الاثنين، 30 مايو 2016

تدمير الفلوجة وإنقاذ البيت الشيعي

تدمير الفلوجة وإنقاذ البيت الشيعي


شريف عبدالعزيز


منذ اليوم الأول لإعلان جورج بوش الابن نهاية العمليات العسكرية في العراق عام 2003م، بدأت حرب ضروس من نوع آخر في المناطق السنية من العراق ضد المحتل وتحديدًا في تلك المدينة السنية العنيدة التي لم يرق لها برتعة المدرعات الأمريكية في المدن العراقية؛ فأخذت على عاتقها مقاومة المحتل حتى أخرجته بضرباتها الموجعة وسطرت ملاحمًا ستبقى رمزًا في تاريخ العراق الحديث.

إنها مدينة "الفلوجة " أو مدينة المساجد ، رمز الصمود والعنفوان العراقي الأصيل، أيقونة المقاومة والجهاد السني ضد المحتل الأمريكي وأزلامه الإيرانيين ، ممرغة الكرامة الأمريكية ومبعثرة الكبرياء الإيراني على أبوابها ، والتي تتعرض اليوم لواحدة من أعتى صور الانتقام وشحنات تفريغ الكراهية والحقد الطائفي والديني تحت اسم مكافحة الإرهاب وتحرير المدينة المباركة من تنظيم " داعش " الارهاب!

تتعرض مدينة الفلوجة العراقية منذ ليلة الأحد لقصف عنيف بالطائرات والمدفعية الثقيلة طال أغلب أحيائها.

الحكومة العراقية المرتعشة أعلنت أن هذه إشارة بدء عملية تحرير الفلوجة من يد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، إذ إن المدينة تعد المعقل الرئيسي للتنظيم في الأنبار، والتي تقع على بعد نحو 60 كيلومترًا من العاصمة العراقية بغداد.

وبدأت تتقدم القوات العراقية صباح الاثنين الماضي بعد غطاء ناري مكثف شمل قصفًا جويًا وصاروخيًا عنيفًا للمدينة.

وتشارك في عملية تحرير الفلوجة أو بالأحرى تدميرها ، قوات متعددة أبرزها قوات الشرطة الاتحادية التابعة لوزارة الداخلية العراقية بعشرين ألف مقاتل، إضافة لقوات مكافحة الإرهاب،

وهي من قوات النخبة العراقية المسماة بالفرقة الذهبية، إضافة لقوات الحشد العشائري من أبناء العشائر الأنبارية، وقوات الحشد الشعبي الشيعي المختلفة إضافة لطيران الجيش العراقي مدعومًا بقوات التحالف، وعناصر من الحرس الثوري الإيراني تحت قيادة مباشرة من أيقونة العسكرية الإيرانية " قاسم سليماني " والذي يتولى قيادة وتمويل مليشيات الحشد الشعبي التي أطلقت على اسم عملية تحرير المدينة "العملية نمر"، كما استخدمت صاروخًا محلي الصنع أسمته "النمر" أيضًا، تخليدا لاسم المرجع الشيعي نمر باقر النمر الذي أعدمته المملكة العربية السعودية في يناير الماضي في إشارة واضحة على طبيعة المعركة .

فيما يقدر عدد مقاتلي التنظيم داخل مدينة الفلوجة بين 1000 إلى 2000 مقاتل بعضهم من المقاتلين المنسحبين من مناطق جرف الصخر، إضافة لمقاتلين من أهل الفلوجة والذين يرون أن دخول كل هذه المكونات الطائفية المعادية معناه إصدار حكم إعدام وإبادة لأهل السنّة جميعا في المدينة .

ورغم التفاوت الكبير في العدد والعتاد إلا إن معركة الفلوجة لن تكون بهذه السهولة التي يتوقعها من لم يخبر المدينة وأهلها وتاريخهم المجيد في الصمود والتحدي . فالتهديد الذي يطلقه الإعلام الشيعي العراقي من عمليات ثأر من الفلوجة وأهلها سيدفع الكثير من أهل الفلوجة إلى اختيار الانحياز لداعش بدلاً من الانحياز للقوات القادمة التي يعتقد أنها قوات تحمل الموت والدمار للجميع دون استثناء . وهذا الأمر دفع معظم سكان المدينة للبقاء فيها ، ليس لإجبار الدواعش لهم بالبقاء واتخاذهم دروعا بشرية كما يروج إعلام الحشد الشيعي ، ولكن لتفضيلهم للموت داخل مدينتهم بدلا من الموت تعذيبا وتقطيعا ومهانة على يد قوات الحشد الشيعي التي اعتبرت أهل المدينة كلهم من التكفيريين الذي يجب القضاء عليهم، وتم فعليا التنكيل بكل فلوجي استطاع الخروج من المدينة، واتهامه بأنه تكفيري مساند للدواعش .

إضافة إلى أن عناصر تنظيم الدولة تقاتل على أرض خبرتها وتعرفها جيدًا؛ الأمر الذي يجعل لهم السبق في المباغتة والتحرك داخل المدنية في عمليات حرب الشوارع التي من المحتمل حدوثها بعد تقدم القوات لداخل أحياء الفلوجة. والتنظيم استعد جيدا لهذه المعركة عبر إقامة شبكة قوية من التفخيخ للمنازل والمباني والطرقات في أحياء المدينة وما حولها، إضافة لشبكة من الأنفاق الدفاعية والهجومية التي سيستخدمها عناصر التنظيم في معركتهم ضد القوات المقتحمة للمدينة. وأيضا لا يوجد منفذ للانسحاب من الفلوجة إلى مناطق ثانية تحت سيطرته، وجود عائلات عدد غير قليل من مقاتلي التنظيم في داخل مدينة الفلوجة، الأمر الذي سيدفع بمقاتلي التنظيم للاستماتة في الدفاع عن المدينة .

وهناك عدة أمور تؤكد على نية الأمريكان والشيعة إبادة المدينة بمن فيها منها:
عدم وجود خطة لدى حكومة بغداد من الأساس من أجل إنقاذ المدنيين المحاصرين الواقعين بين مطرقة المعارك العشوائية المستمرة وبين نقص مستلزمات المعيشة والدواء بسبب الحصار الخانق المضروب عليهم منذ شهور ،فلا إمكانية للهرب من هذا الواقع ليظل مصير المدنيين مجهولًا للمراقب ، معلوما لمن يعلم حقيقة الصراع وأبعاده وخلفياته التاريخية والطائفية .

ومنها أيضا تراجع الحكومة عن وعودها في عدم مشاركة الحشد الشيعي في المعركة بسبب الحساسية المذهبية . لكن الحشد الشيعي أصر على المشاركة ورفع شعار "العملية نمر" وهو ما يُظهر البعد الطائفي الذي تخوض به مليشيا الحشد الشعبي المعركة،ورغم تأكيدات العبادي، فإنه لا توجد ضمانات لعدم مشاركة الحشد الشعبي في المعركة ودخول الفلوجة وتكرار سيناريو الجرائم التي ارتكبتها تلك المليشيات في معركة تكريت بغطاء طائفي .

وقد تأكدت هذه النية الخبيثة بعد إذاعة تصريحات لزعيم مليشيا أبو الفضل العباس التابعة لمليشيات الحشد الشعبي "أوس الخفاجي"، وصف فيها مدينة الفلوجة التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية بأنها بؤرة الإرهاب، وأن الهجوم عليها فرصة لتطهير "العراق والإسلام" في العالم مما وصفه "بورم الفلوجة" ، أن الفلوجة ليس فيها وطنيون ولا متدينون، وأن القتال فيها شرف لا بد من المشاركة فيه ونيله.


ورغم وضوح نية الانتقام وتصفية الحسابات القديمة في هذه المعركة، والصبغة الطائفية الواضحة في المواجهة إلا إنه يبقى أن الدافع الأهم في الهجوم على الفلوجة فهذه الفترة تحديدا هو إنقاذ البيت الشيعي من التداعي والانهيار.

فانطلاق معركة تحرير الفلوجة، جاء في ظل حالة من الاضطراب غير المسبوق التي تعيشها العاصمة العراقية بغداد، حيث تم اقتحام المجمع الحكومي "المنطقة الخضراء" للمرة الثانية على التوالي خلال شهرين كان آخرها الأسبوع الماضي، حينما اقتحم مؤيدو التيار الصدري مبنى مجلس الوزراء العراقي في رسالة تصعيد من مقتدى الصدر، وأنباء عن اقتراب صدام بين ميلشيات شيعية- شيعية في وسط العاصمة بغداد. في تجديد للصراع داخل البيت الشيعي في العراق.

فالصراع الشيعي - الشيعي في العراق له جذوره الدينية على الزعامة بين المرجعيات ذات التوجه العربي والمرجعيات ذات التوجه الفارسي، علمًا أن كلاهماعلى ولاء تام وخدمة كاملة للمشروع الإيراني ، وقد يصل التنافس إلى صراع واغتيالات فيما بينهم على الزعامة لما لها من رمزية وسلطة ومال، لكن دائمًا ما تضبط إيران إيقاعات الصراع حتى لا يصل لنقطة الصدام المنفلت عن قبضة التوجيهات والإرشادات .

فمثلا إيران دعمت ومولت عملية اغتيال المرجع الشيعي العربي عبد المجيد الخوئي في أول يوم لعودته إلى العراق على يد أنصار مقتدى الصدر الذي لم يكن وقتها مرجعا منافسا للخوئي بقدر ما هو صراعا على الزعامة استغلته إيران لتقليل المرجعيات العربية، إضافة إلى إزاحة المرجع ذي التوجه الفارسي محمد باقر الحكيم بعد 4 أشهر من الاحتلال أمام المرجع علي السيستاني ليتصدر المشهد، بسبب رفض الحكيم إصدار فتوى بعدم مقاومة الأمريكان، فقتل وجاء بعده السيستاني بفتواه الشهيرة بعدم مقاومة المحتل.

ومنذ انطلاق العملية السياسية في العراق تم حسم الخلافات والصراعات الشيعية - الشيعية التي تعتبر ما دون السيستاني، إلا أن مرض السيستاني وقرب موته قد فتح الأبواب أمام الصراعات الصفرية، فالمراجع ورجال الدين لهم صلات بالأحزاب ولدى تلك الأحزاب مليشيات تعمل داخل وخارج مؤسسات الدولة والجيش والشرطة. وهذا يفسر سر النشاط المحموم للتيار الصدري في الثلاثة شهور الأخيرة ضد حكومة العبادي والمليشيات الشيعية الكثيرة التي نشأت من رحم ما يسمى مكافحة إرهاب داعش في العراق.

وقد بدأت بوادر الصراع على الأرض عن طريق المليشيات عسكريًا والتظاهرات سياسيًا، فمليشيا سرايا السلام التابعة للزعيم الشيعي مقتدى الصدر التي ذاقت الأمرين في عهد نوري المالكي وصولة الفرسان الشهيرة سنة 2007، وهي مليشيا عربية معروفة مناطق انتشارها، وأقل همجية وعنف من غيرها من المليشيات الشيعية خاصة الجديدة منها ، ولم تشارك في جميع المعارك التي خاضتها فصائل.

الحشد الشعبي, وقد أغضب تهور الصدر واندفاعه وحبه للزعامة إيران فأوعزت لأحد معاوني الصدر وهو قيس الخزعلي الانشقاق عن التيار الصدر وتشكيل ميلشيات عصائب الحق وهو مليشيات شديدة التطرف والطائفية وتمثل رأس الحربة في مليشيات الحشد الشعبي في الأنبار .

فالصدر عدو للمالكي خادم إيران الأمين والمنفذ الأمثل لسياساتها بالعراق ، وهو يعارض كل سياسات وتوجهات المالكي بما في ذلك تلك المعنية بالهيمنة الإيرانية ، والصدر ميال إلى الدولة ويمكن توظيفه بخدمتها أمريكيًا، فكانت التظاهرات التي تزعمها تياره وهو على خلاف وصراع مع منظومة الفوضى التي أصبح يمثلها المالكي والعامري على وجه الخصوص، وقد دفعه اندفاعه إلى غضب إيراني سخر بعض المليشيات لضرب مدينة الصدر معقل التيار الذي يتزعمه، وقد شهدت الأشهر القليلة الماضية اغتيالات وصدامات متبادلة بين فصائل سرايا السلام وعصائب أهل الحق المنشقة عنها . مما أدى لوصول الخلاف داخل البيت الشيعي لمستويات خطيرة من الاحتقان المؤذن بالانفجار والانهيار.

كل ذلك دفع العبادي لنزع فتيل الأزمة بدفع الكرة خارج الإطار الداخلي للبيت الشيعي بعدو مشترك تجتمع عليه جميع الأطراف، الأمر ذاته الذي وجده الأمريكان وسيلة جيدة للحفاظ على العملية السياسية العراقية التي بدأت تترنح، الأمر الذي لا تريده طهران وواشنطن في نفس الوقت من خلو بغداد من حكومة موالية للطرفين ، وهو ما يتمثل ولو مؤقتا في بقاء حكومة العبادي بهيئتها القائمة ، ولو كان ثمن هذا البقاء هو دماء وأشلاء آلاف العراقيين من أهل السنّة الذين لا بواكي لهم ، ولم يبق لهم بعد خذلان الشقيق وعدوان البغيض سوى اللجوء إلى الله عز وجل أولا ، ثم إلى بنادقهم وسواعدهم والكفاح والصمود حتى النهاية ثانيا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق