الثلاثاء، 17 مايو 2016

«حساب المحرّضين» لم يحرّض إلا على السعودية!

«حساب المحرّضين» لم يحرّض إلا على السعودية!

أحمد بن راشد بن سعيّد



«لم يكن مفهوم الجهاد عند المجتمع السعودي قبل أكثر من ثلاثة عقود سوى قصص تاريخية تُروى عن غزوات العالم الإسلامي». 

هكذا استهلّت قناة العربية عرضاً لها الخميس الماضي أسمته «حساب المحرّضين» وتناولت فيه ما أسمته «تحريض» دعاة وخطباء مساجد على الذهاب إلى «مناطق النزاع» من أجل «الجنّة والحور العين».
بدا الاستهلال ركيكاً وخبيثاً في آن.عبارة «أكثر من ثلاثة عقود» غامضة ومطاطة، فقد تكون هذه الفترة ألف عام مثلاً.
كما أن اختزال الجهاد في «قصص تاريخية» يحوّله إلى ما يشبه الأساطير وهو ما أرادته القناة التي تعمّدت الإشارة إليه بـ «غزوات العالم الإسلامي» - تعبير هلامي قصدتْ به الالتفاف على غزوات النبي صل الله عليه وسلم وحركة الفتوحات.

كانت القناة ترمي تحديداً إلى سلسلة كتب «صور من حياة الصحابة» التي كانت تٌدرّس في مدارس وزارة المعارف، وتُقدّم بصوت كاتبها، عبدالرحمن الباشا، في إذاعة الرياض، وهو ما يتماهى مع مزاعم نشرتها سابقاً جريدة الرياض لكاتب من تيار «العربية» اسمه محمد المحمود وصف فيها الكتاب بـ «المشروع الساذج» و «المزيّف» الذي لم يرسم سوى «الصورة الملائكية» لجيل الصحابة، خدمة لـ «مشروع الإسلام السياسي». 
الجهاد، بحسب المحمود، كان مدفوعاً «بأحلام الغزو والسلب والاسترقاق» والقائمون به من الصحابة «أقل منا...»، بل إن «أخطاءهم كانت كبيرة جداً...لا يمنع من رؤيتها إلا وهم القداسة..»(22 تشرين الأول/أكتوبر 2009).

أعادت «العربية» في عرضها ما يدعم هذه الرواية، فقالت إن مفهوم الجهاد لدى السعوديين تغيّر بعد انتشار أشرطة كاسيت «تتضّمن قصصاً خيالية لبطولات في ميادين القتال».
من المثير للسخرية، أن «العربية» قالت إن التحريض على الجهاد «كان يجري بشكل يومي عبر خطب حماسية»، وهل يشهد المسلمون في الأغلب إلا خطبة الجمعة؟ التقت القناة بأحد السجناء وأخذت عنه ما تشتهي: تأثرت من خطيب جمعة «كان يحرّض ويبكي، ويقول إن أخواتنا تُنتهك أعراضهن في العراق ونحن جلوس، وأطفالنا يُقتّلون ونحن لا نحرّك ساكناً» مضيفاً بسذاجة لافتة: «ما كنت أتصور أن الإنسان...يتباكى. كنت أتوقع أن من يبكي يبكي بصدق».
ربما لم يسمع السجين ولا «العربية» بقول المتنبي:
إذا اشتبهتْ دموعٌ في خدودٍ/تبيّن من بكى ممّن تباكى!

لكن
ما التحريض الذي دفع «الضحية» إلى الجهاد؟
هل قصُّ ما يجري في العراق أو الشام على مسامع المصلين مصحوباً بالبكاء (وهو حيلة العاجزين والمقهورين) تحريض على العنف؟
وهب أن الشيخ «حرّض» بالفعل على نصرة المستضعفين بالنفس، فهل هو بذلك حَقَن الجمهور بإبرٍ مخدّرة (كما تزعم نظرية الوخز السحرية) فانطلق مجاهداً؟ لماذا أسلم له عقله؟
أليست «كل نفس بما كسبت رهينة»؟ الحقيقة، كما تقول دراسات الإقناع، أن المتلقّي يشارك في عملية إقناع ذاته، من خلال تشكيل استجابة لاستمالات المُقنِع، الذي يداعب قلب المتلقي كما يداعب العازف الوتر، وعلى المُقنَع مسؤولية «تبادلية» في الاستجابة أو الإعراض. ومهما يكن من أمر، فإن ملايين السعوديين يشهدون باستمرار خطباً تتناول عذابات السوريين والعراقيين، فيحترمون إرادة الدولة، ولا يندفعون إلى سُوح القتال. باختصار، حصر المشكلة في «التحريض» تسطيح، وحصر «التحريض» في الخطباء تحامل، وتسمية كل ذلك «وثائقياً» ذروة الاستخفاف بالعقول.

‏‏ارتكبت «العربية» خطيئة كبيرة عندما أوردت في سياق الإرهاب حديث النبي صل الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعِينة» إلى قوله «وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»، وكذلك فعلت بالقول الذي مؤدّاه إنّ ترك الجهاد ذل، وهو قول الصدّيق.
 لم تخرج مسرحية «العربية» عن سياق استعداء السلطة على أئمة وخطباء استناداً إلى رواية يتيمة لسجين، أي أن القناة رمت من تعاديهم بدائها وانسلّت.
كل التهاني لأعداء المملكة بهذه اليد التي أسدتها إليهم القناة بعد هديتها السابقة «حكاية حسن». 
«حساب المحرّضين»‬ لم يحرّض إلا على السعودية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق