوه من كل فج عميق، وصاروا ملاحقين به ليتبركوا برؤيته، فأما هو فما وصل إلا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه، وأما نحن فخرج علينا جماعة فشلحونا...).[19]
وقد كتب غازان فرمانا إلى أهل الشام يدعي فيه الإيمان والتزامه بالإسلام وإقامة الأحكام، قال فيه: (...إن الله لما نور قلوبنا بنور الإسلام، وهدانا إلى ملة النبي صلى الله عليه وسلم، {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين}، ولما سمعنا أن حكام مصر والشام خارجون عن طرائق الدين، غير متمسكين بأحكام الإسلام، ناقضون لعهودهم، حالفون بالأيمان الفاجرة، ليس لديهم وفاء ولا ذمام، ولا لأمورهم التئام ولا انتظام، وكان أحدهم إذا تولى {سعى في الأرض} الآية، وشاع أن شعارهم الحيف على الرعية، ومد الأيدي الباغية إلى حريمهم وأموالهم، والتخطي عن جادة العدل والإنصاف، وارتكابهم الجور والاعتساف، حملتنا الحمية الدينية والحفيظة الإسلامية على أن توجهنا إلى تلك البلاد لإزالة هذا العدوان، مستصحبين للجم الغفير من العساكر، ونذرنا على أنفسنا إن وفقنا الله تعالى بحوله وقوته لفتح تلك البلاد أن نزيل العدوان والفساد، وبسط العدل في العباد، ممتثلين الأمر المطاع الإلهي {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} الآية، وإجابة إلى ما ندب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم: "المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم، وما ولوا". وحيث كانت طويتنا مشتملة على هذه المقاصد الحميدة، والنذور الأكيدة، من الله علينا بتبلج تباشير النصر المبين، وأتم علينا فقهرنا العدو الطاغية، والجيوش الباغية، فرقناهم أيدي سبأ، ومزقناهم كل ممزق، حتى جاء الحق وزهق الباطل، فازدادت صدورنا انشراحا للإسلام، وقويت نفوسنا بحقيقة الأحكام، منخرطين في زمرة من حبب إليهم الإيمان، فوجب علينا رعاية تلك العهود الموثقة، والنذور المؤكدة).[20]
وقد قص خبر تلك المعارك وتفاصيلها المؤرخ الكبير ابن كثير فقال:(ثم دخلت سنة تسع وتسعين وستمائة وفيها كانت وقعة قازان، وذلك أن هذه السنة استهلت والخليفة الحاكم بأمر الله العباسي بمصر، والسلطان محمد قلاوون، ونائب مصر سلار، ونائب الشام آقوش الأفرم، وقد تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام، وقد خاف الناس من ذلك خوفا شديدا، وجفل الناس من بلاد حلب وحماة، فلما كان يوم الثلاثاء ثاني المحرم ضربت البشائر بسبب خروج السلطان من مصر قاصدا الشام، فلما كان يوم الجمعة ثامن ربيع الأول دخل السلطان إلى دمشق في مطر شديد ووحل كثير، ومع هذا خرج الناس لتلقيه، وكان قد أقام بغزة قريبا من شهرين، وذلك لما بلغه قدوم التتار إلى الشام، فتهيأ لذلك وجاء فدخل دمشق فنزل بالطارمة، وزينت له البلد، وكثرت له الأدعية، وكان وقتا شديدا، وحالا صعبا، وامتلأ البلد من الجافلين النازحين عن بلادهم، وخرج السلطان بالجيش من دمشق يوم الأحد سابع عشر ربيع الأول ولم يتخلف أحد من الجيوش، وخرج معهم خلق كثير من المتطوعة، وأخذ الناس في الدعاء والقنوت في الصلوات بالجامع وغيره، وتضرعوا واستغاثوا وابتهلوا إلى الله بالأدعية.
وقعة قازان: لما وصل السلطان إلى وادي الخزندار عند وادي سلمية، فالتقى التتر هناك يوم الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الأول؛ فالتقوا معهم؛ فكسروا المسلمين، وولى السلطان هاربا فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقتل جماعة من الأمراء وغيرهم ومن العوام خلق كثير، وفقد في المعركة قاضي قضاة الحنفية، وقد صبروا وأبلوا بلاء حسنا، ولكن كان أمر الله قدرا مقدورا، فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد، ثم كانت العاقبة بعد ذلك للمتقين، غير أنه رجعت العساكر على أعقابها للديار المصرية، واجتاز كثير منهم على دمشق، وأهل دمشق في خوف شديد على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ثم إنهم استكانوا واستسلموا للقضاء والقدر، وماذا يجدي الحذر إذا نزل القدر، ورجع السلطان في طائفة من الجيش على ناحية بعلبك والبقاع، وأبواب دمشق مغلقة، والقلعة محصنة، والغلاء شديد، والحال ضيق، وفرج الله قريب، وقد هرب جماعة من أعيان البلد وغيرهم إلى مصر، كالقاضي إمام الدين الشافعي، وقاضي المالكية الزواوي، وتاج الدين الشيرازي، وعلم الدين الصوابي والي البر، وجمال الدين بن النحاس والي المدينة، والمحتسب وغيرهم من التجار والعوام، وبقي البلد شاغرا ليس فيهم حاكم سوى نائب القلعة.
هذا وسلطان التتار قد قصد دمشق بعد الوقعة، فاجتمع أعيان البلد والشيخ تقي الدين بن تيمية في مشهد علي، واتفقوا على المسير إلى قازان لتلقيه، وأخذ الأمان منه لأهل دمشق، فتوجهوا يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر فاجتمعوا به عند النبك، وكلمه الشيخ تقي الدين كلاما قويا شديدا فيهم مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين ولله الحمد.
ودخل المسلمون ليلتئذ من جهة قازان فنزلوا بالبدرانية وغلقت أبواب البلد سوى باب توما، وخطب الخطيب بالجامع يوم الجمعة، ولم يذكر سلطانا في خطبته، وبعد الصلاة قدم الأمير إسماعيل ومعه جماعة من الرسل؛ فنزلوا ببستان الظاهر عند الطرن، وحضر الفرمان بالأمان وطيف به في البلد، وقرئ يوم السبت ثامن الشهر بمقصورة الخطابة، ونثر شيء من الذهب والفضة.
وفي ثاني يوم من المناداة بالأمان طلبت الخيول والسلاح والأموال المخبأة عند الناس من جهة الدولة، وجلس ديوان الاستخلاص إذ ذاك بالمدرسة القيمرية، وفي يوم الاثنين عاشر الشهر قدم سيف الدين قبجق المنصوري فنزل في الميدان، واقترب جيش التتر، وكثر العيث في ظاهر البلد، وقتل جماعة، وغلت الأسعار بالبلد جدا، وأرسل قبجق إلى نائب القلعة ليسلمها إلى التتر فامتنع أرجواش من ذلك أشد الامتناع، فجمع له قبجق أعيان البلد؛ فكلموه أيضا؛ فلم يجبهم إلى ذلك، وصمم على عدم ترك تسليمها إليهم وبها عين تطرف، فإن الشيخ تقي الدين بن تيمية أرسل إلى نائب القلعة يقول له ذلك، لو لم يبق فيها إلا حجر واحد؛ فلا تسلمهم ذلك إن استطعت، وكان في ذلك مصلحة عظيمة لأهل الشام، فإن الله حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزا لأهل الشام التي لا تزال دار إيمان وسنة، حتى ينزل بها عيسى ابن مريم.
وفي يوم دخول قبجق إلى دمشق دخل السلطان ونائبه سلار إلى مصر، كما جاءت البطاقة بذلك إلى القلعة، ودقت البشائر بها؛ فقوي جأش الناس بعض قوة، وفي يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر خطب لقازان على منبر دمشق بحضور المغول بالمقصورة، ودعي له على السدة بعد الصلاة، وقرئ عليها مرسوم بنيابة قبجق على الشام، وذهب إليه الأعيان فهنئوه بذلك، فأظهر الكرامة وأنه في تعب عظيم مع التتر، ونزل شيخ المشايخ محمود بن علي الشيباني بالمدرسة العادلية الكبيرة، وفي يوم السبت النصف من ربيع الآخر شرعت التتار وصاحب سيس في نهب الصالحية ومسجد الأسدية ومسجد خاتون ودار الحديث الأشرفية بها واحترق جامع التوبة بالعقيبية، وكان هذا من جهة الكرج والأرمن من النصارى الذين هم مع التتار قبحهم الله، وسبوا من أهلها خلقا كثيرا وجما غفيرا، وجاء أكثر الناس إلى رباط الحنابلة فاحتاطت به التتار، فحماه منهم شيخ الشيوخ المذكور، وأعطى في الساكن مال له صورة، ثم أقتحموا عليه فسبوا منه خلقا كثيرا من بنات المشايخ وأولادهم فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولما نكب دير الحنابلة في ثاني جمادى الأولى قتلوا خلقا من الرجال وأسروا من النساء كثيرا، ونال قاضي القضاة تقي الدين أذى كثيرا، ويقال إنهم قتلوا من أهل الصالحية قريبا من أربعمائة، وأسروا نحوا من أربعة آلاف أسير، ونهبت كتب كثيرة من الرباط الناصري والضيائية، وخزانة ابن البزوري، وكانت تباع وهي مكتوب عليها الوقفية، وفعلوا بالمزة مثل ما فعلوا بالصالحية، وكذلك بداريا وبغيرها، وتحصن الناس منهم في الجامع بداريا ففتحوه قسرا وقتلوا منهم خلقا وسبوا نساءهم وأولادهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وخرج الشيخ ابن تيمية في جماعة من أصحابه يوم الخميس العشرين من ربيع الآخر إلى ملك التتر وعاد بعد يومين ولم يتفق اجتماعه به، حجبه عنه الوزير سعد الدين والرشيد مشير الدولة المسلماني ابن يهودي، والتزما له بقضاء الشغل، وذكرا له أن التتر لم يحصل لكثير منهم شيء إلى الآن، ولا بد لهم من شيء، واشتهر بالبلد أن التتر يريدون دخول دمشق؛ فانزعج الناس لذلك، وخافوا خوفا شديدا، وأرادوا الخروج منها والهرب على وجوههم، وأين الفرار ولات حين مناص؟ وقد أخذ من البلد فوق العشرة آلاف فرس، ثم فرضت أموال كثيرة على البلد موزعة على أهل الأسواق كل سوق بحسبه من المال، فلا قوة إلا بالله.
وشرع التتر في عمل مجانيق بالجامع ليرموا بها القلعة من صحن الجامع، وغلقت أبوابه ونزل التتار في مشاهده يحرسون أخشاب المجانيق، وينهبون ما حوله من الأسواق، وأحرق أرجوان ما حول القلعة من الأبنية، كدار الحديث الأشرفية وغير ذلك، إلى حد العادلية الكبيرة، وأحرق دار السعادة لئلا يتمكنوا من محاصرة القلعة من أعاليها، ولزم الناس منازلهم لئلا يُسخّروا في طم الخندق، وكانت الطرقات لا يرى بها أحد إلا القليل، والجامع لا يصلي فيه أحد إلا اليسير، ويوم الجمعة لا يتكامل فيه الصف الأول وما بعده إلا بجهد جهيد، ومن خرج من منزله في ضرورة يخرج بثياب زيهم ثم يعود سريعا، ويظن أنه لا يعود إلى أهله، وأهل البلد قد أذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون..
وقرئ ذلك المرسوم بعد صلاة الجمعة بالجامع في تاسع عشر جمادى الأولى، وفي ذلك اليوم توجه السلطان قازان وترك نوابه بالشام في ستين ألف مقاتل نحو بلاد العراق، وجاء كتابه إنا قد تركنا نوابنا بالشام في ستين ألف مقاتل، وفي عزمنا العود إليها في زمن الخريف، والدخول إلى الديار المصرية وفتحها.
وقد أعجزتهم القلعة أن يصلوا إلى حجر منها، وخرج سيف الدين قبجق لتوديع قطلوشاه نائب قازان، وسار وراءه وضربت البشائر بالقلعة فرحا لرحيلهم، ولم تفتح القلعة، وأرسل أرجواش ثاني يوم من خروج قبجق القلعية إلى الجامع؛ فكسروا أخشاب المنجنيقات المنصوبة به، وعادوا إلى القلعة سريعا سالمين، واستصحبوا معهم جماعة ممن كانوا يلوذون بالتتر قهرا إلى القلعة، منهم الشريف القمي، وهو شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد بن أبي القاسم المرتضي العلوي، وجاءت الرسل من قبجق إلى دمشق؛ فنادوا بها طيبوا أنفسكم وافتحوا دكاكينكم وتهيئوا غدا لتلقي سلطان الشام سيف الدين قبجق؛ فخرج الناس إلى أماكنهم؛ فأشرفوا عليها؛ فرأوا ما بها من الفساد والدمار، وانفك رؤساء البلد من التراسيم بعد ما ذاقوا شيئا كثيرا.
قال الشيخ علم الدين البرزالي: ذكر لي الشيخ وجيه الدين بن المنجا أنه حمل إلى خزانة قازان ثلاثة آلاف ألف وستمائه ألف درهم، سوى ما تمحق من التراسيم والبراطيل وما أخذ غيره من الأمراء والوزراء، وأن شيخ المشايخ حصل له نحو من ستمائة ألف درهم، والأصيل بن النصير الطوسي مائة ألف، والصفي السخاوي ثمانون ألفا -وهذا المشهد بكل تفاصيله تكرر حين دخل الجيش الأمريكي العراق واحتل بغداد وجاء بأحفاد هؤلاء بمراجعهم وميليشياتهم ليحكموا وينهبوا الأموال ولكل قوم وارث- وعاد سيف الدين قبجق إلى دمشق يوم الخميس بعد الظهر خامس عشرين جمادى الأولى وبين يديه السيوف مسللة، وعلى رأسه عصابة؛ فنزل بالقصر ونودي بالبلد نائبكم قبجق قد جاء فافتحوا دكاكينكم واعملوا معاشكم ولا يغرر أحد بنفسه هذا الزمان، وعظم شأنه ودقت البشائر بالقلعة وعلى باب قبجق يوم الجمعة رابع جمادى الآخرة، وركب قبجق بالعصائب في البلد والشاويشية بين يديه، وجهز نحوا من ألف فارس نحو خربة اللصوص، ومشى مشي الملوك في الولايات، وتأمير الأمراء والمراسيم العالية النافذة، وصار كما قال الشاعر:
يالك من قنبرة بمعمري
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
ثم إنه ضمن الخمارات ومواضع الزنا من الحانات وغيرها، وجعلت دار ابن جرادة خارج من باب توما خمارة، وحانة أيضا، وصار له على ذلك في كل يوم ألف درهم -وهو ما يجري مثله منذ سنين في جزيرة العرب وسواحل خليجها حتى أصبحت ماخورا كبير لجيوش الاحتلال الأمريكي والبريطاني- وهي التي دمرته ومحقت آثاره، وأخذ أموالا أخر من أوقاف المدارس وغيرها، ورجع بولاي من جهة الأغوار وقد عاث في الأرض فسادا، ونهب البلاد وخرب ومعه طائفة من التتر كثيرة، وقد خربوا قرى كثيرة، وقتلوا من أهلها وسبوا خلقا من أطفالها، وجبي لبولاي من دمشق أيضا جباية أخرى، وخرج طائفة من القلعة فقتلوا طائفة من التتر ونهبوهم، وقتل جماعة من المسلمين في غبون ذلك، وأخذوا طائفة ممن كان يلوذ بالتتر، ورسم قبجق لخطيب البلد وجماعة من الأعيان أن يدخلوا القلعة فيتكلموا مع نائبها في المصالحة، فدخلوا عليه يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة، فكلموه وبالغوا معه فلم يجب إلى ذلك وقد أجاد وأحسن وأرجل في ذلك بيض الله وجهه.
وفي ثامن رجب طلب قبجق القضاة والأعيان فحلفهم على المناصحة للدولة المحمودية -يعني قازان- فحلفوا له، وفي هذا اليوم خرج الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مخيم بولاي فاجتمع به لفكاك من كان معه من أسارى المسلمين، فاستنقذ كثيرا منهم من أيديهم، وأقام عنده ثلاثة أيام ثم عاد، ثم راح إليه جماعة من أعيان دمشق ثم عادوا من عنده فشلحوا عند باب شرقي، وأخذ ثيابهم وعمائمهم ورجعوا في شر حالة، ثم بعث في طلبهم؛ فاختفى أكثرهم وتغيبوا عنه، ونودي بالجامع بعد الصلاة ثالث رجب من جهة نائب القلعة بأن العساكر المصرية قادمة إلى الشام، وفي عشية يوم السبت رحل بولاي وأصحابه من التتر وانشمروا عن دمشق، وقد أراح الله منهم وساروا من على عقبة دمر فعاثوا في تلك النواحي فسادا، ولم يأت سابع الشهر وفي حواشي البلد منهم أحد، وقد أزاح الله عز وجل شرهم عن العباد والبلاد، ونادى قبجق في الناس قد أمنت الطرقات ولم يبق بالشام من التتر أحد، وصلى قبجق يوم الجمعة عاشر رجب بالمقصورة، ومعه جماعة عليهم لأمة الحرب من السيوف والقسي والتراكيش فيها النشاب، وأمنت البلاد، وخرج الناس للفرجة في غيض السفرجل على عادتهم فعاثت عليهم طائفة من التتر، فلما رأوهم رجعوا إلى البلد هاربين مسرعين، ونهب بعض الناس بعضا، ومنهم من ألقى نفسه في النهر، وإنما كانت هذه الطائفة مجتازين ليس لهم قرار، وقلق قبجق من البلد ثم إنه خرج منها في جماعة من رؤسائها وأعيانها منهم عز الدين بن القلانسي ليتلقوا الجيش المصري، وذلك أن جيش مصر خرج إلى الشام في تاسع رجب وجاءت البريدية بذلك، وبقي البلد ليس به أحد، ونادى أرجواش في البلد احفظوا الأسوار وأخرجوا ما كان عندكم من الأسلحة ولا تهملوا الأسوار والأبواب، ولا يبيتن أحد إلا على السور، ومن بات في داره شنق، فاجتمع الناس على الأسوار لحفظ البلاد، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يدور كل ليلة على الأسوار يحرض الناس على الصبر والقتال ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط.
وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب أعيدت الخطبة بدمشق لصاحب مصر؛ ففرح الناس بذلك، وكان يخطب لقازان بدمشق وغيرها من بلاد الشام مائة يوم سواء.
وفي بكرة يوم الجمعة المذكور دار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور، وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش، ففرح الناس بذلك، ونودي يوم السبت ثامن عشر رجب بأن تزين البلد لقدوم العساكر المصرية، وفتح باب الفرج مضافا إلى باب النصر يوم الأحد تاسع عشر رجب؛ ففرح الناس بذلك وانفرجوا، لأنهم لم يكونوا يدخلون إلا من باب النصر، وقدم الجيش الشامي صحبة نائب دمشق جمال الدين آقوش الأفرم يوم السبت عاشر شعبان، وكان السلطان قد خرج عازما على المجيء فوصل إلى الصالحية ثم عاد إلى مصر.. وفي مستهل رمضان رجع سلار بالعساكر إلى مصر وانصرفت العساكر الشامية إلى مواضعها وبلدانها.
وفي شوال فيها عرفت جماعة ممن كان يلوذ بالتتر ويؤذي المسلمين، وشنق منهم طائفة وسمر آخرون وكحل بعضهم وقطعت ألسن وجرت أمور كثيرة).[21]
وقد ساق العيني في تاريخه تفاصيل هذه الواقعة فقال في حوادث سنة 699 هـ: (ذكر ما جرى في دمشق بعد انهزام الجيش... هذا وسلطان التتار قد قصد ورود دمشق بعد الوقعة، واجتمع أعيان البلد والشيخ تقي الدين بن تيمية في مشهد علي، واتفقوا على المسير إليه لتلقيه وأخذ الأمان منه لأهل دمشق، فتوجهوا يوم الاثنين الثالث من ربيع الآخر؛ فاجتمعوا به عند النبك،وكلمه الشيخ ابن تيمية كلامًا قويًا فيه مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين، ودخل المتسلمون للبلد من جهة قازان...
وفي نزهة الأنام: الذين خرجوا من دمشق لطلب الأمان من قازان هم: خطيب دمشق القاضي بدر الدين بن جماعة، والشيخ زين الدين الفارقي، والشيخ تقي الدين بن تيمية، والقاضي نجم الدين بن صصري، والصاحب فخر الدين بن الشيرجي، والقاضي عز الدين بن الزكي، والشيخ وجيه الدين ابن المنجي، والصدر الرئيس عز الدين بن القلانسي، وابن عمه شرف الدين، وأمين الدين شقير الحراني، والشريف زين الدين بن عدنان، والشيخ نجم الدين ابن أبي الطيب، وناصر الدين بن عبد السلام، وشرف الدين بن الشيرجي، والصاحب شهاب الدين الحنفي، والقاضي شمس الدين الحريري، والشيخ محمد بن قوام البالسي، والقاضي جلال الدين أخو قاضي القضاة إمام الدين القزويني، والقاضي جلال ابن قاضي القضاة حسام الدين،وجماعة كثيرة من الفقهاء والقراء، وتوجهوا نحو جيش التتار، وبقيت المدينة بلا نائب ولا حاكم، وأكل الناس بعضهم بعضًا، ومن قدر على أمر فعله، ووصل أربعة من التتار، ومعهم الشريف القمي ونزلوا بالباذرائية، وأصبح الصباح ولم يفتح من أبواب دمشق باب، فكسرت أقفال باب توما، وكان الذي تولى كسرها نواب الولاة: الشجاع همام الدين وابن ضاعن وابن الذهبي النقيب، ووصل إلى ظاهر دمشق جماعة من التتار ومعهم أمير اسمه إسماعيل، فنزلوا ببستان الظاهر بطريق القابون، وأما الجماعة الذين خرجوا من دمشق فإنهم التقوا بالعساكر التترية بالنبك، واجتمعوا بالملك، ووقف الترجمان، وتكلم منهم، وكان المتكلم فخر الدين بن الشيرجي، وأحضروا ما كان معهم من المأكول، فلم يظهر له وقع ولا حضر قدام الملك، وقال الملك قازان: إن الذي تطلبونه من الأمان قد أرسلناه إليكم قبل حضوركم؛ فرجعوا إلى دمشق، وحضر الأمير إسماعيل إلى مقصورة الخطابة وحضر الخطيب ابن جماعة وفخر الدين ابن الشيرجي وابن القلانسي وابن منجي وجماعة لقراءة الفرمان، واجتمع الناس، وقرئ الفرمان على السدّة، فحمد الناس الله تعالى، وحصل للناس سكون وطمأنينة، وقرب التتار من دمشق وأحدقوا بالغوطة، وكثر العبث والفساد والنهب بالحواضر البرانية مثل العقيبة والشاغور وقصر حجاج وحكر الساق، ووصل الأمير قفجق وبكتمر السلحدار مع جماعة ونزلوا بالميدان الأخضر.
وورد مرسوم من الأمير إسماعيل بأن العلماء والقضاة والأكابر يتحدثون مع أرجواش نائب القلعة، ويحسنون له تسليم القلعة وإلا دخل الجيش البلد، ولا تبقى بعد هذا القلعة ولا البلد، فاجتمع جماعة منهم بدار الحديث وأرسلوا رسولًا إلى أرجواش فلم يجبهم، فقاموا في دار الحديث بأجمعهم إلى باب القلعة وأرسلوا إليه رسولًا ثانيًا فبلغه سلامهم، فقال: ومن هم الذين أرسلوك؟ فسماهم له بأنسابهم، فقال: هم المنافقون الخائنون للمسلمين، وليس عندي جواب، ومع هذا فهذه بطاقة وصلت إلي من السلطان صاحب مصر مضمونها أنهم قد اجتمعوا على غزة وكسروا الطائفة الذين تبعتهم من التتار، وهو يوصيني بالقلعة، وكان من جملة الجماعة الواقفين بباب القلعة: بدر الدين بن فضل الله. فقال أرجواش: وصل ابن فضل الله ويقف على البطاقة فإنها بخط أخيه، فامتنع ابن فضل الله من الدخول واشتد خوفه وهرب من بين الجماعة، وتفرقت الجماعة على هذه الصورة.
وفي اليوم الثاني: حضر الأمير قفجق وجلس بالمدرسة العزيزية وأمر بالمراجعة بأرجواش في أمر القلعة؛ فراجعوه فلم يجبهم، وكتبوا في هذا اليوم فرمانات كثيرة من شيخ الشيوخ نظام الدين للتتار، ولم يحصل بأكثرها نفع، وخاف الناس وأصلحوا أبواب الدروب، وكثر دخول التتار للبلد، ونزل شيخ الشيوخ نظام الدين بالمدرسة العادلية وادعى أنه يصلح أمور الناس، وطلب الأموال، ووقع النهب في جبل الصالحية، ودخلوا الناصرية، والمارستان القيمري وكسروا الأبواب والشبابيك، وصعدوا إلى مغارة الدم، وإلى مغارة الجوع، ولم يعص عليهم موضع، ودخلوا إلى جامع الحنابلة، وأخذوا بسطه وكسروا القناديل والمنبر، ودخلوا في مدرسة الشيخ ضياء فنهبوها، وأخذوا من الصالحية من المطعومات والقمح والشعير والدفائن والذخائر شيئًا كثيرًا حتى كان الواحد يأتي إلى الخبيئة كأنه هو الذي خبأها من سرعة هدايته إلى مكانها.
وبلغ الناس بالبلد ما جرى بالصالحية؛ فشق عليهم، وتوجه الشيخ تقي الدين ابن تيمية وجماعة إلى شيخ الشيوخ الذي نزل بالعادلية وشكوا إليه الحال، فخرج معهم إلى الصالحية، فسمع التتار بخروجه فهربوا، ودخل أكثر الناس عرايا عليهم الجوالق والبلاسات، واشتد الأمر وسار التتار إلى قرية المزة؛ وكان أكثر أهلها لم ينتقلوا عنها فنهبوها، وسبوا أهلها، وفعلوا بها كما فعلوا بالصالحية؛ ثم ساروا إلى داريا فاحتمى أهلها بالجامع، فلم يزالوا حتى دخلوه وفعلوا كما تقدم؛ وقتل من التتار جماعة من أهل داريا جماعة).[22]
وذكر الذهبي ما فعل شيخ شيوخ الصوفية نظام الدين محمود بن علي الأصفهاني الحنفي، وكان قدم بصحبة غازان: (ونزل شيخ الشيوخ الذي لقازان ولقبه نظام الدين محمود بن علي الأصبهاني بالمدرسة العادلية، وأظهر العتب على الرؤساء إذ لم يترددوا إليه، وزعم أنه يصلح أمرهم ويتفق معهم على ما يفعل في أمر القلعة، وأظهر أن قبجق وأمثاله من تحت أوامره...وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية تلك الأيام يتردد إلى من يرجو نفعه إلى شيخ المشايخ، وإلى العلم سليمان، وإلى قبجق، ثم إنه خرج مع جماعة يوم العشرين من الشهر إلى قازان وهو بتل راهط، فأدخل عليه، ولم يمكن من إعلام قازان بما يقع من التتار، وخافوا أن يغضب ويقتل أناسا من المغل، وأذن له في الدعاء والإسراع، وأشار عليه الوزير سعد الدين ورشيد الدين اليهودي مشير الدولة بأن لا يشكو التتار، ونحن نتولى إصلاح الأمر، ولكن لا بد من إرضاء المغل، فإن منهم جماعة كبيرة لم يحصل لهم شيء إلى الآن.
وعاد الشيخ إلى المدينة، ثم من الغد في اليوم الثاني والعشرين اشتهر أنه لا بد من دخول المغل إلى البلد والنهب، وظهر ذلك، وجهز شيخ المشايخ ثقله من العادلية وخرج إلى الأردو، وأشار على من يعرف بالخروج من البلد، فأسرع إليه الأعيان وبذلوا في فداء البلد الأموال، والتمسوا منه أن يتوسط لهم، وكان شيخا خبيثا طماعا، وربما فعل ذلك خديعة، وقيل: بل لين قازان للمغول، ثم خرج منه مرسوم في جوف الليل بأن: من عاودني في أمر دمشق يموت، وأما الناس فباتوا في ليلة مزعجة، وأصبحوا في بلاء شديد وبرد مفرط، وانضم جماعة إلى شيخ المشايخ يرومون الاحتماء به، وهو في ذلك مصمم لا يفرج عنهم كربة ولا يرق لمسلم).[23]
قال المقريزي: (وأصبح من بقى بالمدينة وقد اجتمعوا بمشهد علي من الجامع الأموي، وبعثوا إلى غازان يسألون الأمان لأهل البلد، فتوجه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، وشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية والشريف زين الدين بن عدنان، والصاحب فخر الدين بن الشيرجي، وعز الدين حمزة بن القلانسي في جمع كبير من الأعيان والفقهاء والقراء إلى غازان في يوم الاثنين ثالثه بعد الظهر، فلقوه بالنبك وهو سائر، فنزلوا عن دوابهم ومنهم من قبل له الأرض، فوقف غازان بفرسه لهم، ونزل جماعة من التتار عن خيولهم، ووقف الترجمان وتكلم بينهم وبين غازان، فسألوا الأمان لأهل دمشق، وقدموا له مأكل كانت معهم فلم يلتفت إليها، وقال: قد بعثت إليكم الأمان، وصرفهم، فعادوا إلى المدينة بعد العصر من الجمعة سابع الشهر، ولم يخطب بها في هذه الجمعة لأحد من الملوك.
وفي يوم الأحد: أخذ أهل دمشق في جمع الخيل والبغال والأموال، فنزل غازان على دمشق يوم الاثنين عاشره، وعاثت عساكره في الغوطة وظاهر المدينة تنهب وتفسد، ونزل قبجق وبكتمر السلاح دار، بمن معهما في الميدان الأخضر، وامتدت التتر إلى القدس والكرك تنهب وتأسر.
وامتنع الأمير علم الدين سنجر المنصوري المعروف باسم أرجواش بقلعة دمشق، وسب قبجق وبكتمر سبًا قبيحًا، وكانا قد تقدما إليه وأشارا عليه بالتسليم.
وفي بكرة يوم الثلاثاء حادي عشره: تقدم الأمير إسماعيل التتري إلى القضاة والأعيان بالحديث مع أرجواش في تسليم القلعة، وإنه إن امتنع نهب المدينة ووضع السيف في الكافة، فاجتمع عالم كبير وبعثوا إلى أرجواش في ذلك فلم يجب، وتكررت الرسل بينهم وبينه إلى أن سبهم وجبههم، وقال: قد وقعت إلي بطاقة بأن السلطان قد جمع الجيوش بغزة، وهو واصل عن قريب؛ فانصرفوا عنه.
وفي ثاني عشره: دخل الأمير قبجق إلى المدينة، وبعث إلى أرجواش في التسليم فلم يجب.
وفيه كتبت عدة فرمانات إلى أرجواش من قبجق، ومن مقدم من مقدمي التتار ذكر إنه رضيع الملك غازان، ومن شيخ الشيوخ نظام الدين محمود بن علي الشيباني وغيره، فلم يجب، وأخذ الناس في تحصين الدروب وقد اشتد خوفهم.
وفي يوم الجمعة رابع عشره: خطب لغازان على منبر دمشق بألقابه، وهي: السلطان الأعظم سلطان الإسلام والمسلمين مظفر الدنيا والدين محمود غازان، وصلى جماعة من المغل الجمعة، فلما انقضت الجمعة صعد الأمير قبجق والأمير إسماعيل سدة المؤذنين وقرئ على الناس تقليد قبجق بلاد الشام كلها وهي: مدينة دمشق وحلب وحماة وحمص وسائر الأعمال، وجعل إليه ولاية القضاة والخطباء وغيرهم. فنثرت على الناس الدنانير والدراهم، وفرحوا بذلك فرحًا كثيرًا، وجلس شيخ الشيوخ نظام الدين بالمدرسة العادية، وعتب على الناس لعدم ترددهم إليه، ووعد بالدخول في صلح أمورهم مع غازان، وطلب الأموال وتعاظم إلى الغاية، واستخف بقبجق وقال: خمسمائة من قبجق ما يكونون في خاتمي، وصار نظام الدين يضع من قلعة دمشق ويستهين بها، ويقول: لو أردنا أخذها أخذناها من أول يوم، وكان لا يزال الدبوس على كتفه، و لم يكن فيه من أخلاق المشايخ ما يمدح به، بل أخذ نحو الثلاثين ألف دينار برطيلًا، حتى قال فيه علاء الدين بن مظفر بن الكندي الوداعي:
شيخ غازان ما خلا ... أحد من تجرده
وغدا الكل لابسا ... خرقة الفقر من يده
وفي خامس عشره: بدأ التتر في نهب الصالحية، حتى أخذوا ما بالجامع والمدارس والتراب من البسط والقناديل، ونبشوا على الخبايا؛ فظهر لهم منها شيء كثير حتى كأنهم كانوا يعلمون أماكنها، فمضى ابن تيمية في جمع كبير إلى شيخ الشيوخ وشكوا ذلك، فخرج معهم إلى حي الصالحية في ثامن عشرة ليتبين حقيقة الأمر ففر التتر لما رأوه، والتجأ أهل الصالحية إلى دمشق في أسوأ حال).[24]
قال العيني: (ثم خرج الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مخيم السلطان الذي يسمونه الأردو؛ وكان بتلّ راهط، فدخل عليه ولم يمكن من الإعلام كما ينبغي، بل أذن له في الدعاء والإسراع، وقيل: إنه كان مشغول الدماغ، ولم يعلم بما جرى، ولو علم كان قتل جماعة من المغل، فيحصل بذلك فتنة وتفريق كلمة، فاجتمع تقي الدين بالوزير ابن سعد الدولة ورشيد الدولة وتحدث معهما، فذكر أن جماعة من مقدمي المغول الأكابر لم يصل إليهم شيء من مال دمشق ولا بد من إرضائهم، فدخل الشيخ تقي الدين البلد، وقد ضاق الأمر بالناس، وهم في شدة عظيمة، واشتاع بينهم أن قازان يريد الدخول إلى البلد، وقد جعل ما فيه للمغول خاصة، فضاقت صدور الناس، وقيل لهم: من لم يخرج من البلد ندقه في عنقه، ومن أراد الخروج فليخرج إلى الصالحية، وكان هذا الكلام من جهة شيخ الشيوخ، ثم حمل حوائجه وخرج إلى العادلية؛ فقالت الناس: لو لم يكن الخبر صحيحاً لما خرج مسرعًا، فلما كان آخر النهار رجع بعض حوائجه وحضر إليه أعيان البلد وقالوا: إن رسم السلطان أن يضع على البلد شيئًا معلومًا سعينا في استخراجه، ويكون مثل الشراء عن السلطان، ويمنّ السلطان بالعتق على المسلمين، وكان قد قتل في هذه الليلة رجلان من متولي أمر المناجيق من جهة أهل القلعة، وكان السلطان غضب من ذلك غضبًا شديدًا.
وقال الشيخ وجيه الدين بن منجي: أنا أبذل جميع ما أملكه من العين، وقال الرئيس عز الدين بن القلانسي: قد أخذ منا شيء كثير، ولم يبق إلا أن يموت بعضنا على بعض، كل هذا وشيخ الشيوخ ساكت مصمم لا يفرج كربة عن مسلم، ولكن اشتدّ الطلب من الناس فقرّر على سوق الخوّاصين مائة ألف وثلاثون ألف من الدراهم، وعلى سوق الرمّاحين مائة ألف درهم، وعلى سوق عليّ ستون ألف درهم، وعلى أكابر البلد ثلاثمائة ألف دينار، وجبيت من حساب أربعمائة ألف، ورسِّم عليهم طائفة من المغل، مع كل إنسان طائفة منهم، وضيقوا عليهم، وعصروا ابن شقير، ووعدوا ابن منجي وابن القلانسي بوعيد، والمغل محيطين بهم يضربونهم، فصار جميع أهل دمشق في الذل والهوان، وكثر النهب في البلد، والقتل عمّال في ضواحي دمشق وضياعها. يقال: إنه قتل ما يقارب مائة ألف إنسان من الجند والفلاحين والعامّة، وكثر الطلب، وعجز المطلوب، وعسر الأمر على الناس...
ثم استهل شهر جمادى الأولى: ففي أول ليلة منه بات المغل منتشرين بباب البريد إلى القلعة بسبب حفظ مناجيقهم التي بالجامع، وكانت لهم مدة يحاصرون القلعة، وكسروا دكاكين باب البريد وأخذوا ما فيها، وانتقل الناس من تلك الناحية، وتركوا حوائجهم وأقواتهم، وعجزوا عن حملها، وغلقت أبواب الجوامع وترك منها باب صغير، وانقطع الناس عن الجامع.
وفي الجمعة الأولى من الشهر: نهب دير الحنابلة مرة ثانية، وسبيت من كان فيه من النساء والأولاد، ومن جملة ما أخذوا: مائة وعشرون بنتًا، وأسروا القاضي تقي الدين الحنبلي، وعملوا في رقبته حبلًا يجرونه به، ثم تركوه.
وأما البلد فأحرقت منه دار الحديث الأشرفية وما جاورها، ودار الحديث النورية، والعادلية الصغيرة، وما جاورها، وأحرقت القيمارية وما جاورها إلى دار السعادة إلى المارستان النوري، ومن الجهة الأخرى إلى المدرسة الدماغية إلى باب الفرج، وأحاطت التتار بالقلعة من جميع الجهات، وبقيت الأماكن موحشة لا يجسر أحد أن يمرّ بها، ولم تبق حارة ولا محلة إلا وقد دخلها التتار ونهبوها، واختفى الناس، وكان الرجل إذا حصلت له حاجة يخرج في أثواب رثّة وهو خائف وجل، ثم يعود مسرعًا، ولم يكن يصلي في الجامع خلف الإمام إلا رجل أو رجلان، والتتار منتشرون فيه لأجل حفظ المناجيق، وشربوا في الجامع الخمور، وانتهكوا حرمته، وفجروا فيه بالنساء، ونجسوه بالبول، وامتنع الناس عن حضور الجمعة خوفًا على أنفسهم، والأمر في المصادرة والجباية حثيثًا لم يعف عنه أحد لا غني ولا فقير.
قال صاحب النزهة: واستمر الأمر على أهل دمشق من النهب وأخذ الأموال خمسة وأربعين يومًا، فإن قازان نزل الغوطة في العشر الأول من ربيع الآخر ورحل منها في منتصف جمادى الأولى، والله أعلم).[25]
قال العيني: (ولما وصل قازان إلى دمشق أرسل من عسكره عشرين ألفًا مجردين صحبة بولاي وأبشغا وجبجك وهلاجو، فنزلوا بالأغوار وبيسان وشنوا الغارات على تلك البلاد، ونهبوا ما وجدوا من المواشي والأقوات والأزواد، وقتلوا من وقع في أيديهم، وانتهت غاراتهم إلى القدس الشريف والخليل عليه السلام، ووصلوا إلى غزة وقتلوا بجامعها خمسة نفر من المسلمين كانوا به منقطعين، ثم رجعوا إلى الشام وقد عاثوا ونهبوا وسبوا وأسروا جماعات كثيرة، وحصروا قرى كثيرة وقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً، ولما وصلوا إلى دمشق -وكان قازان قد رحل بعسكره- جبى له قبجق من أهل دمشق جباية أخرى لأجل بولاي، وخرج تقي الدين بن تيمية إلى مخيم بولاي، فاجتمع به في مكان؛ فرأى من معه من أسارى المسلمين، فاستنقذ كثيرًا منهم. وأقام عنده ثلاثة أيام، ثم عاد.
وفي عشية يوم السبت الرابع من رجب: رحل بولاي وأصحابه، وأشمروا عن البلد، وساروا من على عقبة دمّر، فعاثوا في تلك النواحي فساداً، ولم يأت سابع الشهر وفي حواشي البلد منهم أحد، ولله الحمد.
ذكر رحيل قازان من الشام:
لما ملّ قازان من الإقامة على الشام همّ بالرحيل، وكانت إقامته قدر شهرين، ثم رحل متوجهًا إلى بلاده في الخامس عشر من جمادى الأولى من هذه السنة، وكان قد ولّى الأمير سيف الدين قفجق النيابة بالبلاد الشامية، والأمير سيف الدين بكتمر السلحدار البلاد الحلبية والحموية، والأمير سيف الدين إلبكي البلاد الساحلية، ظنًا أنه قد صارت الممالك الإسلامية في قبضته وانحازت إلى حوزته؛ فلم يتم له ما أراد، ولا بلّغه الله شيئًا من هذا المراد، وأقام بعد رحيله نائبه قطلوشاه مع جمع كثيف من الجيش، فلما كان يوم الجمعة التاسع عشر من الشهر المذكور قرىء بالجامع تقليد الأمير قفجق بنيابة السلطنة بالشام، وتولية الأمير يحيى بن جلال الدين الختني الوزارة.
وفي يوم الاثنين الثاني والعشرين من الشهر: رحل قطلوشاه والعساكر، ففرح الناس بذلك واطمأنت قلوبهم، وخرج الناس إلى جبل الصالحية وإلى الحواضر والمزارع وأظهر الناس ما تخلف من أمتعتهم، وجلسوا في الأسواق وباعوا واشتروا...
وأما الأمير قفجق فإنه لما عاد من وداع قازان ركب الموكب في دمشق والعصابة على رأسه، ونادى فيها برجوع الناس، وآمنهم على أنفسهم.
وكان قد حضر إليه بعض أهل الفساد وضمنوا منه الخمر وبيعه، وعين عليه كل يوم ألف درهم، وجعل دار ابن جرادة خارج باب توما خمّارة وخانة، وأخذ أموالًا أخر من أوقاف المدارس وغيرها، ثم شرع يركب بالعصابة والشاويشية بين يديه، وجهّز نحوًا من ألف فارس نحو خربة اللصوص ومشى مشي الملوك في الولايات، وتأمير الأمراء والمراسيم العالية النافذة والآراء، وصار كما قال الشاعر:
يا لك من قنبرة بمعمري
خلالك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
ثم نهض الشيخ تقي الدين بن تيمية واجتمع بالأمير قفجق وقال له: إن الذي فعلته من ضمان الخمور شنعة كبيرة، وثلمة عظيمة في حق الإسلام، واستاذنه في إبطاله؛ فأذن له، وخرج بنفسه وأراق ظروف الخمر جميعها.
ولما كان يوم الجمعة رسم للخطيب بإعادة الخطبة في سائر الجوامع باسم السلطان الملك الناصر، وكان بالجامع الأموي ذلك النهار بكاء عظيم وتضرع إلى الله تعالى وتذاكر بما كانت الناس فيه من الشدة والنهب والسبي، وكانت مدة انقطاع الخطبة عن ملك الإسلام نحو مئة يوم، ثم أعادها الله تعالى.
وكان تقدير الذي حمل إلى خزانة قازان ثلاثة آلاف ألف دينار سوى ما أخذ من البراطيل للأمراء والوزراء وأكابر المغل، وهذا هو الذي حصره ابن المنجي، وأما الذي نهب من دمشق والأماكن التي ذكرناها فإنه لا يمكن حصره، وكذا الذي كسبه الأمراء والجند يوم الهزيمة، وذكر أن الذي صحبهم من الأسرى أحد عشر ألف نفس من الرجال والنساء والأطفال، وكان معظمهم من جبل الصالحية، ولم يصحب معهم إلى البلاد إلاّ القليل منهم، فإن منهم من هرب بالليالي، ومنهم من مات، ومنهم من اختفى، وأخذوا من البلد فوق عشرة آلاف فرس، وكان معظم فسادهم في جبل الصالحية، وكان غالب ذلك من طائفة الأرمن، فإن صاحب سيس كان في قلبه حزازات من فعل المسلمين في بلاده التي أخذت منهم، وضياعه التي أخربت، ورجاله الذين قتلوا، والغارات التي كانت تتواتر على بلاده من جهة المسلمين، ولما اتفق من نصرة قازان ما اتفق حضر صاحب سيس قدام قازان وسأله أن يمكنه من الدخول من الباب الشرقي والخروج من باب الجابية، ويضع السيف بين البابين، ويشتفي من المسلمين ويقيم بألف ألف دينار، فوقف قفجق في طريقه، وتحدث مع قازان وقال له: قد ملكت هذه البلاد وهي في يدك والمال الذي تحمله هذا تأخذه من أهل الشام من غير سفك دم، وما زال به حتى طرد صاحب سيس عن مراده).[26]

ما جرى لأمراء مصر بعد هزيمة غازان لهم:
وقال العيني عما جرى من الاستعداد في مصر لمواجهة خطر زحف المغول وتحرير الشام منهم: (وكانت الأمراء اجتمعوا عند السلطان قبل النفقة، وتشاوروا أن يؤخذ من سائر التجار والسّوقة وسائر من يتسبب بمصر والقاهرة عن كل رأس دينار، وطلبوا مجد الدين عيسى بن الخشاب نائب الحسبة، وقالوا له: انزل وتحدث مع القضاة في ذلك، وخذ لنا الفتوى منهم؛ فقال لهم مجد الدين: إن عندي فتوى بخط الشيخ عز الدين بن عبد السلام، لما خرج الملك المظفر قطز إلى ملتقى نائب هلاكو وهو كتبغا نوين لما سيره إلى أخذ مصر، فتلاقى معه على عين جالوت كما ذكرناه مفصلًا، وأنه لم يجد من المال ما يكفي نفقة العساكر، وقصدوا أخذ المال من العامة، استفتوا الشيخ عز الدين في هذا فأفتى لهم بأخذ دينار من كل أحد، وهذه الفتوى عندي، فأحضرها عندهم، وقال له الأمير سلار: اكتب صورة الاستفتاء وانزل بها إلى الشيخ تقي الدين محمد بن دقيق العيد قاضي القضاة حتى يكتب عليها بخطه، فكتب مجد الدين صورة الاستفتاء ونزل بها إلى قاضي القضاة ومعه شخص من الحجاب، وتحدثوا مع الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وناولوه صورة الاستفتاء، فأخذها وتأمل ما فيها، ثم هز رأسه وقال يا فقيه: ما القصد في ذلك؟ فقال: يا سيدي القصد أن تكتب على هذا لتطيّب خواطر الناس بالعطاء، قال: فرماها من يده وقال: لا حاجة للفتوى، وما ثم مانع إذا أراد ولاة الأمر بشيء قبل الناس؛ فخرج المحتسب والحاجب من عنده على هذا، وجاءوا إلى الأمراء وعّرفوهم بذلك، فقال الأمير سلار: ما بقي يمكن الكلام فيما قصدناه دون أن نجتمع بالقاضي ونعرفه بالأمر ونسأله هل هذا جائز أم لا؟ فإذا امتنع أخرجنا له فتوى الشيخ عز الدين بن عبد السلام. ففي بكرة النهار انزلوا إليه، وسلموا عليه واسألوه الاجتماع بنا لالتماس بركته، فلما أصبحوا نزلوا إليه وبلّغوه الرسالة، فقام وركب وجاء عند الأمراء، والكل حاضرون عند الأمير سلار، فلما رأوه قاموا كلهم وتلقوه من أسفل الإيوان، وأخذ السلار بيمينه والأمير بيبرس بشماله إلى أن أجلساه بينهما، وبقيت الأمراء جالسون بين يديه وتأنّسوا به حتى فتحوا له باب النفقات وقلة الحواصل في بيت المال وبينوا له الضرورات، ثم ذكروا له أمر الفتوى. فقال الشيخ: أيها الأمراء ما المانع لما تفعلوه إذا رسمتم بشيء ولا ثمة أحد يخالف! وقال الأمير سلار: يا سيدي نريد أن يكون معنا فتوى حتى لا نقع في أمر غير جائز، فيحصل علينا الإثم. فقال الشيخ: أما الفتوى فما يمكن أن أكتبها في مثل هذا، فقال له مجد الدين ابن الخشاب المحتسب: يا سيدي هذا خط الشيخ عز الدين بن عبد السلام كتبها في أيام الملك مظفر قطز، فنظر إليه وتبسم وقال: يا فقيه تعرف كيف أفتى الشيخ عز الدين في ذلك الوقت؟ قال: لا. فقال لما سألوه الفتوى، قال لهم: إن الفتوى في هذا لها شروط إن فعلتموها صحّت الفتوى. فقالوا: ما هي؟ فقال: أن يتقدم كل أمير منكم ويحلف بالله أنه لا يملك فضة ولا ذهبًا ولا لزوجته وأولاده مصاغ ولا غيره، فلما سمعوا هذا من الشيخ قام كل منهم وأحضر من موجوده وموجود أهله من حليّ وغيره، ثم حلف كل واحد منهم أنه لا يملك غير ذلك، فعند ذلك كتب لهم هذه الفتوى، ويا فقيه أما أنا فإنه يبلغني أن كل أمير يجهّز بنته بأنواع اللؤلؤ والفصوص، ويعمل بكالى فضة لبيت الماء، وقباقيب مكللة بأصناف الجواهر، وتريد مني أن أكتب فتوى على ما لا يحل، ثم قام ناهضًا وخرج، وقد أفحم كل واحد منهم عن الجواب.
وكان الشيخ قصد بهذا تسميع الأمير سلار حيث جهز بنته لما زوجها من أمير موسى ابن أستاذه الملك الصالح، والأمير بيبرس حيث جهز ابنته لما زوجها من بُرلغى قريب السلطان، وكان كل منهما قد جهز بنته بما لا يوصف ولا يضبط).[27]

رسالة ابن تيمية لسلطان مصر والشام بعد هزيمته سنة 699 هـ:
وقد كتب ابن تيمية رسالة إلى السلطان الملك الناصر قلاوون في شأن التتار، يشد من عزمه ويحرضه على جهادهم:  
(بسم الله الرحمن الرحيم {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}، {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} ...
إلى سلطان المسلمين، نصر الله به الدين، وقمع به الكفار والمنافقين، وأعز به الجند المؤمنين، وأدالهم به على القوم المفسدين: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير. ونسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد، فإن الله قد تكفل بنصر هذا الدين إلى يوم القيامة، وبظهوره على الدين كله، وشهد بذلك، وكفى بالله شهيدا، وأخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه "لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم إلى يوم القيامة"، وأخبر أنهم بالناحية الغربية عن مكة والمدينة، وهي أرض الشام وما يليها، كما أخبرنا أنه "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك، قوما صغار الأعين ذلف الأنوف، ينتعلون الشعر، كأن وجوههم المجان المطرقة"، وأخبر أن أمته لا يزالون يقاتلون الأمم حتى يقاتلوا الأعور الدجال، حين ينزل عيسى بن مريم من السماء على المنارة البيضاء شرقي دمشق؛ فيقتل المسلمون جنده القادم معه من يهود أصبهان وغيرهم، وأخبر صلى الله عليه وسلم "أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد دينها"، ولا يكون التجديد إلا بعد استهدام، وقال: "سألت ربي أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم؛ فأعطانيها، وسألته أن لا يهلكهم بسنة عامة؛ فأعطانيها"، وما زالت دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم تظهر شيئا بعد شيء، وقد أظهر الله في هذه الفتنة من رحمته بهذه الأمة وجندها ما فيه عبرة، حيث ابتلاهم بما يكفر به من خطاياهم، ويقبل بقلوبهم على ربهم، ويجمع كلمتهم على ولي أمرهم، وينزع الفرقة والاختلاف من بينهم، ويحرك عزماتهم للجهاد في سبيل الله وقتال الخارجين عن شريعة الله، فإن هذه الفتنة التي جرت، وإن كانت مؤلمة للقلوب، فما هي إن شاء الله إلا كالدواء الذي يسقاه المريض ليحصل له الشفاء والقوة، وقد كان في النفوس من الكبر والجهل والظلم ما لو حصل معه ما تشتهيه من العز لأعقبها ذلك بلاء عظيما، فرحم الله عباده برحمته التي هو أرحم بهم من الوالدة بولدها، وانكشف لعامة المسلمين شرقا وغربا حقيقة حال هؤلاء المفسدين الخارجين عن شريعة الإسلام، وإن تكلموا بالشهادتين، وعلم من لم يكن يعلم ما هم عليه من الجهل والظلم والنفاق والتلبيس والبعد عن شرائع الإسلام ومناهجه، وحنت إلى العساكر الإسلامية نفوس كانت معرضة عنهم، ولانت لهم قلوب كانت قاسية عليهم، وأنزل الله عليهم من ملائكته وسكينته ما لم يكن في تلك الفتنة معهم، وطابت نفوس أهل الإيمان ببذل النفوس والأموال للجهاد في سبيل الله، وأعدوا العدة لجهاد عدو الله وعدوهم، وانتبهوا من سنتهم، واستيقظوا من رقدتهم، وحمدوا الله على ما أنعم به من استعداد السلطان والعسكر للجهاد، وما جمعه من الأموال للإنفاق في سبيل الله، فإن الله فرض على المسلمين الجهاد بالأموال والأنفس، والجهاد واجب على كل مسلم قادر، ومن لم يقدر أن يجاهد بنفسه فعليه أن يجاهد بماله إن كان له مال يتسع لذلك، فإن الله فرض الجهاد بالأموال والأنفس، ومن كنز الأموال عند الحاجة إلى إنفاقها في الجهاد، من الملوك أو الأمراء أو الشيوخ أو العلماء أو التجار أو الصناع أو الجند أو غيرهم، فهو داخل في قوله سبحانه: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}... خصوصا إن كانت الأموال من أموال بيت المال، أو أموال أخذت بالربا ونحوه، أو لم تؤد زكاتها ولم تخرج حقوق الله منها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحض المسلمين على الإنفاق في سبيل الله، حتى إنه في غزاة تبوك حضهم، وكان المسلمون في حاجة شديدة، فجاء عثمان بن عفان بألف راحلة من ماله في سبيل الله بأحلاسها وأقتابها، وأعوزت خمسين راحلة فكملها بخمسين فرسا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم".
وذم الله المخلفين عن الغزو في سورة براءة بأقبح الذم؛ وقال: {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم}، فمن ترك الجهاد عذبه الله عذابا أليما بالذل وغيره، ونزع الأمر منه فأعطاه لغيره، فإن هذا الدين لمن ذب عنه، ومتى جاهدت الأمة عدوها ألف الله بين قلوبها، وإن تركت الجهاد شغل بعضها ببعض.
ومن نعم الله على الأمة أنها قد اجتمعت على ذلك في الشرق والغرب، حتى إن المؤمنين من أهل المشرق قد تحركت قلوبهم انتظارا لجنود الله، وفيهم من نوى أنه يخرج مع العدو إذا جمعوا، ثم إما أن يقفز عنهم، وإما أن يوقع بهم، والقلوب الساعة محترقة مهتزة لنصر الله ورسوله على القوم المفسدين، حتى إن بالموصل والجزيرة وجبال الأكراد خلقا عظيما مستعدين للجهاد مرتقبين العساكر، سواء تحرك العدو أو لم يتحرك.
وكذلك قدمت بنت بيدرا، وكانت مأسورة في بيت قازان، فأخبرت بما جرى بينه وبين أخيه وأمه مما يؤيد ذلك، وهي الساعة في نيتها تذهب إلى مصر، وقد أقامت في بيتهم مدة إلى نصف شوال على ما ذكرت.
وسواء ألقى الله بينهم الفرقة والاختلاف وأهلك رؤساءهم أو لم يكن، فإن الأمر إذا كان كذلك فهذا عون عظيم من الله للمسلمين.
وقد اتصل بالداعي أخبار صادقة من جهات يوثق بها، بما قد مال مع المسلمين من أمراء تلك البلاد حتى من المغول، ولابد أن السلطان يطالع بذلك من تلك البلاد، فإن هناك قوم صالحون ساعون في مصالح المسلمين، كشيخ الجزيرة الشيخ أحمد.
وجاءتنا أخبار مع غير واحد بأن الخربندا أخا قازان قد قدم الروم، وهو يجمع العساكر للقدوم، وقدمت بنت لبيدرا كانت مأسورة في بيت قازان، وذكرت أحوالا من الكلام بين قازان وأخيه الخربندا وأمه، تدل على ذلك، وأن الخربندا هو في نية فاسدة للمسلمين، وأمه تنهاه عن ذلك، وهو لا يقبل، ويوقع بينهم فتنة.
فليس من الواجب أن يترك نصر الله ورسوله والجهاد في سبيل الله إذا كان عدو الله وعدو المسلمين قد وقع البأس بينهم، بل هناك يكون انتهاز الفرصة، ولا يحل للمسلمين أن ينتظروهم حتى يطؤوا بلاد المسلمين، كما فعلوا عام أول... والله قد فرض على المسلمين الجهاد لمن خرج عن دينه وإن لم يكونوا يقاتلونا، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه يجهزون الجيوش إلى العدو وإن كان العدو لا يقصدهم، حتى إنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مصيبته أعظم المصائب، وتفرق الناس بعد موته واختلفوا، نفذ أبو بكر الصديق رضي الله عنه جيش أسامة بن زيد الذي كان قد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام إلى غزو النصارى، والمسلمون إذ ذاك في غاية الضعف، فلما رآهم العدو فزعوا وقالوا: لو كان هؤلاء ضعفاء ما بعثوا جيشا، وكذلك أبو بكر الصديق لما حضرته الوفاة قال لعمر بن الخطاب: لا يشغلكم مصيبتكم بي عن جهاد عدوكم، وكانوا هم قاصدين للعدو لا مقصودين.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته، وهو يقول: "نفذوا جيش أسامة، نفذوا جيش أسامة"، لا يشغله ما هو فيه من البلاء الشديد عن مجاهدة العدو. وكذلك أبو بكر.
والساعة لما ذهب أمير بحلب بعسكر إلى الجزيرة وتصيد هناك، طار الصيت في تلك البلاد بمجيء العسكر، فامتلأت قلوب البنجاي رعبا، حتى صاروا يريدون أن يظهروا زي المسلمين لئلا يؤخذوا، وفي قلوب العدو رعب لا يعلمه إلا الله، وقد هيئ لهم في البلاد إقامات كثيرة من الشعير وغيره، والمسلمون هناك يدعون الله أن يكون رزق المسلمين.
وأقل ما يجب على المسلمين أن يجاهدوا عدوهم في كل عام مرة، وإن تركوه أكثر من ذلك فقد عصوا الله ورسوله، واستحقوا العقوبة، وكذلك إذا تقاعدوا حتى يطأ العدو أرض الإسلام، والتجربة تدل على ذلك، فإنه لما كان المسلمون يقصدونهم في تلك البلاد لم يزالوا منصورين، وفي نوبتي حمص الأولى والثانية لما مكنوهم من دخول البلاد كاد المسلمون في تلك النوبة أن ينكسروا لولا أن ثبت الله، وجرى في هذه المدة ما جرى، وما قصدهم المسلمون قط إلا نصروا، كنوبة عين جالوت والفرات والروم، ونحن نرجو أن يستأصلهم الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن البشارات متوفرة على ذلك، وقد حدثنا أبي رحمه الله أنه كان عندهم كتاب عتيق وقف عليه من أكثر من خمسين سنة قبل مجيء التتار إلى بغداد، وهو مكتوب من سنين كثيرة، وفي آخره: والتتار يقلعهم المصريون. وقد رأى المسلمون أنواعا من المبشرات بنصر الله ورسوله، وهذا لا شك منه إن شاء الله.
وليست هذه النوبة كتلك، فإن تلك المرة كان فيها أمور لا يليق ذكرها عفا الله عنها، وما فعله الله بالمسلمين كان أحمد في حقهم، ثم لا شك أن الله ينصر دينه وينتقم من أعدائه، وقد قال تعالى: {ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ويصلح بالهم. ويدخلهم الجنة عرفها لهم. يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}.
ثم في الحركة في سبيل الله أنواع من الفوائد:
إحداها: طمأنينة قلوب أهل البلاد حتى يعمروا ويزدرعوا، وإلا فما دامت القلوب خائفة لا يستقيم الحال.
الثانية: أن البلاد الشمالية كحلب ونحوها فيها خير كثير ورزق عظيم ينتفع به العسكر.
الفائدة الثالثة: أنه يقوي قلوب المسلمين في تلك البلاد من الأعوان والنصحاء، ويزداد العدو رعبا، وإن لم تحصل حركة فترت القلوب، وربما انقلب قوم فصاروا مع العدو، فإن الناس مع القائم.
ولما جاء العسكر إلى الشام كان فيه مصلحة عظيمة، ولو تقدم بعضهم إلى الثغر كان في غاية الجودة.
الفائدة الرابعة: أنهم إن ساروا أو بعضهم حتى يأخذوا ما في بلد الجزيرة من الإقامات والأموال السلطانية من غير إيذاء المسلمين كان من أعظم الفوائد، وإن ساروا قاطنين متمكنين نزلت إليهم أمراء تلك البلاد من أهل الأمصار والجبال، واجتمعت جنود عظيمة، فإن غالب أهل البلاد قلوبهم مع المسلمين، إلا الكفار من النصارى ونحوهم، وإلا الروافض، فإن أكثر الروافض ونحوهم من أهل البدع هواهم مع العدو، فإنهم أظهروا السرور بانكسار عسكر المسلمين، وأظهروا الشماتة بجمهور المسلمين. وهذا معروف لهم من نوبة بغداد وحلب، وهذه النوبة أيضا، كما فعل أهل الجبل الجرد والكسروان، ولهذا خرجنا في غزوهم لما خرج إليهم العسكر، وكان في ذلك خيرة عظيمة للمسلمين.
فإذا كانت عامه القلوب هناك وهنا مع هذا العسكر المنصور، وقد أقامه الله سبحانه وأيده وأمده بنعمته على محمد وأمته، وقلوب العدو في غاية الرعب منه، والله لقد رأى الداعي من رعبهم مالا يوصف، حتى إن وزيرهم يحيى قال قدام الداعي وبولاي يسمع: واحد منكم يغلب ستة من هؤلاء، وهكذا يخبر القادمون من هناك أنهم مرعوبون جدا، فمن نعمة الله على المسلمين أن ييسر غزاة ينصر الله بها دينه هنا وهناك. وما ذلك على الله بعزيز.
وليس من شريعة الإسلام أن المسلمين ينتظرون عدوهم حتى يقدم عليهم، هذا لم يأمر الله به ولا رسوله ولا المسلمون، ولكن يجب على المسلمين أن يقصدوهم للجهاد في سبيل الله، وإن بدؤوا هم بالحركة فلا يجوز تمكينهم حتى يعبروا ديار المسلمين، بل الواجب تقدم العساكر الإسلامية إلى ثغور المسلمين، فالله تعالى يختار للمسلمين في جميع الأمور ما فيه صلاح الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد عبده ورسوله).[28]

رسالة ابن تيمية بوجوب جهاد التتار:
لقد كان تظاهر غازان بالإسلام -وقدومه بالأئمة والقضاة والمؤذنين، ودخوله الشام بجيوشه، وبسط سلطانه على أهله بالقوة، وتوليته نائبا عليه من طرفه- كافيا في الفقه المؤول لوجوب السمع والطاعة له، والاعتراف بشرعية سلطته، وقد نصب من طرفه الولاة والقضاة في الشام، وجعل جيشا يبلغ تعداده ستين ألف مقاتل لبسط سلطانه، إلا إن ابن تيمية لم يلق لذلك بالا، وأخذ يرد على من تردد في جهاده بشبهة أنه مسلم، أو أن القتال له قتال فتنة؛ فقال في رسالته إلى أهل الشام -لما قدم العدو من التتار سنة تسع وتسعين وستمائة إلى حلب وانصرف عسكر مصر وبقي عسكر الشام- يحرضهم على الجهاد:
(بسم الله الرحمن الرحيم إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على صفوته من خليقته، وخيرته من بريته، محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما، أما بعد: فإن الله عز وجل بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وجعله خاتم النبيين، وسيد ولد آدم من الناس أجمعين، وجعل كتابه الذي أنزلهعليه مهيمنا على ما بين يديه من الكتب ومصدقا لها، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ فهم يوفون سبعين فرقة هم خيرها وأكرمها على الله، وقد أكمل لهم دينهم، وأتم عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينا، فليس دين أفضل من دينهم الذي جاء به رسولهم، ولا كتاب أفضل من كتابهم، ولا أمة خيرا من أمتهم، بل كتابنا ونبينا وديننا وأمتنا أفضل من كل كتاب ودين ونبي وأمة، فاشكروا الله على ما أنعم به عليكم {ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم}...
فقد سمعتم ما نعت الله به الشاكرين والمنقلبين حيث يقول: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}... وارتد بسبب موت الرسول صلى الله عليه وسلم ولما حصل لهم من الضعف جماعات من الناس: قوم ارتدوا عن الدين بالكلية، وقوم ارتدوا عن بعضه، فقالوا: نصلي ولا نزكي، وقوم ارتدوا عن إخلاص الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فآمنوا مع محمد بقوم من النبيين الكذابين كمسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي وغيرهما، فقام إلى جهادهم الشاكرون الذين ثبتوا على الدين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار والطلقاء والأعراب ومن اتبعهم بإحسان الذين قال الله عز وجل فيهم {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}، هم أولئك الذين جاهدوا المنقلبين على أعقابهم الذين لم يضروا الله شيئا، وما أنزل الله في القرآن من آية إلا وقد عمل بها قوم وسيعمل بها آخرون، فمن كان من الشاكرين الثابتين على الدين الذين يحبهم الله عز وجل ورسوله؛ فإنه يجاهد المنقلبين على أعقابهم الذين يخرجون عن الدين ويأخذون بعضه ويدعون بعضه، كحال هؤلاء القوم المجرمين المفسدين الذين خرجوا على أهل الإسلام، وتكلم بعضهم بالشهادتين، وتسمى بالإسلام من غير التزام شريعته؛ فإن عسكرهم مشتمل على أربع طوائف:
1- كافرة باقية على كفرها: من الكرج والأرمن والمغول .
2- وطائفة كانت مسلمة فارتدت عن الإسلام وانقلبت على عقبيها: من العرب والفرس والروم وغيرهم. وهؤلاء أعظم جرما عند الله وعند رسوله والمؤمنين من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة، فإن هؤلاء يجب قتلهم حتما ما لم يرجعوا إلى ما خرجوا عنه... فالكافر المرتد أسوأ حالا في الدين والدنيا من الكافر المستمر على كفره، وهؤلاء القوم فيهم من المرتدة ما لا يحصي عددهم إلا الله. فهذان صنفان.
3- وفيهم أيضا من كان كافرا فانتسب إلى الإسلام ولم يلتزم شرائعه؛ من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت والكف عن دماء المسلمين وأموالهم، والتزام الجهاد في سبيل الله... وهؤلاء يجب قتالهم بإجماع المسلمين، كما قاتل الصديق مانعي الزكاة؛ بل هؤلاء شر منهم من وجوه، وكما قاتل الصحابة أيضا مع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الخوارج بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم في وصفهم: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة".. فهذه ثلاثة أصناف.
4- وفيهم صنف رابع شر من هؤلاء: وهم قوم ارتدوا عن شرائع الإسلام، وبقوا مستمسكين بالانتساب إليه، فهؤلاء الكفار المرتدون، والداخلون فيه من غير التزام لشرائعه، والمرتدون عن شرائعه لا عن سمته: كلهم يجب قتالهم بإجماع المسلمين حتى يلتزموا شرائع الإسلام، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وحتى تكون كلمة الله -التي هي كتابه وما فيه من أمره ونهيه وخبره- هي العليا، هذا إذا كانوا قاطنين في أرضهم، فكيف إذا استولوا على أراضي الإسلام: من العراق وخراسان والجزيرة والروم، فكيف إذا قصدوكم وصالوا عليكم بغيا وعدوانا؟! {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين}، {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم}.
واعلموا -أصلحكم الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه من وجوه كثيرة أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة" وثبت أنهم بالشام .
فهذه الفتنة قد تفرق الناس فيها ثلاث فرق:
1- الطائفة المنصورة وهم المجاهدون لهؤلاء القوم المفسدين.
2- والطائفة المخالفة وهم هؤلاء القوم، ومن تحيز إليهم من خبالة المنتسبين إلى الإسلام .
3- والطائفة المخذلة وهم القاعدون عن جهادهم؛ وإن كانوا صحيحي الإسلام .
فلينظر الرجل أيكون من الطائفة المنصورة، أم من الخاذلة، أم من المخالفة؟ فما بقي قسم رابع!
واعلموا أن الجهاد فيه خير الدنيا والآخرة، وفي تركه خسارة الدنيا والآخرة قال الله تعالى في كتابه {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين}، يعني: إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة، فمن عاش من المجاهدين كان كريما له ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، ومن مات منهم أو قتل فإلى الجنة...
واعلموا -أصلحكم الله- أن من أعظم النعم على من أراد الله به خيرا أن أحياه إلى هذا الوقت الذي يجدد الله فيه الدين، ويحيي فيه شعار المسلمين، وأحوال المؤمنين والمجاهدين، حتى يكون شبيها بالسابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار؛ فمن قام في هذا الوقت بذلك كان من التابعين لهم بإحسان الذين {رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} .
فينبغي للمؤمنين أن يشكروا الله تعالى على هذه المحنة التي حقيقتها منحة كريمة من الله، وهذه الفتنة التي في باطنها نعمة جسيمة، حتى والله لو كان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار -كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم- حاضرين في هذا الزمان لكان من أفضل أعمالهم جهاد هؤلاء القوم المجرمين، ولا يفوت مثل هذه الغزاة إلا من خسرت تجارته وسفه نفسه وحرم حظا عظيما من الدنيا والآخرة؛ إلا أن يكون ممن عذر الله تعالى كالمريض والفقير والأعمى وغيرهم، وإلا فمن كان له مال وهو عاجز ببدنه فليغز بماله، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا"، ومن كان قادرا ببدنه وهو فقير فليأخذ من أموال المسلمين ما يتجهز به سواء كان المأخوذ زكاة أو صلة أو من بيت المال أو غير ذلك؛ حتى لو كان الرجل قد حصل بيده مال حرام، وقد تعذر رده إلى أصحابه لجهله بهم ونحو ذلك، أو كان بيده ودائع أو رهون أو عوار قد تعذر معرفة أصحابها فلينفقها في سبيل الله، فإن ذلك مصرفها، ومن كان كثير الذنوب فأعظم دوائه الجهاد؛ فإن الله عز وجل يغفر ذنوبه، كما أخبر الله في كتابه بقوله سبحانه وتعالى: {يغفر لكم ذنوبكم}، ومن أراد التخلص من الحرام والتوبة ولا يمكن رده إلى أصحابه فلينفقه في سبيل الله عن أصحابه فإن ذلك طريق حسنة إلىخلاصه مع ما يحصل له من أجر الجهاد، وكذلك من أراد أن يكفر الله عنه سيئاته في دعوى الجاهلية وحميتها فعليه بالجهاد؛ فإن الذين يتعصبون للقبائل وغير القبائل -مثل قيس ويمن وهلال وأسد ونحو ذلك- كل هؤلاء إذا قتلوا فإن القاتل والمقتول في النار، كذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار . قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل أخيه" أخرجاه في الصحيحين. وقال صلى الله عليه وسلم "من قتل تحت راية عمية: يغضب لعصبية ويدعو لعصبية فهو في النار" رواه مسلم، فمن تعصب لأهل بلدته أو مذهبه أو طريقته أو قرابته أو لأصدقائه دون غيرهم كانت فيه شعبة من الجاهلية، حتى يكون المؤمنون كما أمرهم الله تعالى معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله، كتابهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم واحد، وربهم إله واحد، لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}، {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}، {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}...
فالله الله! عليكم بالجماعة والائتلاف على طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله؛ يجمع الله قلوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم..).[29]

فتوى ابن تيمية في وجوب جهاد التتار بالنفس والمال:
وقد كثر السؤال سنة 699 هـ عن حكم قتال التتار، وجهاد غازان وجيوشه الذين غزو الشام، حين اضطرب الناس في شأنهم، واختلفوا في حكم جهادهم؛ لتظاهرهم بالإسلام دون التزام أحكامه وشرائعه، ومن ذلك سؤال:
(ما تقول الفقهاء أئمة الدين: في هؤلاء التتار الذين قدموا سنة تسع وتسعين وستمائة، وفعلوا ما اشتهر من قتل المسلمين وسبي بعض الذراري، والنهب لمن وجدوه من المسلمين، وهتكوا حرمات الدين، من إذلال المسلمين وإهانة المساجد لا سيما "بيت المقدس" وأفسدوا فيه، وأخذوا من أموال المسلمين وأموال بيت المال الحمل العظيم، وأسروا من رجال المسلمين الجم الغفير، وأخرجوهم من أوطانهم، وادعوا مع ذلك التمسك بالشهادتين، وادعوا تحريم قتال مقاتلهم لما زعموا من اتباع أصل الإسلام، ولكونهم عفوا عن استئصال المسلمين؟ فهل يجوز قتالهم أو يجب وأيما كان فمن أي الوجوه جوازه أو وجوبه؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب: الحمد لله، كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة؛ من هؤلاء القوم وغيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما، فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام عملا بالكتاب والسنة، وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة مع قوله: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم"، فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب، فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا والميسر أو عن نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته -التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها- التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها، وهذا ما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء، وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن، كركعتي الفجر والأذان والإقامة -عند من لا يقول بوجوبها- ونحو ذلك من الشعائر، هل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات والمحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها، وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته؛ كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته، وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام؛ بمنزلة مانعي الزكاة وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولهذا افترقت سيرة علي رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة والشام، وفي قتاله لأهل النهروان: فكانت سيرته مع أهل البصرة والشاميين سيرة الأخ مع أخيه، ومع الخوارج بخلاف ذلك. وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصديق وقتال الخوارج؛ بخلاف الفتنة الواقعة مع أهل الشام والبصرة؛ فإن النصوص دلت فيها بما دلت والصحابة والتابعون اختلفوا فيها، على أن من الفقهاء الأئمة من يرى أن أهل البغي الذين يجب قتالهم هم الخارجون على الإمام بتأويل سائغ ؛ لا الخارجون عن طاعته، وآخرون يجعلون القسمين بغاة، وبين البغاة والتتار فرق بيّن، فأما الذين لا يلتزمون شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة؛ فلا أعلم في وجوب قتالهم خلافا، فإذا تقررت هذه القاعدة فهؤلاء القوم المسئول عنهم عسكرهم مشتمل على قوم كفار من النصارى والمشركين وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام - وهم جمهور العسكر - ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم، ويعظمون الرسول، وليس فيهم من يصلي إلا قليلا جدا، وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة، والمسلم عندهم أعظم من غيره..).[30]
كما رد ابن تيمية على من قاس من الفقهاء غازان ومن معه من التتار على البغاة وأعطاهم أحكامهم، وفرق بينهم وبينهم من وجوه، وأجاب على سؤال ورد ونصه:
(ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين وأعانهم على بيان الحق المبين وكشف غمرات الجاهلين والزائغين: في هؤلاء التتار الذين يقدمون إلى الشام مرة بعد مرة وتكلموا بالشهادتين وانتسبوا إلى الإسلام ولم يبقوا على الكفر الذي كانوا عليه في أول الأمر فهل يجب قتالهم أم لا؟ وما الحجة على قتالهم؟ وما مذاهب العلماء في ذلك؟ وما حكم من كان معهم ممن يفر إليهم من عسكر المسلمين: الأمراء وغيرهم؟ وما حكم من قد أخرجوه معهم مكرها؟ وما حكم من يكون مع عسكرهم من المنتسبين إلى العلم والفقه والفقر والتصوف ونحو ذلك؟ وما يقال فيمن زعم أنهم مسلمون والمقاتلون لهم مسلمون وكلاهما ظالم فلا يقاتل مع أحدهما؟ وفي قول من زعم أنهم يقاتلون كما تقاتل البغاة المتأولون؟ وما الواجب على جماعة المسلمين من أهل العلم والدين وأهل القتال وأهل الأموال في أمرهم؟ أفتونا في ذلك بأجوبة مبسوطة شافية فإن أمرهم قد أشكل على كثير من المسلمين؛ بل على أكثرهم، تارة لعدم العلم بأحوالهم، وتارة لعدم العلم بحكم الله؟).
فقال ابن تيمية فيهم: (يجب قتال هؤلاء التتار الذين يقدمون إلى الشام مرة بعد مرة، وإن تكلموا بالشهادتين وانتسبوا إلى الإسلام وجب قتالهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفاق أئمة المسلمين، وهذا مبنى على أصلين أحدهما المعرفة بحالهم، والثاني معرفة حكم الله فيهم وفي أمثالهم، أما الأول فكل من باشر القوم يعلم حالهم وهو متواتر بأخبار الصادقين، ونحن نتكلم على جملة أمورهم بعد أن نبين الأصل الآخر الذي يختص بمعرفته أهل العلم فنقول: كل طائفة خرجت عن شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة مثل أن تركوا الصلاة، أو منعوا الزكاة، أو أعلنوا بالبدع المناقضة للإسلام في العقائد أو العبادات أو تحاكموا إلى الطاغوت، [وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان، أو حج البيت العتيق، وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش، أو الزنا، أو الميسر، أو الخمر، أو غير ذلك من محرمات الشريعة، وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة ونحو ذلك... قال الله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} وهذه الآية نزلت في أهل الطائف، وكانوا قد أسلموا وصلوا وصاموا، لكن كانوا يتعاملون بالربا، فأنزل الله هذه الآية وأمر المؤمنين فيها بترك ما بقي من الربا، وقال: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} وقد قرئ {فأذنوا} و{آذنوا} وكلا المعنيين صحيح، والربا آخر المحرمات في القرآن، وهو ما يوجد بتراضي المتعاملين، فإذا كان من لم ينته عنه محاربا لله ورسوله، فكيف بمن لم ينته عن غيره من المحرمات التي هي أسبق تحريما وأعظم تحريما]، فالواجب على المسلمين قتالهم باتفاق أئمة المسلمين، وإن تكلموا بالشهادتين فيجب قتالهم على نحو ما فعل أبو بكر والصحابة بأهل الردة وبالخوارج حتى يكون الدين كله لله، وأما الأصل الآخر وهو معرفة أحوالهم فقد علم أن هؤلاء القوم جاروا على الشام في المرة الأولى عام تسعة وتسعين وستمائة وأعطوا الناس الأمان وقرؤوه على المنبر بدمشق ومع هذا فقد سبوا من ذراري المسلمين ما يقال إنه مائة ألف أو يزيد عليه، وفعلوا ببيت المقدس وجبل الصالحية ونابلس وحمص ودرايا وغير ذلك من القتل والسبي ما لا يعلمه إلا الله، وفجروا بخير نساء المسلمين في المساجد كالمسجد الأقصى والأموي وغيرها، وجعلوا الجامع الذي بالعقبة دكا، وقد شاهدنا عسكر القوم فوجدنا جمهورهم لا يصلون، ولم نر في عسكرهم مؤذنا ولا إماما، ولم يكن معهم إلا من كان من شر الخلق إما زنديق منافق لا يعتقد دين الإسلام في الباطن، وإما من هو شر أهل البدع كالرافضة والجهمية والاتحادية ونحوهم، وإما من أفجر الناس وأفسقهم، وهم لا يحجون البيت العتيق مع تمكنهم، وإن كان فيهم من يصلي ويصوم فليس الغالب عليهم إقامة الصلاة ولا إيتاء الزكاة، وإن فعلوا هو للتقية، وهم يقاتلون على ملك جنكيزخان، فمن دخل في طاعتهم وطاعة شريعة جنكيزخان الكفرية التي يسمونها الياسقة السياسة جعلوه وليا لهم وإن كافرا، ومن خرج عن ذلك جعلوه عدوا لهم وإن كان من خيار المسلمين، ولا يقاتلون على الإسلام، ولا يضعون على أهل الذمة جزية، كما قال أكبر مقدميهم إلى المسلمين الذين قدموا إلى الشام، وهو يخاطب رسل المسلمين، ويتقرب إليهم بأنا مسلمون فقال: هذان آيتان عظيمتان جاءا من عند الله: محمد، وجنكيز خان، فهذا غاية ما يتقرب به أكبر مقدميهم إلى المسلمين: أن يسوى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أكرم خلق الله وسيد ولد آدم وبين ملك كافر وثنى خبيث من أعظم المشركين كفرا وفسادا وعدوانا، وذلك أن اعتقادهم في جنكيرخان كفر عظيم، فإنهم يعتقدون أنه ابن الله من جنس ما يعتقد النصارى في المسيح سبحان ربنا وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا... فهو عندهم أعظم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعظمون ما سنه لهم وشرعه بظلمه وهواه، ويشركون به بذكر اسمه على أكلهم وشربهم وحكمهم، ويستحلون قتل من ترك سنة هذا الكافر... ولو قلت ما رأيته منهم وسمعته لما وسعه هذا المكان، ومعلوم من دين الإسلام أن من جوز اتباع شريعة غير الإسلام فإنه كافر، وبالجملة فما من نفاق وزندقة وإلحاد وفسوق وعصيان إلا وهي داخلة في أتباع التتار، لأنهم من أجهل الخلق وأقلهم معرفة بالدين وأجرأهم على انتهاك الحرمات، واعتداء الحدود، وأعظم الخلق اتباعا للظن وما تهوى الأنفس، وقد قسموا الناس بحسب سياستهم الفاجرة أربعة أقسام: يار، ودشمن، ودانشمند، وطط، أي: صديقهم، وعدوهم، والعالم، والعاصي، حتى صنف وزيرهم السفيه الملقب بالرشيد كتابا قال فيه إن محمدا رضي بدين اليهود والنصارى، وأنه لا ينكر عليهم، واستدل بقوله تعالى: {قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد}، إلى آخر السورة وزعم الخبيث أن هذا يقتضي أن الرسول رضي دينهم...  ومن فر إليهم من أمراء العسكر؛ فحكمه حكمهم، فيه من الردة بقدر ما تركه من شرائع الإسلام، فعلينا أن نقاتلهم، ولو كان فيهم من هو مكره لا نلتفت إليه، لأن الله تعالى يخسف بالجيش الذي يغزو الكعبة مع علمه سبحانه وتعالى بمن فيهم هو مكره، ثم يبعثهم على نياتهم، وهل يجوز القتال في الفتنة؟ على قولين هما روايتان عن أحمد، ويجوز أن يغمس المسلم نفسه في صف الكفار لمصلحة ولو غلب على ظنه أنهم يقتلونه، ومن زعم أن هؤلاء التتارية يقاتلون كالبغاة فقد أخطأ خطأ قبيحا، فإن هؤلاء التتار لا شبهة لهم بل يسعون في الأرض فسادا، خارجين عن شرائع كل دين، ثم لو قدر أنهم يتأولون لم يكن تأويلهم سائغا، بل تأويل الخوارج وما نعي الزكاة أوجه من تأويلهم، وقد خاطبني بعضهم؛ فقال: ملكنا ملك بن ملك بن ملك إلى سبعة أجداد، وملككم ابن مولى! فقلت: آباء ذلك الملك كلهم كفار ولا فخر بالكافر، بل المملوك المسلم خير من الملك الكافر، قال الله تعالى: {ولعبد مؤمن خير من مشرك}، فهذه وأمثالها حججهم، وبالجملة فقد اتفق المسلمون على أن من ترك شريعة من شرائع الإسلام وجب قتاله فكيف بمن ترك جميع شرائعه أو أكثرها؟ فما الظن بمن يحاربها... [وقد أظهروا الرفض ومنعوا أن نذكر على المنابر الخلفاء الراشدين، وذكروا عليا وأظهروا الدعوة للاثني عشر... والرافضة تحب التتار ودولتهم؛ لأنه يحصل لهم بها من العز ما لا يحصل بدولة المسلمين، هم معاونون للمشركين واليهود والنصارى على قتال المسلمين، وكانوا من أعظم الأسباب في دخول التتار قبل إسلامهم إلى أرض المشرق بخراسان والعراق والشام، وكانوا من أعظم الناس معاونة لهم على أخذهم لبلاد الإسلام وقتل المسلمين وسبي حريمهم، وقضية ابن العلقمي وأمثاله مع الخليفة، وقضيتهم في حلب مع صاحب حلب: مشهورة يعرفها عموم الناس، وكذلك في الحروب التي بين المسلمين وبين النصارى بسواحل الشام، قد عرف أهل الخبرة أن الرافضة تكون مع النصارى على المسلمين، وأنهم عاونوهم على أخذ البلاد لما جاء التتار وعز على الرافضة فتح عكة وغيرها من السواحل]..).[31]

غزوة غازان الثانية سنة 700 هـ:
وقد كر غازان على الشام مرة أخرى في هذه السنة، فاضطرب أهله، كما قال العيني في تاريخه: (فيما وقع من الحوادث في السنة السبعمائة من الهجرة: استهلت والخليفة: الإمام الحاكم أبو العباس أحمد بن أبي علي بن الإمام أبي بكر بن الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين العباسي، وسلطان الديار المصرية والبلاد الشامية: الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي، ونائبه بمصر: سيف الدين سلار، وفي دمشق: جمال الدين أقوش الأفرم، وفي حلب: شمس الدين قراسنقر المنصوري، وبطرابلس والسواحل: سيف الدين قطلوبك، وبصفد: سيف الدين بلبان طرنا السلحدار، وبحماة: زين الدين كتبغا العادلي، وبالكرك: جمال أقوش الأشرفي.
والقاضي الشافعي بمصر: تقي الدين بن دقيق العبد، والحنفي: شمس الدين السروجي، والمالكي: زين الدين بن مخلوف، والحنبلي: شرف الدين الحراني.
وقاضي الشافعية بدمشق: بدر الدين بن جماعة، وقاضي الحنفية: شمس الدين ابن الحريري، والمالكية: جمال الدين الزواوي، والحنابلة: تقي الدين سليمان بن مزة المقدسي، والخطيب: بدر الدين بن جماعة، والوزير بمصر: شمس الدين سنقر الأعسر.
وردت القصاد في أوائل هذه السنة من بلاد الشرق، وأخبروا أن قازان ملك التتار قد بلغه أن قفجق التحق بمصر إلى السلطان بمن معه من الأمراء، وسلم إليه دمشق، وخطب للسلطان صاحب مصر، وأبطل اسمه، فعز عليه ذلك، ورسم أن يجمع جيشه للعبور إلى الشام، وكان قد حنق على قفجق، وجمع المغول واستشارهم، فمنهم من أشار عليه بالركوب، ومنهم من قال له: يا خوند الذي حصل لك ما حصل لأحد من ملوك المغول حيث نصرت على عسكر ما عرف قط أنه انهزم من المغول، وقد بقي لك في نفوسهم هيبة، وما في الاستعجال في الركوب إليهم فائدة، فربما يكون بعد الربح الخسران، ولا تأمن أن ينصروا علينا، والمصلحة أن تبعث إليهم رسلاً في ذلك وتطالبهم أن يحملوا لك مالاً ويكون ذلك راحة للعسكر وحرمة للملك.
ثم تواترت مطالعات نواب الشام بأن التتار قاصدون البلاد، ووقع الجفل في أهل البلاد إلى الديار المصرية، وتتابعوا من جميع الأعمال حتى ملأوا الأقاليم والنواحي، وضاقت بهم الأماكن، وعجز أكثرهم عن المساكن، وظن الناس أنهم يعدمون الأقوات، فوضع الله البركة في الغلال، وأنزل الرخاء في الأسعار، فكانوا كلما تكاثروا انحطت الأسعار حتى بيع الأردب من القمح بخمس عشرة درهماً).[32]
وقد توجه ابن تيمية إلى مصر يستنصرهم للدفاع عن الشام، قال ابن ناصر الدين: (لما قدم التتار خذلهم الله تعالى سنة سبعمائة إلى أطراف البلاد الشامية، وكانت العساكر المصرية قد خرجت لقتالهم، ثم قوي عليهم المطر وشدة البرد فرجعوا متوجهين إلى مصر؛ فبلغ ذلك الشيخ تقي الدين ابن تيمية؛ فركب على البريد من دمشق، وساق ليلحق السلطان قبل دخوله إلى مصر، فسبقه الجيش ودخل إلى القاهرة، فدخلها الشيخ تقي الدين ابن تيمية في اليوم الثامن من خروجه من دمشق، وكان دخوله مع دخول بعض العساكر إلى القاهرة يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى سنة سبعمائة، فاجتمع بالشيخ أعيان البلد ومنهم تقي الدين ابن دقيق العيد، فسمع كلام الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقال له بعد سماع كلامه: ما كنت أظن أن الله تعالى بقي يخلق مثلك! وسئل الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد بعد انقضاء ذلك المجلس عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية، فقال: هو رجل حفظة، فقيل له: فهلا تكلمت معه؟ فقال: هذا رجل يحب الكلام وأنا أحب السكوت. وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد أيضا: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد..).[33]
وقد صدع ابن تيمية أمراء مصر بالحق، وهددهم بأنهم إن لم يقوموا بمسئوليتهم بحماية الشام وأهله، فإنهم سيقيمون منهم سلطانا يحوطه ويحميه وقت الأمن، ولم يكن مثل هذا الخطاب معهودا، وهو أن يتحدث فقيه للسلطان بأنه إن لم تقوموا بواجبكم تجاه بلدكم أقمنا مكانكم من يقوم به، وقد اختصر ابن كثير ما دار في ذلك الحوار بين ابن تيمية ورجال الدولة بالقاهرة، فقال: (وقال لهم فيما قال: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن، ولم يزل بهم حتى جردت العساكر إلى الشام، ثم قال لهم: لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر؛ فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسئولون عنهم).[34]
وقد ظل ابن تيمية في القاهرة أياما يجتمع بأمرائها وعلمائها ويحضهم على الجهاد ويحرضهم، ويبشرهم بوعد الله بالنصر لهم، وقد رفض أخذ شيء من هداياهم، كما قال ابن فضل الله العمري: (ولما سافر على البريد إلى القاهرة سنة سبعمائة نزل عند عميّ الصاحب شرف الدين تغمده الله برحمته، وحضّ على الجهاد في سبيل الله، وأغلظ في القول للسلطان والأمراء، ورتّب له مدة إقامته بالقاهرة مرتب في كل يوم، وهو دينار وصحفة طعام، وحاجته بقجة قماش؛ فلم يقبل من ذلك شيئا).[35]
وقد ذكر ابن كثير تفاصيل ما جرى في تلك السنة، وما أصاب أهل الشام من خوف وهلع، وفرار أكثرهم إلى مصر، خشية أن يحدث لهم ما حدث في السنة التي قبلها، وقد رجع ابن تيمية لهم، وأخذ يثبتهم، ويرابط معهم، قال ابن كثير في تاريخه: (ثم دخلت سنة سبعمائة من الهجرة النبوية: استهلت والخليفة والسلطان ونواب البلاد والحكام بها هم المذكورون في التي قبلها... وفي مستهل صفر وردت أخبار بقصد التتر بلاد الشام، وأنهم عازمون على دخول مصر؛ فانزعج الناس لذلك وازدادوا ضعفا على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر والكرك والشوبك والحصون المنيعة؛ فبلغت الحمارة إلى مصر خمسمائة، وبيع الجمل بألف والحمار بخمسمائة، وبيعت الأمتعة والثياب والغلات بأرخص الأثمان، وجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية في ثاني صفر بمجلسه في الجامع وحرض الناس على القتال، وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم، وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا أنفق في سبيل الله كان خيرا، وأوجب جهاد التتر حتما في هذه الكرة، وتابع المجالس في ذلك، ونودي في البلاد لا يسافر أحد إلا بمرسوم وورقة، فتوقف الناس عن السير وسكن جأشهم، وتحدث الناس بخروج السلطان من القاهرة بالعساكر ودقت البشائر لخروجه، لكن كان قد خرج جماعة من بيوتات دمشق كبيت ابن صصرى وبيت ابن فضل الله وابن منجا وابن سويد وابن الزملكاني وابن جماعة.
وفي أول ربيع الآخر قوي الإرجاف بأمر التتر، وجاء الخبر بأنهم قد وصلوا إلى البيرة، ونودي في البلد أن تخرج العامة من العسكر، وجاء مرسوم النائب من المرج بذلك، فاستعرضوا في أثناء الشهر فعرض نحو خمسة آلاف من العامة بالعدة والأسلحة على قدر طاقتهم، وقنت الخطيب ابن جماعة في الصلوات كلها، واتبعه أئمة المساجد، وأشاع المرجفون بأن التتر قد وصلوا إلى حلب، وأن نائب حلب تقهقر إلى حماة، ونودي في البلد بتطييب قلوب الناس وإقبالهم على معايشهم، وأن السلطان والعساكر واصلة، وأبطل ديوان المستخرج، ولكن كانوا قد استخرجوا أكثر مما أمروا به، وبقيت بواقي على الناس الذين قد اختفوا فعفي عما بقي، ولم يرد ما سلف، لا جرم أن عواقب هذه الأفعال خسر ونكر، وأن أصحابها لا يفلحون، ثم جاءت الأخبار بأن سلطان مصر رجع عائدا إلى مصر بعد أن خرج منها قاصدا الشام، فكثر الخوف واشتد الحال، وكثرت الأمطار جدا، وصار بالطرقات من الأوحال والسيول ما يحول بين المرء وبين ما يريده من الانتشار في الأرض والذهاب فيها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وخرج كثير من الناس خفافا وثقالا يتحملون بأهليهم وأولادهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وجعلوا يحملون الصغار في الوحل الشديد والمشقة على الدواب والرقاب، وقد ضعفت الدواب من قلة العلف مع كثرة الأمطار والزلق والبرد الشديد والجوع وقلة الشيء فلا حول ولا قوة إلا بالله.
واستهل جمادى الأولى والناس على خطة صعبة من الخوف، وتأخر السلطان وقرب العدو، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مستهل هذا الشهر وكان يوم السبت إلى نائب الشام في المرج، فثبتهم وقوى جأشهم، وطيب قلوبهم، ووعدهم النصر والظفر على الأعداء، وتلا قوله تعالى: {ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور}، وبات عند العسكر ليلة الأحد ثم عاد إلى دمشق، وقد سأله النائب والأمراء أن يركب على البريد إلى مصر يستحث السلطان على المجيء، فساق وراء السلطان، وكان السلطان قد وصل إلى الساحل؛ فلم يدركه إلا وقد دخل القاهرة، وتفارط الحال، ولكنه استحثهم على تجهيز العساكر إلى الشام إن كان لهم به حاجة، وقال لهم فيما قال: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الامن، ولم يزل بهم حتى جردت العساكر إلى الشام، ثم قال لهم: لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم، وقوى جأشهم وضمن لهم النصر هذه الكرة، فخرجوا إلى الشام، فلما تواصلت العساكر إلى الشام فرح الناس فرحا شديدا بعد أن كانوا قد يئسوا من أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ثم قويت الأراجيف بوصول التتر، وتحقق عود السلطان إلى مصر، ونادى ابن النحاس متولي البلد في الناس من قدر على السفر فلا يقعد بدمشق، فتصايح النساء والولدان، ورهق الناس ذلة عظيمة وخمدة، وزلزلوا زلزالا شديدا، وغلقت الأسواق وتيقنوا أن لا ناصر لهم إلا الله عز وجل، وأن نائب الشام لما كان فيه قوة مع السلطان عام أول لم يقو على التقاء جيش التتر فكيف به الآن وقد عزم على الهرب؟ ويقولون: ما بقي أهل دمشق إلا طعمة العدو، ودخل كثير من الناس إلى البراري والقفار والمغر بأهاليهم من الكبار والصغار، ونودي في الناس من كانت نيته الجهاد فليلتحق بالجيش فقد اقترب وصول التتر، ولم يبق بدمشق من أكابرها إلا القليل، وسافر ابن جماعة والحريري وابن صصرى وابن منجا، وقد سبقهم بيوتهم إلى مصر، وجاءت الأخبار بوصول التتر إلى سرقين وخرج الشيخ زين الدين الفارقي والشيخ إبراهيم الرقي وابن قوام وشرف الدين بن تيمية وابن خبارة إلى نائب السلطنة الأفرم فقووا عزمه على ملاقاة العدو، واجتمعوا بمهنا -ابن عيسى- أمير العرب فحرضوه على قتال العدو، فأجابهم بالسمع والطاعة، وقويت نياتهم على ذلك، وخرج طلب سلار من دمشق إلى ناحية المرج، واستعدوا للحرب والقتال بنيات صادقة.
ورجع الشيخ تقي الدين بن تيمية من الديار المصرية في السابع والعشرين من جمادى الأولى على البريد، وأقام بقلعة مصر ثمانية أيام يحثهم على الجهاد والخروج إلى العدو، وقد اجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة فأجابوه إلى الخروج، وقد غلت الأسعار بدمشق جدا، حتى بيع خروفان بخمسمائة درهم، واشتد الحال، ثم جاءت الأخبار بأن ملك التتار قد خاض الفرات راجعا عامه ذلك لضعف جيشه وقلة عددهم؛ فطابت النفوس لذلك وسكن الناس، وعادوا إلى منازلهم منشرحين آمنين مستبشرين.
ولما جاءت الأخبار بعدم وصول التتار إلى الشام في جمادى الآخرة تراجعت أنفس الناس إليهم، وعاد نائب السلطنة إلى دمشق، وكان مخيما في المرج من مدة أربعه أشهر متتابعة، وهو من أعظم الرباط، وتراجع الناس إلى أوطانهم).[36]
وقد قص ابن تيمية نفسه خبر تلك الحادثة العظيمة، وربط بينها وبين ما جرى للنبي صلى الله وسلم وأصحابه يوم الأحزاب والخندق، وقاس الأحداث على الأحداث، والسنن على السنن، والأحكام على الأحكام، وذكر من الحكم والأسرار الشرعية والقدرية ما لم يسبق إلى مثله في تفسيره الوقائع تفسيرا غيبيا إيمانيا، واستشرافه المستقبل استشرافا قرآنيا، وتوقع أن يتحقق النصر على التتار، كما تحقق النصر للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، وهو ما تحقق فعلا بعد هذه الرسالة بسنتين، حيث يقول في رسالته إلى المسلمين بعد رجوعه من مصر، قال ابن عبد الهادي (وفي اليوم السابع والعشرين من شهر جمادى المذكور وصل الشيخ إلى دمشق على البريد، وكتب في هذه الحادثة كتابا وصورته: هذا صورة كتاب كتبه شيخ الإسلام علامة الزمان تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله ورضي عنه..).[37]
ونص كتابه مختصرا: (بسم الله الرحمن الرحيم،  إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على صفوته من خليقته، وخيرته من بريته: محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما، أما بعد فقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا}، والله تعالى يحقق لنا التمام بقوله: {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا}، فإن هذه الفتنة التي ابتلي بها المسلمون مع هذا العدو المفسد الخارج عن شريعة الإسلام قد جرى فيها شبيه بما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله في المغازي التي أنزل الله فيها كتابه، وابتلى بها نبيه والمؤمنين مما هو أسوة {لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} إلى يوم القيامة، فإن نصوص الكتاب والسنة اللذين هما دعوة محمد يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظي والمعنوي، أو بالعموم المعنوي، وعهود الله في كتابه وسنة رسوله تنال آخر هذه الأمة كما نالت أولها، وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين، كما قال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة وأجمل قصص الأنبياء ثم قال: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى} أي هذه القصص المذكورة في الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة كنحو ما يذكر في الحروب من السير المكذوبة، وقال تعالى لما ذكر قصة فرعون: {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى}، وقال في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع أعدائه ببدر وغيرها: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}، وقال تعالى في محاصرته لبنى النضير: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار}، فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمة وممن قبلها من الأمم، وذكر فى غير موضع أن سنته في ذلك سنة مطردة وعادته مستمرة، فقال تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}، وقال تعالى: {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}، وأخبر سبحانه أن دأب الكافرين من المستأخرين كدأب الكافرين من المستقدمين، فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم، لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيه عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبهم وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بورا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان، من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان، ورفع بها أقواما إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواما إلى المنازل الهاوية، وكفّر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى، فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيد، كما يتفرقون في اليوم الموعود، وفر الرجل فيها من أخيه وأمه وأبيه؛ إذ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه، وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه، لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرسه، كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال، وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع، وهم درجات عند الله في المنفعة والدفاع، ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى، إلا الإيمان والعمل الصالح والبر والتقوى، وبليت فيها السرائر، وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر، وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل، وذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيلا، كما حمد ربه من صدق في إيمانه فاتخذ مع الرسول سبيلا، وبان صدق ما جاءت به الآثار النبوية من الأخبار بما يكون، وواطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون، وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة، حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام، وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور، وآخر قد غره بالله الغرور، وكان هذا الامتحان تمييزا من الله وتقسيما {ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما}،ووجه الاعتبار في هذه الحادثة العظيمة: أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرع له الجهاد إباحة له أولا، ثم إيجابا له ثانيا، لما هاجر إلى المدينة وصار له فيها أنصار ينصرون الله ورسوله، فغزا بنفسه صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بدار الهجرة وهو نحو عشر سنين: بضعا وعشرين غزوة... وكانت غزوة بدر أول غزوة ظهر فيها المسلمون على صناديد الكفار، وقتل الله أشرافهم وأسر رءوسهم، مع قلة المسلمين وضعفهم ؛ فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ليس معهم إلا فرسان، وكان يعتقب الاثنان والثلاثة على البعير الواحد، وكان عدوهم بقدرهم أكثر من ثلاث مرات في قوة وعدة وهيئة وخيلاء، فلما كان من العام المقبل غزا الكفار المدينة وفيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نحو من ربع الكفار وتركوا عيالهم بالمدينة ثم نقلوهم إلي موضع آخر، وكانت أولا الكرة للمسلمين عليهم ثم صارت للكفار، فانهزم عامة عسكر المسلمين إلا نفرا قليلا حول النبي صلى الله عليه وسلم منهم من قتل ومنهم من جرح، وحرصوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم حتى كسروا رباعيته وشجوا جبينه وهشموا البيضة على رأسه، وأنزل الله فيها شطرا من سورة آل عمران من قوله: {وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال}، وقال فيها: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم}، وقال فيها: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين}، وقال فيها: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير}، وكان الشيطان قد نعق في الناس: أن محمدا قد قتل، فمنهم من تزلزل لذلك فهرب، ومنهم من ثبت فقاتل، فقال الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}، وكان هذا مثل حال المسلمين لما انكسروا في العام الماضي، وكانت هزيمة المسلمين في العام الماضي بذنوب ظاهرة وخطايا واضحة: من فساد النيات والفخر والخيلاء والظلم والفواحش والإعراض عن حكم الكتاب والسنة، وعن المحافظة على فرائض الله، والبغي على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة والروم، وكان عدوهم في أول الأمر راضيا منهم بالموادعة والمسالمة شارعا في الدخول في الإسلام، وكان مبتدئا في الإيمان والأمان، وكانوا هم قد أعرضوا عن كثير من أحكام الإيمان، فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين أن ابتلاهم بما ابتلاهم به ليمحص الله الذين آمنوا وينيبوا إلى ربهم، وليظهر من عدوهم ما ظهر منه من البغي والمكر والنكث والخروج عن شرائع الإسلام، فيقوم بهم ما يستوجبون به النصر وبعدوهم ما يستوجب به الانتقام، فقد كان في نفوس كثير من مقاتلة المسلمين ورعيتهم من الشر الكبير ما لو يقترن به ظفر بعدوهم -الذي هو على الحال المذكورة - لأوجب لهم ذلك من فساد الدين والدنيا ما لا يوصف، كما أن نصر الله للمسلمين يوم بدر كان رحمة ونعمة، وهزيمتهم يوم أحد كان نعمة ورحمة على المؤمنين ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء فشكر الله كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له"، فلما كانت حادثة المسلمين عام أول شبيهة بأحد، وكان بعد أحد بأكثر من سنة -وقيل بسنتين- قد ابتلي المسلمون عام الخندق، كذلك في هذا العام ابتلي المؤمنون بعدوهم كنحو ما ابتلي المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الخندق، وهي غزوة الأحزاب التي أنزل الله فيها "سورة الأحزاب" وهي سورة تضمنت ذكر هذه الغزاة التي نصر الله فيها عبده صلى الله عليه وسلم وأعز فيها جنده المؤمنين وهزم الأحزاب -الذين تحزبوا عليه- وحده بغير قتال؛ بل بثبات المؤمنين بإزاء عدوهم، وذكر فيها خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقوقه وحرمته وحرمة أهل بيته لما كان هو القلب الذي نصره الله فيها بغير قتال، كما كان ذلك في غزوتنا هذه سواء، وظهر فيها سر تأييد الدين كما ظهر في غزوة الخندق، وانقسم الناس فيها كانقسامهم عام الخندق، وذلك أن الله تعالى منذ بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأعزه بالهجرة والنصرة صار الناس ثلاثة أقسام: قسما مؤمنين وهم الذين آمنوا به ظاهرا وباطنا، وقسما كفارا وهم الذين أظهروا الكفر به، وقسما منافقين وهم الذين آمنوا ظاهرا لا باطنا... وكما أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم بعض المنافقين، ولا يعلم بعضهم كما بينه قوله: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم}، كذلك خلفاؤه بعده وورثته: قد يعلمون بعض المنافقين ولا يعلمون بعضهم، وفي المنتسبين إلى الإسلام من عامة الطوائف منافقون كثيرون، في الخاصة والعامة... وهؤلاء يكثرون في المتفلسفة: من المنجمين ونحوهم، ثم في الأطباء، ثم في الكتّاب أقل من ذلك، ويوجدون في المتصوفة، والمتفقهة، وفي المقاتلة، والأمراء، وفي العامة أيضا، ولكن يوجدون كثيرا في نحل أهل البدع؛ لا سيما الرافضة، ففيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس في أحد من أهل النحل، ولهذا كانت الخرمية والباطنية والقرامطة والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم من المنافقين الزنادقة: منتسبة إلى الرافضة، وهؤلاء المنافقون في هذه الأوقات لكثير منهم ميل إلى دولة هؤلاء التتار؛ لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام؛ بل يتركونهم وما هم عليه، وبعضهم إنما ينفرون عن التتار لفساد سيرتهم في الدنيا واستيلائهم على الأموال واجترائهم على الدماء والسبي؛ لا لأجل الدين، فهذا ضرب النفاق الأكبر، وأما النفاق الأصغر: فهو النفاق في الأعمال ونحوها: مثل أن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، ويخون إذا اؤتمن، أو يفجر إذا خاصم... ومن هذا الباب: الإعراض عن الجهاد، فإنه من خصال المنافقين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق" رواه مسلم..).[38]
وقال أيضا: (وفي هذه الحادثة تحزب هذا العدو من مغول وغيرهم من أنواع الترك، ومن فرس، ومستعربة، ونحوهم من أجناس المرتدة، ومن نصارى الأرمن وغيرهم، ونزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين، وهو بين الإقدام والإحجام، مع قلة من بإزائهم من المسلمين، ومقصودهم الاستيلاء على الدار واصطلام أهلها، كما نزل أولئك بنواحي المدينة بإزاء المسلمين، ودام الحصار على المسلمين عام الخندق -على ما قيل- بضعا وعشرين ليلة، وقيل: عشرين ليلة، وهذا العدو عبر الفرات سابع عشر ربيع الآخر، وكان أول انصرافه راجعا عن حلب لما رجع مقدمهم الكبير قازان بمن معه: يوم الاثنين حادي أو ثاني عشر جمادى الأولى، يوم دخل العسكر عسكر المسلمين إلى مصر المحروسة، واجتمع بهم الداعي وخاطبهم في هذه القضية، وكان الله سبحانه وتعالى لما ألقى في قلوب المؤمنين ما ألقى من الاهتمام والعزم: ألقى الله في قلوب عدوهم الروع والانصراف، وكان عام الخندق برد شديد وريح شديدة منكرة بها صرف الله الأحزاب عن المدينة، كما قال تعالى: {فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها}.
وهكذا هذا العام أكثر الله فيه الثلج والمطر والبرد على خلاف أكثر العادات، حتى كره أكثر الناس ذلك، وكنا نقول لهم: لا تكرهوا ذلك؛ فإن لله فيه حكمة ورحمة، وكان ذلك من أعظم الأسباب التي صرف الله به العدو؛ فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد حتى هلك من خيلهم ما شاء الله، وهلك أيضا منهم من شاء الله، وظهر فيهم وفي بقية خيلهم من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال، حتى بلغني عن بعض كبار المقدمين في أرض الشام أنه قال: لا بيض الله وجوهنا: أعدونا في الثلج إلى شعره ونحن قعود لا نأخذهم؟ وحتى علموا أنهم كانوا صيدا للمسلمين لو يصطادونهم؛ لكن في تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة، وقال الله في شأن الأحزاب: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا}، {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}.
وهكذا هذا العام، جاء العدو من ناحيتي علو الشام، وهو شمال الفرات، وقبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغا عظيما، وبلغت القلوب الحناجر؛ لعظم البلاء؛ لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق، وظن الناس بالله الظنونا، هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام حتى يصطلموا أهل الشام، وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة، وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر، وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام، وهذا يظن إنهم يأخذونها ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها فلا يقف قدامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن ونحوها، وهذا - إذا أحسن ظنه - قال: إنهم يملكونها العام كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين، ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم كما خرج ذلك العام، وهذا ظن خيارهم، وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الآثار النبوية وأهل التحديث والمبشرات أماني كاذبة وخرافات لاغية، وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب ليس له عقل يتفهم، ولا لسان يتكلم، وهذا قد تعارضت عنده الأمارات، وتقابلت عنده الإرادات؛ لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب، ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء؛ بل إما أن يكون جاهلا بها وقد سمعها سماع العبر ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادئ الروية، فلذلك استولت الحيرة على من كان متسما بالاهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء، {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}، ابتلاهم الله بهذا الابتلاء الذي يكفر به خطيئاتهم، ويرفع به درجاتهم، وزلزلوا بما يحصل لهم من الرجفات، ما استوجبوا به أعلى الدرجات، قال الله تعالى: {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا}.
وهكذا قالوا في هذه الفتنة فيما وعدهم أهل الوراثة النبوية، والخلافة الرسالية، وحزب الله المحدثون عنه، حتى حصل لهؤلاء التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}، فأما المنافقون فقد مضى التنبيه عليهم، وأما الذين في قلوبهم مرض فقد تكرر ذكرهم في هذه السورة، فذكروا هنا وفي قوله: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة}، وفي قوله: {فيطمع الذي في قلبه مرض}،  وذكر الله مرض القلب في مواضع: فقال تعالى: {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم}، والمرض في القلب كالمرض في الجسد، فكما أن هذا هو إحالة عن الصحة والاعتدال من غير موت، فكذلك قد يكون في القلب مرض يحيله عن الصحة والاعتدال من غير أن يموت القلب، سواء أفسد إحساس القلب وإدراكه، أو أفسد عمله وحركته، وذلك -كما فسروه-: هو من ضعف الإيمان؛ إما بضعف علم القلب واعتقاده، وإما بضعف عمله وحركته، فيدخل فيه من ضعف تصديقه ومن غلب عليه الجبن والفزع... ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه، كما ذكروا أن رجلا شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال: "لو صححت لم تخف أحدا"، أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك، ولهذا أوجب الله على عباده أن لا يخافوا حزب الشيطان؛ بل لا يخافون غيره تعالى فقال: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}، أي يخوفكم أولياءه، وقال لعموم بني إسرائيل تنبيها لنا: {وإياي فارهبون}، وقال: {فلا تخشوا الناس واخشون}، وقال: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني}، وقال تعالى: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون}، وقال: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله}، وقال: {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله}، وقال: {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه}، فدلت هذه الآية - وهي قوله تعالى {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض} - على أن المرض والنفاق في القلب يوجب الريب في الأنباء الصادقة التي توجب أمن الإنسان: من الخوف حتى يظنوا أنها كانت غرورا لهم، كما وقع في حادثتنا هذه سواء، ثم قال تعالى: {وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا}، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عسكر بالمسلمين عند سلع وجعل الخندق بينه وبين العدو، فقالت طائفة منهم: لا مقام لكم هنا ؛ لكثرة العدو، فارجعوا إلى المدينة، وقيل: لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين الشرك . وقيل: لا مقام لكم على القتال، فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة بهم.
وهكذا لما قدم هذا العدو كان من المنافقين من قال: ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم؛ فينبغي الدخول في دولة التتار. وقال بعض الخاصة: ما بقيت أرض الشام تسكن؛ بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن وإما إلى مصر. وقال بعضهم: بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء كما استسلم لهم أهل العراق والدخول تحت حكمهم . فهذه المقالات الثلاث قد قيلت في هذه النازلة، كما قيلت في تلك.
وهكذا قال طائفة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض لأهل دمشق خاصة والشام عامة: لا مقام لكم بهذه الأرض. ونفي المقام بها أبلغ من نفي المقام. وإن كانت قد قرئت بالضم أيضا. 
فإن من لم يقدر أن يقوم بالمكان فكيف يقيم به؟ قال الله تعالى: {ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا}. وكان قوم من هؤلاء المذمومين يقولون -والناس مع النبي صلى الله عليه وسلم عند سلع داخل الخندق والنساء والصبيان في آطام المدينة-: يا رسول الله إن بيوتنا عورة. أي مكشوفة ليس بينها وبين العدو حائل. -وأصل العورة: الخالي الذي يحتاج إلى حفظ وستر. يقال: اعور مجلسك إذا ذهب ستره أو سقط جداره. ومنه عورة العدو-. وقال مجاهد والحسن: أي ضائعة تخشى عليها السراق. وقال قتادة: قالوا: بيوتنا مما يلي العدو فلا نأمن على أهلنا فأذن لنا أن نذهب إليها لحفظ النساء والصبيان. قال الله تعالى: {وما هي بعورة} لأن الله يحفظها، {إن يريدون إلا فرارا}، فهم يقصدون الفرار من الجهاد ويحتجون بحجة العائلة.
وهكذا أصاب كثيرا من الناس في هذه الغزاة، صاروا يفرون من الثغر إلى المعاقل والحصون وإلى الأماكن البعيدة كمصر، ويقولون: ما مقصودنا إلا حفظ العيال، وما يمكن إرسالهم مع غيرنا، وهم يكذبون في ذلك. فقد كان يمكنهم جعلهم في حصن دمشق لو دنا العدو، كما فعل المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يمكنهم إرسالهم والمقام للجهاد،فكيف بمن فر بعد إرسال عياله؟ قال الله تعالى: {ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا}، فأخبر أنه لو دخلت عليهم المدينة من جوانبها ثم طلبت منهم الفتنة - وهي الافتتان عن الدين بالكفر أو النفاق- لأعطوا الفتنة . ولجاءوها من غير توقف، وهذه حال أقوام لو دخل عليهم هذا العدو المنافق المجرم، ثم طلب منهم موافقته على ما هو عليه من الخروج عن شريعة الإسلام -وتلك فتنة عظيمة- لكانوا معه على ذلك، كما ساعدهم في العام الماضي أقوام بأنواع من الفتنة في الدين والدنيا ما بين ترك واجبات، وفعل محرمات، إما في حق الله وإما في حق العباد، كترك الصلاة، وشرب الخمور، وسب السلف، وسب جنود المسلمين، والتجسس لهم على المسلمين، ودلالتهم على أموال المسلمين وحريمهم، وأخذ أموال الناس وتعذيبهم وتقوية دولتهم الملعونة، وإرجاف قلوب المسلمين منهم إلى غير ذلك من أنواع الفتنة، ثم قال تعالى: {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا}، وهذه حال أقوام عاهدوا ثم نكثوا قديما وحديثا في هذه الغزوة، فإن في العام الماضي وفي هذا العام: في أول الأمر كان من أصناف الناس من عاهد على أن يقاتل ولا يفر، ثم فر منهزما لما اشتد الأمر، ثم قال الله تعالى: {قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا} فأخبر الله أن الفرار لا ينفع لا من الموت ولا من القتل...[39]
ثم قال تعالى: {قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا}، قال العلماء: كان من المنافقين من يرجع من الخندق فيدخل المدينة فإذا جاءهم أحد قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرج. ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين بالعسكر: أن ائتونا بالمدينة فإنا ننتظركم. يثبطونهم عن القتال. وكانوا لا يأتون العسكر إلا ألا يجدوا بدا. فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم. فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة. فانصرف بعضهم من عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ فوجد أخاه لأبيه وأمه وعنده شواء ونبيذ. فقال: أنت ههنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف؟ فقال: هلم إلي فقد أحيط بك وبصاحبك.
فوصف المثبطين عن الجهاد -وهم صنفان- بأنهم إما أن يكونوا في بلد الغزاة أو في غيره، فإن كانوا فيه عوقوهم عن الجهاد بالقول أو بالعمل أو بهما . وإن كانوا في غيره راسلوهم أو كاتبوهم: بأن يخرجوا إليهم من بلد الغزاة ليكونوا معهم بالحصون أو بالبعد.
كما جرى في هذه الغزاة. فإن أقواما في العسكر والمدينة وغيرهما صاروا يعوقون من أراد الغزو، وأقواما بعثوا من المعاقل والحصون وغيرها إلى إخوانهم: هلم إلينا، قال الله تعالى فيهم: {ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم}، أي بخلاء عليكم بالقتال معكم والنفقة في سبيل الله. وقال مجاهد: بخلاء عليكم بالخير والظفر والغنيمة، وهذه حال من بخل على المؤمنين بنفسه وماله أو شح عليهم بفضل الله: من نصره ورزقه الذي يجريه بفعل غيره، فإن أقواما يشحون بمعروفهم وأقواما يشحون بمعروف الله وفضله، وهم الحساد. ثم قال تعالى: {فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت} من شدة الرعب الذي في قلوبهم يشبهون المغمى عليه وقت النزع. فإنه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره ولا يطرف. فكذلك هؤلاء؛ لأنهم يخافون القتل. {فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد}... وهو رفع الصوت بالكلام المؤذي...وهذا السلق بالألسنة الحادة يكون بوجوه: تارة يقول المنافقون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم ؛ فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين وقاتلتم عليه وخالفتموهم ؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة . وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت، وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا. وتارة يقولون -أنتم مع قلتكم وضعفكم- تريدون أن تكسروا العدو وقد غركم دينكم! كما قال تعالى: {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم}، وتارة يقولون: أنتم مجانين لا عقل لكم تريدون أن تهلكوا أنفسكم والناس معكم، وتارة يقولون: أنواعا من الكلام المؤذي الشديد. وهم مع ذلك أشحة على الخير، أي حراص على الغنيمة والمال الذي قد حصل لكم...
ثم قال تعالى: {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا}.
فوصفهم بثلاثة أوصاف: أحدها: أنهم لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد . وهذه حال الجبان الذي في قلبه مرض. فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف وتكذيب خبر الأمن.
الوصف الثاني: أن الأحزاب إذا جاءوا تمنوا أن لا يكونوا بينكم؛ بل يكونون في البادية بين الأعراب يسألون عن أنبائكم: إيش خبر المدينة؟ وإيش جرى للناس؟
والوصف الثالث: أن الأحزاب إذا أتوا وهم فيكم لم يقاتلوا إلا قليلا.
وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس في هذه الغزوة، كما يعرفونه من أنفسهم، ويعرفه منهم من خبرهم . ثم قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}. فأخبر سبحانه أن الذين يبتلون بالعدو، كما ابتلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهم فيه أسوة حسنة حيث أصابهم مثل ما أصابه. فليتأسوا به في التوكل والصبر، ولا يظنون أن هذه نقم لصاحبها وإهانة له. فإنه لو كان كذلك ما ابتلي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الخلائق؛ بل بها ينال الدرجات العالية وبها يكفر الله الخطايا لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا، وإلا فقد يبتلى بذلك من ليس كذلك فيكون في حقه عذابا. كالكفار والمنافقين. ثم قال تعالى: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما}. قال العلماء: كان الله قد أنزل في سورة البقرة: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} فبين الله سبحانه -منكرا على من حسب خلاف ذلك- أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد أن يبتلوا مثل هذه الأمم قبلهم بـ"البأساء"، وهي الحاجة والفاقة . و"الضراء" وهي الوجع والمرض. و"الزلزال" وهي زلزلة العدو. فلما جاء الأحزاب عام الخندق فرأوهم. قالوا: {هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله}، وعلموا أن الله قد ابتلاهم بالزلزال. وأتاهم مثل الذين خلوا من قبلهم وما زادهم إلا إيمانا وتسليما لحكم الله وأمره. وهذه حال أقوام في هذه الغزوة: قالوا ذلك. وكذلك قوله: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه}، أي عهده الذي عاهد الله عليه، فقاتل حتى قتل أو عاش ... ثم لما كان عهدهم هو نذرهم الصدق في اللقاء -ومن صدق في اللقاء فقد يقتل- صار يفهم من قوله: {قضى نحبه} أنه استشهد، لا سيما إذا كان النحب: نذر الصدق في جميع المواطن؛ فإنه لا يقضيه إلا بالموت. وقضاء النحب هو الوفاء بالعهد. كما قال تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه} أي أكمل الوفاء. وذلك لمن كان عهده مطلقا: بالموت أو القتل. {ومنهم من ينتظر} قضاءه إذا كان قد وفى البعض فهو ينتظر تمام العهد. وأصل القضاء: الإتمام والإكمال. {ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما}. بين الله سبحانه أنه أتى بالأحزاب ليجزي الصادقين بصدقهم حيث صدقوا في إيمانهم كما قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}. فحصر الإيمان في المؤمنين المجاهدين وأخبر أنهم هم الصادقون في قولهم: آمنا؛ لا من قال كما قالت الأعراب: آمنا والإيمان لم يدخل في قلوبهم؛ بل انقادوا واستسلموا. وأما المنافقون فهم بين أمرين: إما أن يعذبهم وإما أن يتوب عليهم. فهذا حال الناس في الخندق وفي هذه الغزاة. وأيضا فإن الله تعالى ابتلى الناس بهذه الفتنة؛ ليجزي الصادقين بصدقهم وهم الثابتون الصابرون لينصروا الله ورسوله ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم. ونحن نرجو من الله أن يتوب على خلق كثير من هؤلاء المذمومين؛ فإن منهم من ندم. والله سبحانه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. وقد فتح الله للتوبة بابا من قبل المغرب عرضه أربعون سنة. لا يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها.
وقد ذكر أهل المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الخندق: {الآن نغزوهم ولا يغزونا}، فما غزت قريش ولا غطفان ولا اليهود المسلمين بعدها؛ بل غزاهم المسلمون: ففتحوا خيبر ثم فتحوا مكة. كذلك -إن شاء الله- هؤلاء الأحزاب من المغول وأصناف الترك ومن الفرس والمستعربة والنصارى ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام: الآن نغزوهم ولا يغزونا . ويتوب الله على من يشاء من المسلمين الذين خالط قلوبهم مرض أو نفاق بأن ينيبوا إلى ربهم ويحسن ظنهم بالإسلام وتقوى عزيمتهم على جهاد عدوهم. فقد أراهم الله من الآيات ما فيه عبرة لأولي الأبصار كما قال: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا}.
فإن الله صرف الأحزاب عام الخندق بما أرسل عليهم من ريح الصبا: ريح شديدة باردة. وبما فرق به بين قلوبهم حتى شتت شملهم ولم ينالوا خيرا. إذ كان همهم فتح المدينة والاستيلاء عليها وعلى الرسول والصحابة، كما كان هم هذا العدو فتح الشام والاستيلاء على من بها من المسلمين، فردهم الله بغيظهم حيث أصابهم من الثلج العظيم والبرد الشديد والريح العاصف والجوع المزعج ما الله به عليم. وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التي وقعت في هذا العام، حتى طلبوا الاستصحاء غير مرة. وكنا نقول لهم: هذا فيه خيرة عظيمة. وفيه لله حكمة وسر فلا تكرهوه. فكان من حكمته: أنه فيما قيل: أصاب قازان وجنوده حتى أهلكهم وهو كان فيما قيل: سبب رحيلهم. وابتلي به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله وحكمه ممن يفر عن طاعته وجهاد عدوه. وكان مبدأ رحيل قازان فيمن معه من أرض الشام وأراضي حلب: يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى يوم دخلت مصر عقيب العسكر واجتمعت بالسلطان وأمراء المسلمين وألقى الله في قلوبهم من الاهتمام بالجهاد ما ألقاه. فلما ثبت الله قلوب المسلمين صرف العدو جزاء منه وبيانا أن النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر الله بها، وإن لم يقع الفعل وإن تباعدت الديار.
وذكر أن الله فرق بين قلوب هؤلاء المغول والكرج وألقى بينهم تباغضا وتعاديا، كما ألقى سبحانه عام الأحزاب بين قريش وغطفان وبين اليهود. كما ذكر ذلك أهل المغازي. فإنه لم يتسع هذا المكان لأن نصف فيه قصة الخندق. بل من طالعها علم صحة ذلك كما ذكره أهل المغازي. مثل عروة بن الزبير والزهري وموسى بن عقبة وسعيد بن يحيى الأموي ومحمد بن عائذ ومحمد بن إسحاق والواقدي وغيرهم. ثم تبقى بالشام منهم بقايا سار إليهم من عسكر دمشق أكثرهم مضافا إلى عسكر حماة وحلب وما هنالك. وثبت المسلمون بإزائهم. وكانوا أكثر من المسلمين بكثير؛ لكن في ضعف شديد، وتقربوا إلى حماة وأذلهم الله تعالى فلم يقدموا على المسلمين قط. وصار من المسلمين من يريد الإقدام عليهم فلم يوافقه غيره، فجرت مناوشات صغار كما جرى في غزوة الخندق حيث قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها عمرو بن عبد ود العامري لما اقتحم الخندق هو ونفر قليل من المشركين. كذلك صار يتقرب بعض العدو؛ فيكسرهم المسلمون مع كون العدو المتقرب أضعاف من قد سرى إليه من المسلمين. وما من مرة إلا وقد كان المسلمون مستظهرين عليهم. وساق المسلمون خلفهم في آخر النوبات فلم يدركوهم إلا عند عبور الفرات. وبعضهم في جزيرة فيها. فرأوا أوائل المسلمين فهربوا منهم وخالطوهم؛ وأصاب المسلمون بعضهم. وقيل: إنه غرق بعضهم. وكان عبورهم وخلو الشام منهم في أوائل رجب بعد أن جرى -ما بين عبور قازان أولا وهذا العبور- رجفات ووقعات صغار وعزمنا على الذهاب إلى حماة غير مرة لأجل الغزاة ؛ لما بلغنا أن المسلمين يريدون غزو الذين بقوا. وثبت بإزائهم المقدم الذي بحماة ومن معهم من العسكر ومن أتاه من دمشق وعزموا على لقائهم ونالوا أجرا عظيما. وقد قيل: إنهم كانوا عدة كمانات؛ إما ثلاثة أو أربعة. فكان من المقدر: أنه إذا عزم الأمر وصدق المؤمنون الله يلقي في قلوب عدوهم الرعب فيهربون لكن أصابوا من البليدات بالشمال مثل "تيزين" و"الفوعة" و"معرة مصرين" وغيرها ما لم يكونوا وطئوه في العام الماضي. وقيل: إن كثيرا من تلك البلاد كان فيهم ميل إليهم؛ بسبب الرفض وأن عند بعضهم فرامين منهم؛ لكن هؤلاء ظلمة ومن أعان ظالما بلي به. والله تعالى يقول: {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون}. وقد ظاهروهم على المسلمين: الذين كفروا من أهل الكتاب من أهل "سيس" والإفرنج. فنحن نرجو من الله أن ينزلهم من صياصيهم وهي الحصون -ويقال للقرون: الصياصي- ويقذف في قلوبهم الرعب. وقد فتح الله تلك البلاد. ونغزوهم إن شاء الله تعالى فنفتح أرض العراق وغيرها وتعلو كلمة الله ويظهر دينه.
فإن هذه الحادثة كان فيها أمور عظيمة جازت حد القياس. وخرجت عن سنن العادة. وظهر لكل ذي عقل من تأييد الله لهذا الدين وعنايته بهذه الأمة وحفظه للأرض التي بارك فيها للعالمين - بعد أن كاد الإسلام أن ينثلم، وكر العدو كرة فلم يلو عن، وخذل الناصرون فلم يلووا على، وتحير السائرون فلم يدروا من ولا إلى، وانقطعت الأسباب الظاهرة، وأهطعت الأحزاب القاهرة، وانصرفت الفئة الناصرة، وتخاذلت القلوب المتناصرة، وثبتت الفئة الناصرة، وأيقنت بالنصر القلوب الطاهرة، واستنجزت من الله وعده العصابة المنصورة الظاهرة، ففتح الله أبواب سمواته لجنوده القاهرة، وأظهر على الحق آياته الباهرة، وأقام عمود الكتاب بعد ميله، وثبت لواء الدين بقوته وحوله، وأرغم معاطس أهل الكفر والنفاق، وجعل ذلك آية للمؤمنين إلى يوم التلاق، فالله يتم هذه النعمة بجمع قلوب أهل الإيمان على جهاد أهل الطغيان، ويجعل هذه المنة الجسيمة مبدأ لكل منحة كريمة لإقامة الدعوة النبوية القويمة، ويشفي صدور المؤمنين من أعاديهم، ويمكنهم من دانيهم وقاصيهم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
قال الشيخ رحمه الله كتبت أول هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده لما رجعت من مصر في جمادى الآخرة، وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد، ثم لما بقيت تلك الطائفة اشتغلنا بالاهتمام بجهادهم، وقصد الذهاب إلى إخواننا بحماة وتحريض الأمراء على ذلك، حتى جاءنا الخبر بانصراف المتبقين منهم، فكتبته في رجب والله أعلم. والحمد لله وحده. وصلى الله على أشرف الخلق محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين).[40]

معركة عرض وشقحب وهزيمة التتار سنة 702 هـ:
وقد أقبل فيها غازان بجيوشه عازما على إعادة سلطانه على الشام، والتوجه إلى مصر لضمها إلى مملكته؛ فكان فيها نهايته وحتفه، كما قال المؤرخ الصفدي: (ولم يصدع حصاة قلبه، ولا فل عرش قواه مثل نوبة شقحب، فإنها أماتته بغبنه غبناً، وكانت بغير رأيه، لأنه جهز قطلوشا بالعساكر ليغير بهم على حلب والأطراف، وأمره ألا يتعدى حمص، فلما جاء إلى البلاد وجد عساكرها قد تقهقرت قدامه، والبلاد خالية، وليس للجيوش ولا للسلطان في الشام خبر، فظن أن كسرتهم نوبة حمص ما بقي لها خبر، فجاء إلى دمشق، ومر على ظاهرها وجره الطمع إلى مصر، لعله يملك لغازان مملكة الإسلام، فأنجز الله وعده، ونصر حزبه، ولما رجع قطلوشا شتمه وضربه وأوقفه يومًا في الشمس وحملها غازان على نفسه، فلم تتطاول به الأيام حتى مات، والذي أعتقده أنه من حين ظهر جنكيزخان ما جرى للمغول بعد واقعة عين جالوت ولا إلى يومنا مثل واقعة شقحب، كادت تأتي على نوعهم فناء؛ فإن الموت أهل بهم ورحب، وما نجا منهم إلا من حصنه الأجل، أو اختار الأسر لما وجد من الوجل، ولم يزل غازان على حاله إلى أن توفي في ثاني عشر شوال سنة ثلاث وسبع مئة، ببلاد قزوين).[41]
وقد كان ابن تيمية هو قطب الرحى في هذه المعركة، عليه اجتمع الأمراء؛ فخطبهم، وثبتهم، وبشرهم بنصر الله وأقسم لهم، واستنفر الأمة معهم، واقتحم أهوالها، وبز أبطالها، كما قال ابن عبد الهادي: (قلت وفي أول شهر رمضان من سنة اثنتين وسبعمائة كانت وقعة شقحب المشهورة، وحصل للناس شدة عظيمة، وظهر فيها من كرامات الشيخ، وإجابة دعائه، وعظيم جهاده، وقوة إيمانه، وشدة نصحه للإسلام، وفرط شجاعته، ونهاية كرمه، وغير ذلك من صفاته، ما يفوق النعت، ويتجاوز الوصف، ولقد قرأت بخط بعض أصحابه وقد ذكر هذه الواقعة وكثرة من حضرها من جيوش المسلمين قال: واتفقت كلمة إجماعهم على تعظيم الشيخ تقي الدين ومحبته، وسماع كلامه ونصيحته، واتعظوا بمواعظه، وسأله بعضهم مسائل في أمر الدين، ولم يبق من ملوك الشام تركي ولا عربي إلا واجتمع بالشيخ في تلك المدة، واعتقد خيره وصلاحه ونصحه لله ولرسوله وللمؤمنين، ثم ساق الله سبحانه جيش الإسلام العرمرم المصري صحبة أمير المؤمنين، والسلطان الملك الناصر، وولاة الأمر، وزعماء الجيش، وعظماء المملكة، والأمراء المصريين عن آخرهم، بجيوش الإسلام سوقا حثيثا للقاء التتار المخذولين،فاجتمع الشيخ المذكور بالخليفة والسلطان وأرباب الحل والعقد وأعيان الأمراء عن آخرهم، وكلهم بمرج الصفر قبلي دمشق المحروسة، وبينهم وبين التتار أقل من مقدار ثلاث ساعات مسافة، ودار بين الشيخ المذكور وبينهم ما دار بين الشاميين وبينه، وكان بينهم ومعهم كأحد أعيانهم، واتفق له من اجتماعهم ما لم يتفق لأحد قبله من أبناء جنسه، حيث اجتمعوا بجملتهم في مكان واحد، في يوم واحد، على أمر جامع لهم وله مهم عظيم يحتاجون فيه إلى سماع كلامه، هذا توفيق عظيم كان من الله تعالى له لم يتفق لمثله، وبقي الشيخ المذكور رضي الله عنه هو وأخوه وأصحابه ومن معه من الغزاة قائما بظهوره وجهاده ولأمة حربه، يوصي الناس بالثبات، ويعدهم بالنصر، ويبشرهم بالغنيمة، والفوز بإحدى الحسنيين، إلى أن صدق الله وعده، وأعز جنده، وهزم التتار وحده، ونصر المؤمنين، وهزم الجمع، وولوا الدبر، وكانت كلمة الله هي العليا، وكلمة الكفار هي السفلى، وقطع دابر القوم الكفار والحمد لله رب العالمين، ودخل جيش الإسلام المنصور إلى دمشق المحروسة، والشيخ في أصحابه شاكيا في سلاحه، داخلا معهم، عالية كلمته، قائمة حجته، ظاهرة ولايته، مقبولة شفاعته، مجابة دعوته، ملتمسة بركته، مكرما معظما، ذا سلطان وكلمة نافذة، وهو مع ذلك يقول للمداحين له أنا رجل ملة لا رجل دولة، ولقد أخبرني حاجب من الحجاب الشاميين أمير من أمرائهم ذو دين متين وصدق لهجة معروف في الدولة قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء ونحن بمرج الصفر، وقد تراءى الجمعان: يا فلان أوقفني موقف الموت، قال: فسقته إلى مقابلة العدو، وهم منحدرون كالسيل، تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم، ثم قلت له: يا سيدي هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة فدونك وما تريد، قال: فرفع طرفه إلى السماء، وأشخص بصره، وحرك شفتيه طويلا، ثم انبعث وأقدم على القتال، وأما أنا فخيل إلي أنه دعا عليهم، وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة، قال: ثم حال القتال بيننا والالتحام، وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر، وانحاز التتار إلى جبل صغير عصموا نفوسهم به من سيوف المسلمين تلك الساعة، وكان آخر النهار، قال: وإذا أنا بالشيخ وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما تحريضا على القتال، وتخويفا للناس من الفرار، فقلت: يا سيدي لك البشارة بالنصر، فإنه قد فتح الله ونصر، وها هم التتار محصورون بهذا السفح، وفي غد إن شاء الله تعالى يؤخذون عن آخرهم، قال: فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ودعا لي في ذلك الموطن دعاء وجدت بركته في ذلك الوقت وبعده، هذا كلام الأمير الحاجب).[42]
وقد كان الناس اضطربوا في حكم قتال غازان، قال ابن كثير: (وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو، فإنهم يظهرون الاسلام وليسوا بغاة على الإمام؛ فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه؟
فقال الشيخ تقي الدين: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك، وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد).[43]
وقد قص ابن كثير -وهو مؤرخ الشام بل الإسلام- خبر معركة شقحب التي بلي فيها ابن تيمية بلاء عظيما، وتولى التعبئة المعنوية فيها وقيادة الجيوش روحيا، حتى أعاد الثقة لهم بأنفسهم وبربهم، فقال: (وفي يوم السبت عاشر شعبان ضربت البشائر بالقلعة وعلى أبواب الأمراء بخروج السلطان بالعساكر من مصر لمناجزة التتار المخذولين.
وفي هذا اليوم بعينه كانت وقعة عرض: وذلك أنه التقى جماعة من أمراء الإسلام فيهم استدمر وبهادر أخي وكجكن وغرلو العادلي، وكل منهم سيف من سيوف الدين في ألف وخمسمائة فارس، وكان التتار في سبعة آلاف، فاقتتلوا وصبر المسلمون صبرا جيدا، فنصرهم الله وخذل التتر، فقتلوا منهم خلقا وأسروا آخرين، وولوا عند ذلك مدبرين، وغنم المسلمون منهم غنائم، وعادوا سالمين لم يفقد منهم إلا القليل ممن أكرمه الله بالشهادة، ووقعت البطاقة بذلك، ثم قدمت الأسارى يوم الخميس نصف شعبان، وكان يوم خميس النصارى.
أوائل وقعة شقحب: وفي ثامن عشر قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين فيهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري، والأمير سيف الدين كراي المنصوري، ثم قدمت بعضهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير سلاح وأيبك الخزندار؛ فقويت القلوب واطمأن كثير من الناس، ولكن الناس في حفل عظيم من بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي وتقهقر الجيش الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهمهم التتر فجاؤوا فنزلوا المرج يوم الأحد خامس شعبان، ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فسادا، وقلق الناس قلقا عظيما، وخافوا خوفا شديدا، واختبط البلد لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وقال الناس لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لكثرتهم، وإنما سبيلهم أن يتأخروا عنهم مرحلة مرحلة، وتحدث الناس بالأراجيف، فاجتمع الأمراء يوم الأحد المذكور بالميدان وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد أن لا يرحل أحد منه، فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال، وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم في القطيعة فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يحلف للأمراء والناس إنكم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.
وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى: {ومن بغى عليه لينصرنه الله}.
وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو، فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الامام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه.
فقال الشيخ تقي الدين: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك، وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف؛ فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد.
ولما كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكر الشامية فخيمت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاة، فصار الناس فيهم فريقين فريق يقولون إنما ساروا ليختاروا موضعا للقتال فإن المرج فيه مياه كثيرة فلا يستطيعون معها القتال، وقال فريق: إنما ساروا لتلك الجهة ليهربوا وليلحقوا بالسلطان.
فلما كانت ليلة الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة؛ فقويت ظنون الناس في هربهم، وقد وصلت التتار إلى قارة، وقيل إنهم وصلوا إلى القطيعة، فانزعج الناس لذلك شديدا، ولم يبق حول القرى والحواضر أحد، وامتلأت القلعة والبلد وازدحمت المنازل والطرقات، واضطرب الناس، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية صبيحة يوم الخميس من الشهر المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة، وصحبته جماعة ليشهد القتال بنفسه ومن معه، فظنوا إنما خرج هاربا فحصل اللوم من بعض الناس؛ وقالوا: أنت منعتنا من الجفل وها أنت هارب من البلد؟ فلم يرد عليهم وبقي البلد ليس فيه حاكم، وجلس اللصوص والحرافيش فيه وفي بساتين الناس يخربون وينتهبون ما قدروا عليه، ويقطعون المشمش قبل أوانه والباقلاء والقمح وسائر الخضراوات، وحيل بين الناس وبين خبر الجيش، وانقطعت الطرق إلى الكسوة وظهرت الوحشة على البلد والحواضر، وليس للناس شغل غير الصعود إلى المآذن ينظرون يمينا وشمالا، وإلى ناحية الكسوة فتارة يقولون: رأينا غبرة فيخافون أن تكون من التتر، ويتعجبون من الجيش مع كثرتهم وجودة عدتهم وعددهم، أين ذهبوا؟ فلا يدرون ما فعل الله بهم، فانقطعت الآمال، وألح الناس في الدعاء والابتهال، وفي الصلوات وفي كل حال، وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان، وكان الناس في خوف ورعب لا يعبر عنه، لكن كان الفرج من ذلك قريبا، ولكن أكثرهم لا يفلحون، كما جاء في حديث أبي رزين: "عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين؛ فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب"!
فلما كان آخر هذا اليوم وصل الأمير فخر الدين إياس المرقبي أحد أمراء دمشق، فبشر الناس بخبر: هو أن السلطان قد وصل وقت اجتمعت العساكر المصرية والشامية، وقد أرسلني أكشف هل طرق البلد أحد من التتر، فوجد الأمر كما يحب لم يطرقها أحد منهم، وذلك أن التتار عرجوا من دمشق إلى ناحية العساكر المصرية، ولم يشتغلوا بالبلد، وقد قالوا إن غَلبنا فإن البلد لنا، وإن غُلبنا فلا حاجة لنا به، ونودي بالبلد في تطييب الخواطر، وأن السلطان قد وصل، فاطمأن الناس وسكنت قلوبهم، وأثبت الشهر ليلة الجمعة القاضي تقي الدين الحنبلي، فإن السماء كانت مغيمة فعلقت القناديل، وصليت التراويح واستبشر الناس بشهر رمضان وبركته، وأصبح الناس يوم الجمعة في هم شديد وخوف أكيد، لأنهم لا يعلمون ما خبر الناس.
فبينما هم كذلك إذ جاء الأمير سيف الدين غرلو العادلي؛ فاجتمع بنائب القلعة ثم عاد سريعا إلى العسكر، ولم يدر أحد ما أخبر به، ووقع الناس في الأراجيف والخوض.
صفة وقعة شقحب: أصبح الناس يوم السبت على ما كانوا عليه من الخوف وضيق الأمر، فرأوا من المآذن سوادا وغبرة من ناحية العسكر والعدو، فغلب على الظنون أن الوقعة في هذا اليوم، فابتهلوا إلى الله عز وجل بالدعاء في المساجد والبلد، وطلع النساء والصغار على الأسطحة وكشفوا رؤوسهم وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك الوقت مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس، فلما كان بعد الظهر قرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش الشامية والمصرية مع السلطان في مرج الصفر، وفيها طلب الدعاء من الناس والأمر بحفظ القلعة، والتحرز على الأسوار فدعا الناس في المآذن والبلد، وانقضى النهار وكان يوما مزعجا هائلا، وأصبح الناس يوم الأحد يتحدثون بكسر التتر، وخرج الناس إلى ناحية الكسوة فرجعوا ومعهم شيء من المكاسب، ومعهم رؤوس من رؤوس التتر، وصارت كسرة التتار تقوى وتتزايد قليلا قليلا حتى اتضحت جملة، ولكن الناس لما عندهم من شدة الخوف وكثرة التتر لا يصدقون، فلما كان بعد الظهر قرئ كتاب السلطان إلى متولي القلعة يخبر فيه باجتماع الجيش ظهر يوم السبت بشقحب وبالكسوة، ثم جاءت بطاقة بعد العصر من نائب السلطان جمال الدين آقوش الأفرم إلى نائب القلعة مضمونها أن الوقعة كانت من العصر يوم السبت إلى الساعة الثانية من يوم الأحد، وأن السيف كان يعمل في رقاب التتر ليلا ونهارا، وأنهم هربوا وفروا واعتصموا بالجبال والتلال، وأنه لم يسلم منهم إلا القليل، فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم وتباشروا لهذا الفتح العظيم والنصر المبارك، ودقت البشائر بالقلعة من أول النهار المذكور، ونودي بعد الظهر بإخراج الجفال من القلعة لأجل نزول السلطان بها، وشرعوا في الخروج، وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر، وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من الجهاد، ففرح الناس به ودعوا له وهنأوه بما يسر الله على يديه من الخير، وذلك أنه ندبه العسكر الشامي أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق فسار إليه فحثه على المجئ إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر، فجاء هو وإياه جميعا فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم، وحرض السلطان على القتال وبشره بالنصر، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الامراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.
وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضا، وكان يدور على الأجناد والأمراء؛ فيأكل من شيء معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل فيأكل الناس، وكان يتأول في الشاميين قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ملاقوا العدو غدا، والفطر أقوى لكم"، فعزم عليهم في الفطر عام الفتح، كما في حديث أبي سعيد الخدري.
وكان الخليفة أبو الربيع سليمان في صحبة السلطان، ولما اصطفت العساكر، والتحم القتال ثبت السلطان ثباتا عظيما، وأمر بجواده فقيد حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف، وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الامراء يومئذ،منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي أستاذ دار السلطان، وثمانية من الأمراء المتقدمين معه، وصلاح الدين بن الملك السعيد الكامل بن السعيد بن الصالح إسماعيل، وخلق من كبار الأمراء، ثم نزل النصر على المسلمين قريب العصر يومئذ، واستظهر المسلمون عليهم ولله الحمد والمنة.
فلما جاء الليل لجأ التتر إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل، وجعلوا يجيئون بهم في الحبال فتضرب أعناقهم، ثم اقتحم منهم جماعة الهزيمة فنجا منهم قليل، ثم كانوا يتساقطون في الأودية والمهالك، ثم بعد ذلك غرق منهم جماعة في الفرات بسبب الظلام، وكشف الله بذلك عن المسلمين غمة عظيمة شديدة، ولله الحمد والمنة.
ودخل السلطان إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رمضان وبين يديه الخليفة، وزينت البلد، وفرح كل واحد من أهل الجمعة والسبت والأحد، فنزل السلطان في القصر الأبلق والميدان، ثم تحول إلى القلعة يوم الخميس وصلى بها الجمعة، وخلع على نواب البلاد وأمرهم بالرجوع إلى بلادهم، واستقرت الخواطر، وذهب اليأس وطابت قلوب الناس، وعزل السلطان ابن النحاس عن ولاية المدينة وجعل مكانه الأمير علاء الدين أيدغدي أمير علم، وعزل صارم الدين إبراهيم والي الخاص عن ولاية البر، وجعل مكانه الأمير حسام الدين لاجين الصغير، ثم عاد السلطان إلى الديار المصرية يوم الثلاثاء ثالث شوال بعد أن صام رمضان وعيد بدمشق.
وطلب الصوفية من نائب دمشق الأفرم أن يولي عليهم مشيخة الشيوخ للشيخ صفي الدين الهندي، فأذن له في المباشرة يوم الجمعة سادس شوال عوضا عن ناصر الدين بن عبد السلام، ودخل السلطان القاهرة يوم الثلاثاء ثالث عشرين شوال، وكان يوما مشهودا، وزينت القاهرة).[44]
وقال ابن فضل الله العمري عن شجاعة ابن تيمية في تلك المعركة التاريخية التي لا تقل أهمية عن عين جالوت التي هزم فيها السلطان المظفر قطز التتار وملكهم هولاكو: (وحكي من شجاعته في مواقف الحرب في شقحب وبون كسروان ما لم يسمع إلا عن صناديد الرجال، وأبطال اللقاء، وأحلاس الحرب، تارة يباشر القتال، وتارة يحرض عليه، وركب البريد إلى مهنّا بن عيسى واستحضره إلى الجهاد، وركب بعدها إلى السلطان، واستنفره وواجه بالكلام الغليظ أمراءه وعسكره، ولما جاء السلطان إلى شقحب لاقاه إلى قرن الحرة، وجعل يشجعه ويثبته، فلما رأى السلطان كثرة التتار قال: يا لخالد بن الوليد! فقال له: لا تقل هذا بل قل يا الله، واستغث بالله ربك ووحّده وحده ينصرك، وقل: يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين، وما زال ينفتل تارة على الخليفة، وتارة على السلطان ويهدئهما، ويربط جأشهما حتى جاء نصر الله والفتح، وحكي أنه قال للسلطان: اثبت فأنت منصور، فقال له بعض الأمراء: قل إن شاء الله، فقال: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا؛ فكان كما قال).[45]
وقد قص الإمام بدر الدين العيني المصري خبر معركة شقحب برواية المصريين لتفاصيلها، وما جرى بين الأمراء فيها، فقال: (وقال بيبرس في تاريخه: ولما عاد التتار الذين انهزموا من القريتين -قبل معركة شقحب- اجتمعوا مع بقية عساكرهم وتحدثوا في مشاورهم وقالوا: إن السلطان لم يتحرك من الديار المصرية في هذه الأيام، وما ثم إلا بعض العسكر المصري وعسكر الشام، واتفقوا على المبادرة ليغتنموا الفرصة على زعمهم، وأقبلوا مسرعين بطمهم ورمهم، فكثرت الأراجيف لمفاجأتهم، والإنذار بمهاجمتهم، هذا والسلطان ومن معه لم يتحقق حالهم، ولا علم قبالهم، فتقسمت الأفكار والظنون، وتطلعت لقدومه العيون، واجتمعنا للاستخارة، واقتدحنا زناد الاستشارة، فأجمعنا على استطلاع الحال قبل العزم على الترحال.
قال: فتوجهت مستكشفًا، وللأخبار متعرفًا، فلما وصلنا القطيعة صادفنا عسكر حلب وحمص وحماة قد تقدموا جائين، وأقبلوا متواترين، وأخبروا بأن العدو سائر سير المجد في الرواح والغدو، وقد اقترب الإفدام من الأقوام، ودنت الخيام من الخيام، فرجعنا إلى مرج راهط، وخرج الأمير ركن الدين الأستادادار، والأمير جمال الدين أقوش الأفرم، ومعهما الأمراء المصريون والشاميون؛ فاقتضت الآراء التأخر عن المرج قليلاً، والنزول من دونه ولو ميلاً، ريثما يحصل التوثق من وصول السلطان، واجتماع العساكر قبل أن يلتقي الجمعان، فلما رجعوا إلى خلف شيئًا يسيرا وصلت الأطلاب، وعادت العساكر على الأعقاب، حتى إن أكثرهم ترك حماله، ورمى أثقاله، وأهمل قماشه وماله، ولم يتهيأ ردهم، ولا أمكن صدهم، وعبروا على مدينة دمشق بهذه الصورة، فتصدعت قلوب أهلها المكسورة، وعجوا وضجوا، واستصرخوا ولجوَا، وحملهم مادهمهم من انتقاض العزائم، على أن صرحوا بالشتائم، وبادر أكثرهم بالجفل لينجو، وقالوا: إذا رجعت عنا العساكر فأيَ حياة نرجو، فحصل بلطف الله التوقف والتثبط، والتمسك بالمرج والتضبط، فما كان إلا كلمح شرارة، أو وحي إشارة، حتى أتى البريد مخبرًا بإقبال الملك الناصر، وأطلاب العساكر، فزال البأس، وغلب الرجاء اليأس، ثم أقبل السلطان في جيوشه، وأسوده الكاشرة ووحوشه، فقويت القلوب، وانحلت الكروب، واجتمعت العساكر المصرية والشامية، وتكتبت الكتائب المحمدية.
وقال صاحب النزهة: وقد كان السلطان كتب إلى نائب الشام والأمراء وعرفهم بأنه خرج من مصر وصحبته الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان، فلما وصل إليهم الخبر فرحوا واستبشروا بذلك، وطابت خواطر العامة بكون العسكر مقيمين عندهم، وكون السلطان في الطريق وهو جاي.
وفي ثالث اليوم من ذلك: جاءت الأمراء المقيمون بمصر وهم: نائب حلب، ونائب حماة، ونائب طرابلس، فلاقتهم الأمراء الذين بدمشق واجتمعوا، فلما نزلوا للمشورة تحققوا أن قطلوبغا نائب قازان بمن معه من العسكر قد وصل إلى قرون حماة، طالباً دمشق طلبًا لقلعتها، فإنه بلغه ما جرى على السرية التي غارت على أهل القريتين، وبلغه أن نائب الشام متوجهاً للقائه بعسكر الشام، فعند ذلك اجتمعت سائر الأمراء: نائب حلب قراسنقر، ونائب حماة كتبغا العادل، ونائب طرابلس أسندمر، ونائب الشام الأفرم، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين الرومي، ومبارز الدين بن قرمان، وكراي المنصوري، وتغريل النوغاي، وسائر أمراء مصر والشام، على أنهم يخرجون إلى مرج دمشق ويلاقون العدو فيه، ولا يدعونهم يدخلون دمشق.
فلما انتظم الحال على هذا لم يعجب هذا الرأي الحسام الأستاذ الدار، ولا تحدث معهم في هذا الرأي، فقال له بيبرس: ما لك لا تتكلم مع الأمراء؟ فهذا ليس وقت السكوت، وأنت رجل كبير، ورأيت ما لا رأيناه، وجرت عليك التجاريب، فلا يحل لك أن تسكت، فإن رأيت خيراً من هذا الرأي تكلم، حتى نوافقك على هذا إن رأيناه مصلحة، وإلا فأنت تعلم شيئاً فيه مصلحة وتسكت عنه تطالب به يوم القيامة. فقال يا أمراء: أنا أقول ما أعلم أنه يخلصني عند الله تعالى، ولكن ما يعجب ذلك بعض الأمراء. قال له بيبرس: قل حتى نسمع. فقال: اعلموا أن هذا عدو ثقيل، وهو قاصدكم وطامع فيكم، لكون أنكم نواب البلاد، ولا يعلم أن عسكر مصر مع السلطان، قد قربوا منكم، فمتى لاقيناهم يجري علينا ما لا نحبه من غلبة العدو علينا، فيتفرق شمل العسكر الذين تجمعوا، ويحضر السلطان والعسكر على حال الفساد، ويكون العدو خلفنا، فيتوهم عسكر السلطان، وتنكسر قلوب الناس، ويقع العتب علينا أيضاً من السلطان حيث يقول: كنتم صبرتم حتى اجتمعنا كلنا جملة، والحال أنكم سمعتم بقدومي، فلا يفيد بعد ذلك الندم، وهذا السلطان قد قرب وبقي بيننا وبينه يوم أو يومان، والمصلحة عندي أن نرجع إليه، ونجتمع بين يديه، وتكون الآراء رأياً واحداً، واللقاء جملة واحدة، ويعطي الله النصر لمن يشاء.
فلما سمع بيبرس هذا الكلام التفت إلى الأمراء فقال: والله أنا لا أخرج عن إشارة هذا، فإن الذي قاله وأشار إليه ما عليه فيه جناح عند الله، ثم قال نائب الشام للحسام الأستاذ الدار: يا أمير أنت إذا خرجت الساعة يغير العدو على دمشق من بعدك، ويضع السيف في أهلها، فماذا يكون عذرك عند الله؟ فقال له الحسام: يا أمير إن العدو إذا علم بخروج العسكر من دمشق لا يلتفت إليها، ولا يكون عزمه إلا على اللحوق بالعسكر ويقول: إن دمشق في يدنا، ومع هذا يتوهم عن خروج العسكر.
فلما سمع الأمراء هذا الكلام منه أمروا ساعتئذ بقلع الخيام والركوب، ونادى المنادي بالرحيل، فوقع الصوت في دمشق، فتحير أهلها ودهشوا بحيث لا يغفل الوالد على ولده، ولا الولد على والده، وسيبت النساء والبنات، وغلت أسعار الجمال والحمير، فبلغ كل حمار كان يساوي مائة بخمسمائة وستمائة، وكل جمل كان يساوي ثلاثمائة بيع بألف وأكثر، وفي الناس من نجا بنفسه وخلى حريمه، ومن كان ظهره ثقيلاً طلع القلعة، وما جاء الليل إلا ودمشق يبكي عليها ويندبها النوادب.
وأما الجند والعسكر فإن أحدًا منهم لا يلتفت إلى رفيقه ولا إلى خشداشه، ولا ينظر المملوك إلى أستاذه، وخرجت الغلمان والحمالة على وجوهها، والصناديق التي فيها الأكل والحلواء يرمونها لأجل الخفة، وكان يومًا عظيمًا، وأما فقراء دمشق ومشايخها وصلحاؤها وفقهاؤها وقضاتها، فقد اجتمعوا بالجامع الأموي، ووطنوا أنفسهم على الموت، وكشفوا رؤوسهم يتضرعون إلى الله تعالى ويبكون، ولم يزالوا كذلك إلى أن طلع الفجر، ولاحت للناس مواكب العدو وجحافله، وقد رجعوا عن دمشق وركبوا أعالي الغوطة؛ ففرحت الناس لذلك وعلموا أن الله قد استجاب دعاءهم ورحمهم.
وكان سبب عدولهم عن دمشق أن جواسيس قطلوشاه قد حضروا إليه في الليل، وعرفوه أن النواب مع عساكرهم، لما سمعوا بوصولك إليهم، وتحققوا أن عسكرك عظيم، وأنهم ليس لهم طاقة للملاقاة، اتفقوا على أن يخلوا لك دمشق حتى تدخل إليها وتشتغل بأهلها، وينجون هؤلاء بأنفسهم، مع أنا سمعنا أن لهم عسكرًا خرجوا من مصر وهم مقبلون، فهؤلاء قد ذهبوا إليهم حتى يعتضدون بهم، ثم يرجعون جملة واحدة ويعملون شيئًا وأنتم مشغول في المدينة، فلما سمع قطلوشاه ذلك أعلم أمراءه بذلك وأكابر عسكره، واتفق رأيهم أن لا يدخلوا دمشق، فإنه إن دخلوا يفسد أمرهم ويشتغل العسكر بالكسب، فيحصل الفساد إن عاد عسكرهم علينا، ومع هذا يمكن أن يكون هذا مكيدة من نائب الشام، فعند ذلك ركبوا وقصدوا الطريق التي من وراء المرج حتى ينزلون من خلف دمشق على الكسوة، ثم يتتبعون آثار عسكر الشام، فحيثما يتلاقون بهم يحطمونهم.
فلما رأت أهل دمشق ذلك حمدوا الله تعالى، واستمروا مقيمين في الجامع، مشتغلين بالدعاء والقنوت في الصلوات.
قال الراوي: وكان يوم خروج الشاميين من دمشق يوم نزول السلطان الملك الناصر بعساكره على رأس العقبة، وكان يوم استهلال شهر رمضان المعظم.
ذكر خروج السلطان من القاهرة ووصوله إلى شقحب:
كان خروج السلطان من مصر في الثالث من شعبان من هذه السنة، وأسرع في السير إلى أن وصل إلى راس العقبة مستهل رمضان، والتقى الأمراء بالسلطان وترجلوا وباسوا الأرض، وما لحقوا أن يقفوا إلا وأجناد العدو قد وصلت بوصوله، فوقف السلطان وأمر للنقباء والحجاب أن يدوروا على الجيش ويأمرونهم بلبس الأسلحة والاستعداد للملاقاة، وبقي السلطان والأمراء راكبين في الموكب سائرين، واستعد العساكر باللبس والتجهيز.
وفي ذلك الوقت وقع كلام فج بين الأمير شمس الدين سنقر العلائي -أحد الأمراء البرجية- وبين الأمير حسام الدين الأستادار، وكان هذا سنقر من جمرة البرجية التي تتعد وكان مدلًا بشبابه وقوة ساعده وفروسيته، ولما رأى الأمراء سلم عليهم، ورآهم على تلك الصورة، أنكر عليهم، فصار كل أحد منهم يحكي له حكاية، ومال بعضهم فيها على حسام الدين الأستادار حيث أنه منع العسكر عن ملاقاة العدو، وترك دمشق وأخذ العسكر وأخلاها، وأشار إليهم أن الملاقاة تكون بحضور السلطان، وأن الأمير ركن الدين بيبرس وافقه على هذا الرأي، فتبعته الأمراء، فما سمع سنقر هذا الكلام إلا وقد ركض فرسه وسط الموكب، وقال للأمير بيبرس: يا أمير إش هذا الرأي الذي فعلته بالناس حتى أفسدت حال العسكر، وكسرت قلوب أهل دمشق، ونهبت أموالهم؟! وسمعت من واحد قد كبر وخرف وما يشتهي الموت، والأمير حسام الدين إلى جانب السلطان يتحدث معه ويسمع كلامه، ثم التفت بيبرس إليه وقال له: اسكت، ما هذا الكلام؟ ثم قال حسام الدين: يا أمير -يخاطب سنقرًا- أما أنا فإني أشرت إليهم، فالله يطالبني بها يوم القيامة إن كان قصدي فساد المسلمين، وأما أني كبرت فصحيح، ولكني ما خرفت، فوقع بينهما كلام كثير، ثم غضب بيبرس وصاح على سنقر العلائي وأخرجه من مكان كان واقفاً فيه.
قال الراوي: سمعت من قال: إني رأيت حسام الدين تخرج الدموع من عينيه، وقد بلت شيبته، وهو يتمثل بأبيات من شعر الطغرائي:
تقدمني رجال كان سوطهم ... وراء خطوي إذا أمشي على مهل
هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل
ذكر وقعة شقحب:
قال صاحب النزهة: هذه الوقعة عرفت بين الناس بوقعة شقحب، ثم بغباغب، فإنها كانت مشتملة على طرف شقحب وغباغب والصنمين، قلت: هذه أسماء قرى هناك، وهي أراضي وعرة ذات أحجار سود.
قال بيبرس في تاريخه: ذكر كسرة التتار على مرج الصفر في غرة الشهر الأزهر: لما انتظم شمل العسكر انتظام الجمان، واصطفت صفوفه كأنها بنيان، أضحوا كما قال أبو الطيب المتنبي:
وإذا رأيت إلى السهول رأيتها ... تحت العجاج فوارسًا وجنائبا
وإذا نظرت إلى الجبال رأيتها ... فوق السهول عواسلًا وقواضبا
فكأنما كسي النهار بها دجى ... ليل واطلعت الرماح كواكبا
أسد فرائسها الأسود يقودهم ... أسد تصير له الأسود ثعالبا
وقال النويري: لما وصل الملك الناصر رتب العساكر الإسلامية ميمنة وميسرة وقلبًا، والتقى الفريقان بمرج الصفر نصف النهار.
وقال صاحب النزهة: وكما قدر الله تعالى وصول السلطان والعسكر وجدوا قطلوشاه ومن معه من المغل قد وصلوا، ووقف على أعلى النهر وقد نظروا العساكر من علوه، فظنوا أنها عسكر الشام، فتباشروا، وأخذت الحجاب في ترتيب المواكب والأمراء والمقدمين، واجتمع الجميع قدام السلطان، وحضر الخليفة أبو الربيع، ووقفت أكابر الأمراء والنواب، وأجمعوا على تعيين أمراء للميمنة، وأمراء للميسرة.
ووقف السلطان في القلب بلوائه، والخليفة بإزائه، والأمير سيف الدين سلار، والأمير ركن الدين أستادار، والأمير عز الدين أيبك الخزندار، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار، والأمير جمال الدين أقوش نائب الشام ومن معه من عساكر الشام، وبلرغي، وأيبك الحموي، وبكتمر الأبوبكري، وقطلوبك، ونوغيه السلحدار، وأغرلوالزيني.
وفي الميمنة: الأمير حسام الدين الرومي أستاذ الدار، والأمير جمال الدين أقوش الموصلي، والأمير بهاء الدين يعقوبا الشهرزوري، والأمير مبارز الدين بن قزمان، ومبارز الدين بن سواري أمير سنجار.
وفي الميسرة: الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح، والأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري نائب حلب ومن معه من العسكر الحلبي، والأمير سيف الدين بتخاص المنصوري نائب صفد، والأمير سيف الدين طغريل الإيغاني، والأمير بكتمر السلحدار، والأمير بيبرس الدوادار صاحب التاريخ.
وفي الجناح الأيمن: الأمير سيف الدين قفجاق نائب حماة ومعه العسكر الحموية، وجماعة العربان فيهم مهنا وآل فضل.
وقال صاحب النزهة: وفي الجناح الأيمن شمس الدين قراسنقر نائب حلب مع مهنا وآل فضل، والأمير بهاء الدين أو لياء بن قزمان، وفي الجناح الأيسر: سيف الدين برلغي، وعلم الدين الجاولي، وشمس الدين سنقر الكمالي.
وقال صاحب النزهة: كانت الأمراء قصدوا أن يعزلوا السلطان مع جماعة بناحية عن المصاف، فأبى ذلك ولام الأمراء وقال: والله أنا أول من يحمل قدامكم، فقال له أسندمر كرجي نائب طرابلس: يا خوند نحن ما نريد منك أن تحمل، ولا للملوك عادة بالحملة، ولكن إثبت أنت مكانك، فإذا ثبت السلطان ثبت العسكر. فقال له: يا أمير إن اخترتم هاتوا قيداً فقيدوا فرسي به حتى أموت وهو واقف، فأعجب ذلك الأمراء ودعوا له.
وقال ابن كثير: ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتًا عظيمًا، ويقال: إنه أمر بجواده فقيد حتى لا يهرب، وبايع الله في ذلك الموقف.
وقال صاحب النزهة: ولما تكامل ما رتبوا وقف كل أحد مكانه، والخليفة إلى جانب السلطان يتلو كتاب الله ويذكر ما أعد الله للمجاهدين من الثواب والأجر، ويقول: أيها المجاهدون لا تقاتلوا لأجل سلطانكم، فقاتلوا لأجل حريمكم، فعند ذلك ما كنت ترى إلا أدمعًا على الخدود تترادف، وزعقات من صميم الأكباد تتضاعف، وعاينت جماعة من الجند وقع بهم الاختلال في عقولهم في ذلك الوقت ووقعوا إلى الأرض، وبقي الأمير سيف الدين سلار في حفدته ومضافيه، والأمير ركن الدين في حفدته من البرجية ومضافيه، يترددان بين القلب والميمنة، وكان هؤلاء جمرة الإسلام، وعليهم العمدة في الأحكام، وكل منهما في نحو أربعين طبلخاناة.
قال الراوي: وبلغني من أحد الأمراء أنه سمع بيبرس يقول: أنا عاهدت نفسي الموت، وذلك حين قال له سلار: يا أخي أنت تعلم أن الحديث فينا كثير، وأنا نسبوني إلى التتار لكوني من جنسهم، وأنت نسبوك إلى أنك تبغض الجند، فبالله أوص لأصحابك بالثبات، وإلا لا يبقى لنا وجه عند أحد بعد هذا اليوم، وتعاهدوا، ووثق بعضهم بكلام بعض، ثم نشروا السناجق والأعلام الخليفتية والسلطانية، وسيروا النقباء فداروا على الركبدارية والغلمان والجمالة، وجمعوا الجمع، وأوقفوهم صفاً واحداً خلف أستاذيهم ليكثر بهم السواد، ونادى منادي: أي جندي خرج من المصاف بغير عذر أو جرح، فدمه حلال، وعدته وفرسه لهم، وكذلك الجمالة والغلمان.
ذكر ما اعتمد عليه قطلوشاه في ذلك اليوم:
ولما تناهى ترتيب المسلمين، عاين ذلك قطلوشاه مقدم المغل وهو أعلى الخيل، وهو في جيش قد سدّ السهل والوعر، ثم شرع في ترتيب أمره، فقصد أن يرتب مقابل كل موكب موكباً، وجمع الأمراء على ذلك، فلم يجد في أمرهم فسحة، ووجد ميسرة المسلمين قد انتشرت، وبينهم وبين التتار النهر الكبير هناك فلا يمكن الوصول إليهم، فمشوا إلى آخر النهر إلى أن وصلوا إلى رأس الميمنة، فوجدوا رائجاً مديداً، ولكن وجدوا مخاضاً للجبل، فتشاوروا في أمر نزولهم، واتفق رأيهم على أنهم لا يجدون مكاناً للنزول أسهل من هذه المخاضة، وأنهم ينزلون جملة واحدة. وأنهم إذا كسروا هذه الطائفة التي بين أيديهم يدورون خلف الذين يبقون، فإنهم لما رأوا ميمنة المسلمين ورأوا عسكرهم أمثال هؤلاء استحقروهم.
وقال بيبرس: وفي الوقت الحاضر أقبلت كراديس التتار كقطع الليل، لا يبين فيها الرجل من الخيل، وقد عراهم القتام والغبار، وفيهم من مقدميهم الكبار: قطلوشاه، وسوتاي أقطاجي، وجوبان بن تداون، وبولاي، وقرمشي بن الناق، وطوغان، وسبوشي بن قطلوشاه، وطغريل ابن آجاي، وآبشقا، وأولا جغان، والكان، وطيطق في مائة ألف من المغول والكرج والأرمن وغيرهم.
ذكر كيفيّة الوقعة:
قال صاحب النزهة: لما رأت التتار عسكر الإسلام وهم على الجبل صاحوا وضربوا الطبول، ونزلوا وقد أحاطوا النهر، ووقفوا عند المخاضة، وكان مقابلهم من ذلك الجانب الأمير حسام الدين الأستادار، والأمير بهاء الدين أوليا بن قزمان، ولما رآهم حسام الدين قال: بسم الله نية الغزاة، فجذب سيفه ومشى، وقال بعض مماليكه: يا خوند ارجع قليلًا عن يمينك أو عن شمالك، فلم يلتفت إليهم إلى أن صدمته الخيل، وصدمت ابن قزمان أيضًا، فكان الاثنان بينهم كالواحد في ألف، فإن الجميع اجتمعوا على مخاضة واحدة، وطلعوا طلوع رجل واحد، وكان الأمير الجأولي رديفهم، وبرلغي رديف الجأولي، والأمراء متصلون بعضهم ببعض، وارتفع الغبار، ولم يشعر الناس إلا وقد اندق الجأولي وبرلغي على الكمالي، ورأى بيبرس وسلار ذلك، فصاح سلار: هلك والله الإسلام، وصاح على بيبرس والأمراء البرجية، فنهض الأمراء المنهزمون وصدموا جيش المغل، فرجّعوها قهراً، ورموا منهم جماعة كثيرة إلى أن كشفوهم عن المسلمين.
وكان جوبان وقرمشي ومن معهما قد ساقوا يعينون بولاي وهو خلف المسلمين، فرأوا قطلوشاه وقد انكسر، فعادوا إليه، ووقف في وجه بيبرس وسلار.
وكان السلطان والأمراء قد رأوا سلار وبيبرس قد خلي مكانهما، ورأوا أطلاب العدو تتواتر، فخرج أسندمر وقطلبك وقفجق والمماليك السلطانية وردفوهما، ولما رأى سلار السلطان والأمراء أخذ على جانب وتمكن من العدو، وطعن فيهم وأبادهم، ولم يبق أمير إلا وقد ألقى نفسه للموت، فلما رأى المغل ذلك أخذوا جهةً وتمكنوا منها، وكان الأمير سيف الدين برلغي بين أيديهم، فصدموه ومزّقوا طلبه وفرقوه، ثم صاروا أيّ جهة مالوا إليها فرقوها، وتم الحرب بين سلار بمن معه من الأمراء والسلطان وبين قطلوشاه تارةً تارة، وكل من الفريقين قد ثبت.
ولم يعلم سلار والأمراء أن الجانب الذي نزلوا عليه قتلت أمراؤهم وانهزم من كان معهم، وأن طائفة من المغل ساقت وراء المنهزمين، وفي ذلك نهبت خزائن السلطان، فإن الكسرة حيث انتهت بالمسلمين على تلك الطريق جعلت الناس بين أيديهم، وتفرق من كان حول الخزائن، ولما رأى السواد الأعظم ذلك صاروا يبركون جمال الخزائن البخاتي ويكسرون الصناديق، ويخرجون أكياس الذهب والفضة، فيأخذ كل أحد ما يقدر عليه.
ومازالت الحرب بينهم إلى أن مالت الشمس للغروب، وكان الملتقى بينهم بعد الظهر، ثم مال قطلوشاه بمن معه إلى جانب جبل إلى جانبه، وطلع عليه وفي نفسه أنه منصور، ورجع جماعة منهم كانوا وراء المنهزمين، ومعهم جماعة من أسراء المسلمين وفيهم الأمير عز الدين أيدمر النقيب من المماليك السلطانية، فلما اجتمعوا قال قطلوشاه: هذا عسكر كثير وليس الأمر كما ظننا، فلا بد أن نعلم خبرهم، فاقتضى رأيهم أن يحضروا أسيراً من الأسرى ويستخبروا منه خبر العسكر، وقالوا لقطلوشاه: إن في الأسرى رجلًا وهو أمير، وهو عز الدين أيدمر المذكور، فأمر بإحضاره، فأحضروه بين يديه وقال: أنت من أمراء الشام؟ قال: لا أنا من أمراء مصر. فقال له: وما جاء بك ههنا؟ فقال: جئت مع السلطان. قال: مع الملك الناصر؟ قال: نعم. قال: وأين السلطان وعسكر مصر؟ قال: الكل واقفون. قال له: وعسكر مصر جميعهم الساعة ههنا حاضرون والملك الناصر حاضر؟ قال له: نعم. قال: فأي وقت وصلتم إلى ههنا؟ فأخذ يعرفه ويخبره بجميع أمور السلطان من يوم خرج من مصر إلى هذا اليوم. ومن جملة ما قال له: هذا الذي كسرتموه من الميمنة فقط، وعسكر الملك الناصر كثير، فلم يصدقوه حتى أحضروا غيره، فسألوه فأخبر نحو ما أخبره عز الدين أيدمر، ثم سألوا غيره وغيره إلى أن سألوا جماعة كثيرة، فالكل أخبروا بخبر واحد، ولما تحققوا صدق مقالهم وقعوا في بحر زخار، فقال لهم بولاي: تحققتم أن هذا هو الملك الناصر؟ قالوا: ما بقي شك في أمره. فقال: ألم تعلموا أن الخان قازان قد كتب يغلق، وعاهدنا أننا إذا رأينا أو سمعنا أن الملك الناصر حاضر بعسكره أو بغير عسكره لا نضرب معه مصافاً؟ فقال له قطلوشاه: لو علمنا من الأول أن الملك الناصر حاضر ههنا ما ضربنا معه رأساً، ولكن اعتقادنا أنه نائب الشام مع عسكر الشام، والآن فقد وقعنا كلنا في فم السبع فما بقي إلاّ الموت جميعاً أو الحياة جميعاً، وهم في ذلك الكلام إذا بالكوسات قد دقت والبوقات قد زعقت، حتى ملأت الأرض وأزعجت القلوب، وكان ذلك برأي الأمراء حيث رأوا التتار قد تجمعوا فوق الجبل حتى تقع الهيبة في قلوبهم، وحتى يسمع المنهزمون فيرجعون.
ولما سمعوا حسّ الكوسات، قال بولاي لقطلوشاه: هذا الطبل ما يدق إلاّ للسلطان، وأنا ما أخالف يسق -قانون- الخان، فضرب طبله وخرج من قدام قطلوشاه بتومانه، ونزل من الجبل بين العشائين، ولم يزل إلى أن طلع من المخاضة التي نزلوا منها، وعلم به بعض العسكر، فلم يجسر أحد أن يقربه ولا أن يتبعه.
وبات الأمراء والناس في هذه الليلة والنيران قد ملأت الأرض، والمشاعل توقد، وكذلك التتار قد أوقدوا النيران، وباتوا محترسين على أنفسهم، ولم يزل في تلك الليلة النقباء والحجاب ومعهم سلار وبيبرس وأسندمر وقبجق وأكابر الأمراء دائرين على الأمراء والأجناد يوصونهم بأن يكونوا على يقظة من أمرهم، فعرفهم الأمير سيف الدين قفجق أن التتار لو قتلوا عن آخرهم في هذا المكان ما ينزل أحد منهم في الليل ولا يقاتل، وإنما لا بد لهم من النزول غدًا.
ذكر هزيمة التتار:
قال الراوي: وما أصبح الصباح إلا وقد انضم شمل عساكر السلطان، وأخذ كل أحد موضعه، وأما قطلوشاه فإنه شاور مع بعض الأمراء الكبار الذين معه فيما يفعله، وقد تحققوا في أنفسهم الموت، فوقع رأيهم على أن يقيموا على الجبل ولا ينزلوا، ويقاتلوا العسكر إلى أن يفنوا ولا يسلموا أنفسهم، وما زالوا محترسين على أنفسهم إلى أن طلعت الشمس وقوي نورها، فنظروا إلى عسكر قد ملأ الأرض، ولم يروا مثلهم في أعمارهم، وأراهم الله في عيونهم في كثرة لا تحصى ولا تعد.
ثم شرع المسلمون يريدون أن يهجموا عليهم، فمنعهم الأمراء، وفرقوا العساكر حول الجبل على بعد.
وشرع قطلوشاه والأمراء ورتبوا عسكرهم، فجعلوا كل مقدم إلى جهة، ونزل منهم بعض ركاب وجماعة من الرجالة وقصدوا قتال العسكر.
ولما رأى السلطان والأمراء ذلك جعلوا قبالة كل مقدم مع طائفته أميراً من الأمراء، وأضافوا إليه من كان يناسبه، وخرج مماليك السلطان إلى مقابل قطلوشاه وجوبان، فشرعوا يقاتلون معهم تارةً بالرمي وتارةً بالهجوم عليهم، وقد لاح للإسلام وجه النصر على الأعداء، وصار كل مقدم من الأمراء يقاتل بالنوبة، يقاتل واحد ثم يذهب ويجيء غيره، وكذلك فعل المغل، والسلطان والأمراء واقفون ينظرون إليهم، فإذا قتل فرس واحد منهم أحضروا غيره في الساعة حتى أن بعضهم كان يقتل له فرس وفرسان وثلاثة من النشاب.
ولم يزالوا في القتال إلى أن توسطت الشمس من نهار الأحد، وانفصل القتال بينهم، وطلع قطلوشاه ومن معه من التتار وقد قاسوا نهاراً عظيماً، وقتل منهم نحو ثمانين رجلاً، وخرجت جماعة وركبتهم الذلّة، وقاسوا من قلة الماء أمراً عظيماً لأنهم لم يحسنوا انحصارهم على الجبل، فما أخذوا من الماء إلا قليلاً، ولما رأوا ذلك أجمعوا على النزول بكرة النهار، فمن مات مات ومن له أجل عاش، وذبحوا من خيولهم وشووا وأكلوا.
ولما أصبحوا اعتمدوا على النزول، وهرب منهم ناس من الأسرى وجاءوا إلى السلطان وأخبروه بما هم فيه من الذلة والعطش والخوف، وأنهم اتفقوا على أن يصدموا الجيش، وأنهم قد تحققوا الموت، فعند ذلك تشاور أكابر الأمراء، ووقع رأيهم على أن يفسحوا لهم طريقاً ولا يتقرب إليهم أحد إلى أن ينزل الجميع قدام العسكر، ثم يركبون ظهورهم.
ولما أرادوا النزول رأوا جماعة من المغل قد عدمت خيولهم وبقوا رجالة، وما بقي مع أحد من الأمراء فضلة خيل، فاتفقوا أن يأخذوا خيول الأرمن الذين معهم، فأخذوا منهم نحو مائتي فرس وأعطوا هؤلاء، ثم شرعوا في تجهيز حالهم إلى الساعة الرابعة من النهار، ثم ضربوا طبولهم ونزلوا، وكل منهم قد أعدّ نفسه للموت وتموا سائقين إلى أن وصلوا إلى النهر، ورموا خيولهم فيه، فمن كان فرسه قوياً طلع ومن كان فرسه قليل القوة وقف فيه، ولما طلعوا منه تبعتهم خيول المسلمين، وأنزل الله عليهم الذلة والمسكنة، ومزّقت جموعهم، وتفرقوا بحيث لم يلتفت أحد إلى أحد.
وكانت تلك الأراضي وعرةً كما ذكرنا لا يتمكن الفرس من حط رجلها إلا على حجر، فقاست خيول المسلمين من ذلك شدة، وأما التتار فإن راكباً منهم ما يهرب مقدار رمية نشاب إلا وقد وقع على الأرض.
ولو عاينت ما كنت ترى غير رؤوس ترمى بالسيوف، ورجال يقبض عليهم بالأيادي والكفوف، وتمت خيل المسلمين تابعة أثرهم إلى أن صار وقت العصر، فرجعت الأمراء واجتمعوا عند السلطان، واتفق رأيهم على تجريد أمراء يتبعونهم، فجردت جماعة منهم بمضافيهم من أصحاب الخيول الجياد، فتزودوا وساروا وراءهم، ورسم للعرب أيضًا أن يتبعوا آثارهم، فأيّ موضع أدركوا منهم جماعة يقبضون عليهم ويقتلونهم ويأسرونهم.
وقال النويري: التقى الفريقان بمرج الصفر نصف النهار، فاضطربت ميمنة المسلمين، واستشهد جماعة من الأمراء، وانهزم بعضهم إلى دمشق، وأردف القلب الميمنة فردّت التتار عنها، وأما الميسرة فثبتت وحملت على ميمنة التتار وكان مقدمهم بولاي، فولى منهزمًا وتبعهم المسلمون، وحجز الليل بينهم، والتجأ التتار إلى الجبل وأحاطت العساكر الإسلامية بهم وضايقوهم أشد مضايقة إلى الصباح، ثم أفرج لهم الأمير أسندمر فرجة من رأس الميسرة، فخرجوا منها هاربين على أعقابهم، وتبعتهم العساكر الإسلامية فأبادوهم قتلاً وأسراً وغنموا منهم خيلاً عظيمة حتى بيع الأكديش بخمسة دراهم.
وقال ابن كثير: وأصبح الناس يوم الجمعة أول رمضان في هم شديد وخوف أكيد لا يعلمون ما خبر الناس، فبينما هم كذلك إذ جاء الأمير غرلو العادلي، فاجتمع بنائب القلعة، ثم عاد سريعاً ولم يدر أحد ما الخبر، ولم يفهم أحد من العامة فيم جاء غرلو.
وأصبح الناس يوم السبت على ما كانوا عليه من شدة الحال، فرأوا من المآذن سواداً وغبرة من ناحية العسكر والعدوّ، فغلب على الظنون أن الوقعة في هذا اليوم، فابتهلوا إلى الله بالدعاء في الجامع والبلد، وطلعت النساء والصغار على الأسطحة، وكشفوا رؤوسهم وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك الوقت مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس.
فلما كان بعد الظهر قرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش، ووصل الركاب السلطاني إلى مرج الصفّر، وفيه طلب الدعاء من الناس، والأمر بحفظ القلعة والتحرّز على الأسوار، فدعي الناس في المأذنة والجامع والبلد، وانقضى النهار، وكان يوماً مزعجاً هائلاً.
وأصبح الناس يوم الأحد يتحدثون بكسر التتار، وخرج ناس إلى ناحية الكسوة، فرجعوا ومعهم شيء من المكاسب ورؤوس التتار، وصارت أدلة الكسر تقوى قليلاً قليلًا، ولكن الناس مما عندهم من شدة الخوف لا يصدقون.
فلما كان بعد الظهر قرئ كتاب السلطان إلى متولي القلعة يخبر باجتماع الجيش ظهر السبت بشقحب وبالكسرة، ثم جاءت بطاقة بعد العصر من النائب جمال الدين الأفرم إلى نائب الغيبة مضمونها أن الوقعة كانت من العصر يوم السبت إلى الساعة الثانية من يوم الأحد، وأن السيف كان يعمل في رقابهم ليلاً ونهاراً، وأنهم وهنوا وركنوا إلى الفرار، وأنه لا يسلم منهم إلا القليل، فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم ودقت البشائر بالقلعة.
وفي يوم الاثنين الرابع من رمضان: رجع الناس من الكسوة، ودخل ابن تيمية وأصحابه البلد، ففرح الناس به ودعوا له، وذلك لأنه ندب العسكر الشامي إلى أن يسير إلى ناحية السلطان، وحرّض السلطان وبشره وجعل يحلف له بالله الذي لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه الكرة، ويقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، وأفتى للناس بالفطر يومئذٍ، وكان يدور على الأطلاب فيأكل من شيء معه من يده فيأكل الناس ويتأول في الشاميين قوله عليه السلام: "إنكم تلاقوا العدو غدًا والفطر أقوى لكم"، يعزم عليهم في الفطر عام الفتح، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وأما السلطان فإنه رجع مع الأمراء إلى مكان الوقعة، فوجدوا المجاهدين قد ملأوا تلك الأرض، وهم بين تلك الأحجار مطروحين، وكل من رأوه وجدوه مستقبل القبلة، وسبابته تشير بالشهادة، ووجهه يتقد نوراً، فكأنه في حال الحياة، وكل من رأوا من قتلى المغل وجدوه ملقى على وجهه، ثم أمر السلطان بأن يروح بدر الدين الفتاح مبشراً إلى مصر، وكتب معه كتاب البشارة، وكان النائب في مصر عز الدين البغدادي، وكتب إلى غزة أيضاً بالبشارة، وأمر النائب فيها أن لا يمكن أحداً من المنهزمين من التوجه إلى مصر، وكتب أيضاً إلى سائر القلاع والحصون بالبشارة والتهنئة بما فتح الله على الإسلام بالنصر على الأعداء، وأقام السلطان إلى يوم الثلاثاء، ثم ركب إلى نحو دمشق.
ذكر دخول السلطان دمشق مؤيدًا منصورًا:
قال ابن كثير: ثم دخل السلطان إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رمضان، وبين يديه أبو الربيع سليمان الخليفة، ونزل بالقصر الأبلق، ثم تحول إلى القلعة يوم الخميس، وصلى بها الجمعة، وخلع على النواب وأمرهم بالرجوع إلى بلادهم، واستقرت الخواطر، وذهب الناس، وطابت قلوب الناس.
ولما دخل السلطان دمشق خرجت إليه سائر الدماشقة من الصلحاء والمشايخ والحكام والكتاب والعامة حتى لم يبق بدمشق مخلوق، وتلقوه بالدعاء والثناء، وازدحموا عليه حتى لم يبق لفرسه مكان يمشي عليه من كثرة العامة، وضربت البشائر والكوسات، وسيقت الأسارى بين يدي موكبه مقرنين في الأصفاد، وسناجقهم بأيديهم منكوسة، وطبولهم معكوسة.
وكان السلطان لما دخل دمشق ولى وعزل، وأمر ونهى، وقطع ووصل، وعزل ابن النحاس عن ولاية المدينة، وعوض عنه بالأمير علاء الدين أيدغدى أمير علم، وعزل صارم الدين ابراهيم والي الخاص عن ولاية البر، وعوّض عنه بحسام الدين لاجين الصغير رحمه الله.
ذكر ما جرى للتتار بعد انهزامهم:
وقال صاحب النزهة: لما انكسرت التتار انتشروا في الأرض، فكان الرجل منهم يقع من نفسه، وآخر يقف فرسه فينزل ويمشي ساعةً، ثم يقطع من لباده الذي عليه قطعة فيلفها على رجليه، هذا هم الذين غفل عسكر الإسلام عنهم، وأما الذي يصادفه أحد منهم فإما يقتله أو يأسره ويقوده مثل الكلب، وقد ملئت الأرض من دمائهم ومن أجسادهم، فأوقع الله عليهم الذلة والصغار حتى يقبض على واحد منهم فلا يمد يده ولا يقاتل، وإذا كان في يده قوس أو سيف يرميه إلى الأرض، وإذا رأى الرجل طالبه يمدّ رقبته إليه ويسلم نفسه من غير قتال، وقتلت منهم الغلمان والحرافيش خلقاً كثيراً، وكان الجند ومماليك الأمراء يتذاكرون في قتلاهم، فمنهم من يقول: قتلت عشرين، وآخر يقول: قتلت ثلاثين، وآخر يقول: قتلت عشرة، ونحو ذلك، وأما العرب فقد فعلوا بهم من النهب والقتل ما لا يحصى، ومنهم خلق كثير ماتوا عطشاً في البراري، وكذلك دوابهم، ومنهم ناس التجئوا ببساتين دمشق فدخلوا فيها، فكان الرجل يجيء إلى بستانه فيجد فيها اثنين وثلاثة فيقتلهم، ولا يقدر أحد منهم على منعه من الخوف والجوع والتعب، ولما علم الأمراء بذلك نادوا في دمشق إن من وجد أحداً من المغل أو الأرمن ولم يحضره إلى نائب الشام فقد حل دمه، فصار من يظفر بواحد منهم أو أكثر يأتي به إلى النائب، فالنائب إما يقتله وإما يستخلصه لنفسه.
وقال بيبرس في تاريخه: لما حصل التظافر على التتار أسرع بولاي أحد مقدميهم في الفرار، وفرّ معه منهم زهاء عشرين ألفاً، ثم افترق التتار ثلاث فرق: الأولى فرقة فيها جوبان في زهاء ثلاثين ألفاً، والثانية فرقة فيها قطلوشاه ومعه تقدير ثلاثين ألفاً، والفرقة الثالثة كانت مع طيطق تقدير عشرين ألفاً، فحملت العساكر عليهم فصيروهم رميماً، وركبوا أكتافهم فغادروهم هشيماً.
ولما كان من غد يوم الوقعة يوم الاثنين ثالث رمضان: جرد خيل الطلب في الآثار، فكان فيها الأمير سيف الدين سلار، والأمير عز الدين أيبك الخزندار وتتابعت العساكر تقفو قفى التتار، وتأخذ من حماتهم وكماتهم الثأر بالبتّار، فامتلأت من قتلاهم القفار، وأمسوا حديثاً في الأمصار، وعبرة لأولى الأبصار:
مضوا متسابقي الأعضاء فيهم ... لأرجلهم بأرؤوسهم عثار
إذا فاتوا السيوف تناولتهم ... بأسياف من العطش القفار
وسرح السلطان واحدًا من أسراهم ليخبرهم بما تم، وأرسل على يده كتابًا تحدث فيه بنعمة ربه وما منحه من نصرة حزبه).[46]

فقه ابن تيمية السياسي في مواجهة الاحتلال:
لقد تجلى فقه ابن تيمية السياسي وعبقريته في مواجهة هذا الغزو الهمجي، ابتداء من أمره أرجواش علم الدين سنجر المنصوري نائب قلعة دمشق بعدم تسليمها للتتار بعد احتلالهم دمشق وحصارهم للقلعة، التي أصبحت فيما بعد هي نقطة تحرير دمشق، بحسن رأي ابن تيمية، كما ذكر ذلك ابن كثير (فإن الشيخ تقي الدين بن تيمية أرسل إلى نائب القلعة يقول له ذلك، لو لم يبق فيها إلا حجر واحد؛ فلا تسلمهم ذلك إن استطعت، وكان في ذلك مصلحة عظيمة لأهل الشام، فإن الله حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزا لأهل الشام التي لا تزال دار إيمان وسنة، حتى ينزل بها عيسى ابن مريم).[47]
ثم في ممارسته لصلاحيات السلطة في ظل غيابها وعجزها، حتى رحل إلى القاهرة يحث السلطة على القيام بمسئوليتها، ثم ذهب إلى غازان مع وفد من علماء الشام لأخذ الأمان لها، ثم دخل على غازان ونائبه بولاي، وفاوضهم حتى أطلق أسرى المسلمين وأهل ذمتهم من اليهود والنصارى، كما أخبر بذلك ابن تيمية نفسه في رسالته إلى ملك قبرص، وقد أرسل إليه رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، وإلى إطلاق أسرى المسلمين في قبرص، كما فعل هو حين أطلق أسرى النصارى من أسر غازان، حيث قال في رسالته: (ولما قدم مقدم المغول غازان وأتباعه إلى دمشق، وكان قد انتسب إلى الإسلام ؛ لكن لم يرض الله ورسوله والمؤمنون بما فعلوه؛ حيث لم يلتزموا دين الله، وقد اجتمعت به وبأمرائه وجرى لي معهم فصول يطول شرحها ؛ لا بد أن تكون قد بلغت الملك؛ فأذله الله وجنوده لنا حتى بقينا نضربهم بأيدينا ونصرخ فيهم بأصواتنا، وكان معهم صاحب سيس مثل أصغر غلام يكون، حتى كان بعض المؤذنين الذين معنا يصرخ عليه ويشتمه، وهو لا يجترئ أن يجاوبه، حتى إن وزراء غازان ذكروا ما ينم عليه من فساد النية له، وكنت حاضرا لما جاءت رسلكم إلى ناحية الساحل وأخبرني التتار بالأمر الذي أراد صاحب سيس أن يدخل بينكم وبينه فيه، حيث مناكم بالغرور، وكان التتار من أعظم الناس شتيمة لصاحب سيس وإهانة له؛ ومع هذا فإنا كنا نعامل أهل ملتكم بالإحسان إليهم والذب عنهم، وقد عرف النصارى كلهم أني لما خاطبت التتار في إطلاق الأسرى وأطلقهم غازان وقطلوشاه وخاطبت بولاي فيهم فسمح بإطلاق المسلمين، قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس فهؤلاء لا يطلقون، فقلت له: بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا؛ فإنا نفتكهم ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة، وأطلقنا من النصارى من شاء الله، فهذا عملنا وإحساننا والجزاء على الله، وكذلك السبي الذي بأيدينا من النصارى يعلم كل أحد إحساننا ورحمتنا ورأفتنا بهم؛ كما أوصانا خاتم المرسلين حيث قال في آخر حياته: "الصلاة وما ملكت أيمانكم"، قال الله تعالى في كتابه: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا}، ومع خضوع التتار لهذه الملة وانتسابهم إلى هذه الملة؛ فلم نخادعهم ولم ننافقهم؛ بل بينا لهم ما هم عليه من الفساد والخروج عن الإسلام الموجب لجهادهم، وأن جنود الله المؤيدة وعساكره المنصورة المستقرة بالديار الشامية والمصرية: ما زالت منصورة على من ناوأها، مظفرة على من عاداها، وفي هذه المدة لما شاع عند العامة أن التتار مسلمون أمسك العسكر عن قتالهم فقتل منهم بضعة عشر ألفا، ولم يقتل من المسلمين مائتان؛ فلما انصرف العسكر إلى مصر وبلغه ما عليه هذه الطائفة الملعونة من الفساد وعدم الدين: خرجت جنود الله وللأرض منها وئيد قد ملأت السهل والجبل؛ في كثرة وقوة وعدة وإيمان وصدق . قد بهرت العقول والألباب، محفوفة بملائكة الله التي ما زال يمد بها الأمة الحنيفية المخلصة لبارئها: فانهزم العدو بين أيديها ولم يقف لمقابلتها، ثم أقبل العدو ثانيا فأرسل عليه من العذاب ما أهلك النفوس والخيل، وانصرف خاسئا وهو حسير، وصدق الله وعده ونصر عبده، وهو الآن في البلاء الشديد والتعكيس العظيم، والبلاء الذي أحاط به، والإسلام في عز متزايد وخير مترافد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال "إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها" وهذا الدين في إقبال وتجديد).[48]
لقد كانت فتاوى ابن تيمية ومواقفه من غازان وسلطانه الممتد على المشرق الإسلامي كله، تعبر عن فقه سياسي راشد قد توارى منذ عقود أمام فقه الإرجاء والجبر، والخضوع لسلطة كل من غلب؛ فلا شرعية عنده للسلطة إلا وفق الشروط الشرعية، ومنها الالتزام بأحكام الإسلام كافة؛ فترك بعضها كتركها كلها، وكذا إقامة العدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فالغاية من إقامة الإمامة والسلطة في الإسلام هو إقامة أحكام الله، وإلا كان وجودها على خلاف قصد الشارع، كما قال في السياسة الشرعية: (وولي الأمر إذا ترك إنكار المنكرات وإقامة الحدود عليها بمال يأخذه، كان بمنزلة مقدم الحرامية الذي يقاسم المحاربين على الأخيذة، وبمنزلة القواد الذي يأخذ ما يأخذه ليجمع بين اثنين على فاحشة... لأن هذا جميعه أخذ مال للإعانة على الإثم والعدوان، وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية، فإذا كان الوالي يمكّن من المنكر بمال يأخذه، كان قد أتى بضد المقصود، مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد له في سبيل الله فقاتل به المسلمين).[49]
ولهذا كله لم يعترف ابن تيمية بسلطة غازان مع أنه سيطر على الشام، وولى الولاة والقضاة وخطب له على المنابر، بل أوجب جهاده وقتاله، وحض أرجواش على عدم تسليم قلعة دمشق مع سقوط الشام كله ودمشق كلها تحت سلطان غازان، وأصدر الفتاوى تلو الفتاوى التي تحدد الموقف الشرعي من مثل هذه السلطة الخارجة عن أحكام الشريعة، وعدها طائفة ممتنعة يجب جهادها؛ لا السمع والطاعة لها، كما هدد سلطان مصر وأمراءها الذين كان الشام تحت ولايتهم -بتقليد من الخليفة العباسي بالقاهرة- بأنهم إن لم يقوموا بالدفاع عنه وحمايته زمن الخوف، فلا سلطان لهم عليه زمن الأمن، وأنهم سيقيمون سلطانا يحميه ويحوطه، إذ هذه أولى أولويات السلطة الشرعية، فالعاجز عن الجهاد ودفع العدو لا ولاية له عند ابن تيمية، وإنما الولاية لمن جاهد وحمى البيضة!
كما أبدى ابن تيمية فقها سياسيا راشدا في موقفه من الأسرى المسلمين واليهود والنصارى الذين أسرتهم جيوش غازان، وإصراره على إطلاقهم جميعا بل استثناء، وبلا فرق بين مواطني دار الإسلام؛ فأهل الملة وأهل الذمة في الحرمة سواء.
لقد كان أشد ما واجهه ابن تيمية هو عجز علماء عصره عن الاجتهاد في مثل هذه النوازل، وغلبة التقليد الفقهي حتى على من يدعي الاجتهاد منهم، فقد اعترض عليه بعضهم في جهاد التتار، كما اعترض عليه بعضهم في فتواه لأهل الشام بالفطر في رمضان للاستقواء على قتالهم، قال ابن القيم: (وأجاز شيخنا ابن تيمية الفطر للتقوى على الجهاد وفعله وأفتى به لما نازل العدو دمشق في رمضان، فأنكر عليه بعض المتفقهين، وقال: ليس سفرا طويلا! فقال الشيخ: هذا فطر للتقوى على جهاد العدو وهو أولى من الفطر للسفر يومين سفرا مباحا أو معصية، والمسلمون إذا قاتلوا عدوهم وهم صيام لم يمكنهم النكاية فيهم، وربما أضعفهم الصوم عن القتال؛ فاستباح العدو بيضة الإسلام، وهل يشك فقيه أن الفطر ههنا أولى من فطر المسافر! وقد أمرهم النبي في غزوة الفتح بالإفطار ليتقووا على عدوهم فعلل ذلك للقوة على العدو لا للسفر).[50]
وقال ابن القيم: (وكان يأمرهم بالفطر إذا دنوا من عدوهم ليتقووا على قتاله، فلو اتفق مثل هذا في الحضر وكان في الفطر قوة لهم على لقاء عدوهم فهل لهم الفطر؟ فيه قولان أصحهما دليلا: أن لهم ذلك وهو اختيار ابن تيمية وبه أفتى العساكر الإسلامية لما لقوا العدو بظاهر دمشق).[51]
وكان ابن تيمية حين احتل التتار دمشق سنة 699 هـ يأمر أصحابه بتركهم وعدم التعرض لهم وهم سكارى، مع أن أكثرهم مسلم، وكان يرى عدم الإنكار على مثل هؤلاء، حتى لا يصحو من سكرهم ويستحلوا حرمات المسلمين التي هي أشد حرمة من سكرهم، كما قال ابن القيم: (وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم).[52]
فكما كان لاتباع الكتاب والسنة عند ابن تيمية المقام الأسمى؛ فقد كان لفقه المقاصد عنده المحل الأسنى، فقد رفض أن يكون تحت راية السلطان في معركة شقحب، ووقف تحت راية أهل الشام اتباعا للسنة، (فسأله السلطان أن يقف معه في معترك القتال، فقال له الشيخ: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم)!
كما سارع بعد خروج التتار من الشام إلى إغلاق الحانات إراقة الخمر، بينما كان يرى قبل رحيلهم تركهم وما هم فيه من سكر، إذ لا ذنب أعظم من الكفر، إذ لا يتصور إقامة أحكام الإسلام تحت سلطان العدو المحتل، فاختلف الحكم بين الصورتين لاختلاف الحالين، ومراعاة للاعتبارين!
 وما زلنا مع ابن تيمية ومعركة الحرية وللحديث بقية...



[1] العقود الدرية (1 / 134)
[2] العقود الدرية (1 / 134)
[3] أعيان العصر وأعوان النصر (2 / 164)
[4] أعيان العصر وأعوان النصر (2 / 165)
[5] مجموع الفتاوى (28 / 532 - 533)
[6] مدارج السالكين (2 / 489)
[7] مجموع الفتاوى (27 / 505)
[8] عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان (1 / 364)
[9] عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان (1 / 365)
[10] عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان (1 / 395)
[11] البداية والنهاية 14/ 52، وعقد الجمان في تاريخ أهل الزمان (1 / 495)
[12] عجائب الآثار (2 / 182)
[13] عجائب الآثار (2 / 228)
[14] عجائب الآثار (2 / 238)
[15] عجائب الآثار (2 / 292)
[16] عجائب الآثار (2 / 201)
[17] عجائب الآثار (2 / 213)
[18] فصول من تاريخ العراق للمس بيل ص 471. وراجع مذكرات بريمر الحاكم العسكري للعراق سنة 2003م!
[19] مسالك الأبصار 5/ 678، والرد الوافر (1 / 83)
[20] تاريخ الإسلام (52 / 75)
[21] البداية والنهاية (14 / 8 - 14)
[22] عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان (1 / 356)
[23] تاريخ الإسلام (52 / 81)
[24] السلوك لمعرفة دول الملوك (1 / 309)
[25] عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان (1 / 358)
[26] عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان (1 / 361)
[27] عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان (1 / 371)
[28] جامع المسائل (5 / 295)
[29] مجموع الفتاوى - (28 / 410)
[30] جموع الفتاوى (28 / 501)
[31] الفتاوى المصرية 3/ 544 وما بين المعكوفتين منه، ومن مجموع الفتاوى (28 / 509)، ومختصر الفتاوى المصرية للبعلي (1 / 469 - 475) والسياق له.
[32] عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان (1 / 383)
[33] الرد الوافر (1 / 59)
[34] البداية والنهاية 14/ 18.
[35] مسالك الأبصار 5/ 697 والرد الوافر (1 / 63)
[36] البداية والنهاية (14/ 17).
[37] العقود الدرية (1 / 136)
[38] مجموع الفتاوى (28 / 424)
[39] مجموع الفتاوى (28 / 444)
[40] مجموع الفتاوى (28 / 455)، والعقود الدرية 136 - 191.
[41] أعيان العصر وأعوان النصر (2 / 163)
[42] العقود الدرية (1 / 191)
[43] البداية والنهاية (14 / 27)
[44] البداية والنهاية (14 / 27)
[45] مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (5/701).
[46] عقد الجمان (1 / 416 - 424)
[47] البداية والنهاية (14 / 10)
[48] مجموع الفتاوى (28 / 617)
[49] السياسة الشرعية (1 / 87)
[50] بدائع الفوائد (4 / 846)
[51] زاد المعاد في هدي خير العباد (2 / 50)
[52] إعلام الموقعين (3 / 5)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق