متى يحرقون السجون على من فيها؟
وائل قنديل
في مثل هذا اليوم، قبل أربع سنوات، كنا نظن أنه بالإمكان إفشال مخطط الحكم العسكري لإعطاب الضمائر، وتدمير الإنسانية داخل المواطن المصري.
خاطبت المجلس العسكري، واثقاً من أن إنساناً مصرياً جديداً، أكثر تحضراً وأعظم قدرة على مقاومة الرداءة، قائلاً "إن افتراض فساد الوجدان المصري رهان خاسر وقراءة خاطئة للشخصية المصرية، يقع فيها المجلس العسكري وقطاع من معسكر الثورة أيضاً، حيث تؤكد مشاهد "المليونيات" المضادة، المصابة بالأنيميا التي جرت، أمس، أن المواطن المصري قادر على الفرز بين الغث والسمين، وبين الرخيص والثمين، ويعرف الفرق بين حنجرةٍ حرةٍ وأخرى للإيجار.. توقفوا عن هذا العبث".
الآن، يبدو أن علينا الاعتراف بأنهم نجحوا في مخططهم لإنتاج "الإنسان الممسوخ"، كسلاح مدمر لكل خلايا التحضر والرقي في كل مكان، من الشارع إلى الجامعة، مروراً بالمدرسة والنقابة المهنية ومنابر الوعظ والخطابة، وستوديوهات الهواء، حيث وجدنا تجليات هذا الكائن القديم، المتجدّد، في حصار نقابة الصحافيين، وفي الحشد الانقلابي على مهنة الصحافة داخل مبنى "الأهرام".
رأينا وجوه الذين شاركوا في اغتيال الجندي الشهيد سليمان خاطر في ثمانينيات القرن الماضي، بجوار الذين أداروا مذبحة الثوار في "موقعة الجمل" 2011، والذين مهّدوا الطريق إلى مجزرة القرن في ميدان رابعة العدوية 2013، كلهم جاءوا لاستكمال مسيرة تدمير ما تبقى من ملامح إنسانية، كأنهم غزاة عائدون، مستوطنون مهووسون بشبق الاستئصال وعقيدة الاحتلال، ليسوا مستعدين لإهدار الفرصة التاريخية للانتقام والإبادة، وإقامة مملكة الشر.
لا تنفصل عمليات حرق القاهرة، في العتبة والغورية وعداهما من المناطق التاريخية، عن محاولات حرق نقابة الصحافيين، وإنشاء "نقابةٍ مسخ" على أنقاضها، في خطٍّ موازٍ مع عملية التمكين لإبادة "مصري يناير"، وإحلال "مصري يونيو" مكانه، بزراعة وجدانٍ آخر، تحرّك صاحبه غريزتا الخوف والطمع. ولذلك، يصبح غناء "أطفال شوارع" هدفاً لأسلحتهم الثقيلة، وتنشط عمليات الهدم والإزالة في كل مفاصل الدولة، من القضاء إلى الإعلام إلى التعليم.
لا يسمحون بالبقاء إلا لمن يعبد أصنامهم، ويعتنق أساطيرهم، مطلقين العنان لمروجي الدجل والخرافة، مثل ذلك الإعلامي الهزيل الذي انفرد بوثائق مسؤولية "الإخوان" عن سقوط الأندلس، وتفاصيل أسر قائد الأسطول الأميركي، ليقدم أحدث روائعه، على لسان باحثٍ عثر على اسم عبد الفتاح السيسي في القرآن الكريم والتوراة، ووضع رسالة بعنوان "زوال إسرائيل عام 2022"، تؤكد زوال إسرائيل على يد عبد الفتاح السيسي، استناداً إلى أن عدد حروف اسم السيسي مذكور في سورة الإسراء.
في الأثناء، تمضي عملية تركيع نقابة الصحافيين، بتشديد الحصار حولها، من الأمن والشبيحة ونواب البرلمان، وكهنة المهنة الذين عادوا للانتقام، فتنقل "الشروق" عن وكيل لجنة الثقافة والإعلام في مجلس النواب قوله إن فرض الحراسة على نقابة الصحافيين ليس تلويحاً أو تهديداً، لكنه احتمال قائم في ظل شق الصف الصحافي، ما لم تتنازل النقابة عن ثوابتها النقابية، وإعلاء كلمة القانون.
يقول "لمحت تراجعاً في أداء عدد من أعضاء مجلس النقابة. لكن، لم نصل بعد إلى التهدئة التي تؤدي للوصول إلى حل نهائي للأزمة"، مدافعاً عن عملية حصار النقابة "هذا رد فعل من الداخلية على التصعيد".
إنها الحرب على الكلام وعلى الوعي، بجملة واحدة "الحرب على الإنسان"، فلا يبقى هنالك إلا كائنات تهيم على وجوهها، ترقص وتشتم وتقتل، كلما أسمعها الجنرالات دقّات طبول مؤامرة الأعداء القادمين من الفضاء.
ومن أجل هذا، يشعلون النار في الأخضر واليابس، يحرقون المصانع والحقول، مواصلين إبادة ما تبقى من ملامح وطن، فما الذي يمنع من أن نصحو يوماً، لنجد أن ألسنة نار الجنون امتدت إلى السجون والمعتقلات، للقضاء على آخر ما تبقى من مساحاتٍ للوعي وللمقاومة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق