مصر بين أصابع الموت
سأحكي لكم قصة أربعة أصابع، تم استيقافي بسببها أكثر من سبع ساعات في مطار جي إف كيندي، في زيارتي الأولى للولايات المتحدة.
وضع موظف ختم الدخول على جواز سفري، لكنه أبلغني أني سأمر على"المكتب" سريعاً قبل أن أنصرف.
وهناك، سألني آخر عن سبب زيارتي، فقلت دعوة للمشاركة في محاضرة علمية في جامعة نيويورك، عن دراما 2013 السياسية في مصر، وتجربة محمد مرسي المجهضة.
طلب مني حساباتي على "فيسبوك" و"تويتر" و"واتساب" والبريد الإلكتروني، وحين لمح رمز الأصابع الأربعة "رابعة" في صورة بروفايل صديق، تبدّلت ملامحه، وبدأ الموضوع يأخذ بعداً آخر، ودخلنا في تحقيق طويل وممل، سأحكي قصته في وقت لاحق، غير أن ما أدهشني سؤاله: لماذا هذه الإشارة ومعناها، وعلاقتها بالإخوان المسلمين، وأسئلة كثيرة، كان ردّي أنها إشارة أو رمز يضعه كثيرون حول العالم، تعبيراً عن انحياز إنساني بالأساس، وليس انحيازاً سياسياً لفصيل سياسي أو تيار أو حزب.
غير أن نظاماً سياسياً مجنوناً في مصر بات يصنف كل من يرفع هذا الشعار احتجاجاً على أكبر مذبحة جماعية للسلطة في تاريخ مصر الحديث، وتعاطفاً مع ضحاياها، باعتباره من "الإخوان المسلمين"، حتى إن إعلام هذا النظام قال عن باراك أوباما وديفيد كاميرون إنهم إما خلايا إخوانية نائمة، أو متعاونان مع "الإخوان"، وأضفت ساخراً: يمكن لكريستيانو رونالدو أن يسجل "سوبر هاتريك" أربعة أهداف في مباراة، فيرفع يده مشيرا بالأربعة، فيوضع على قوائم الاتهام بالإخوان.
في مصر الآن يصفّى المعارضون، من دون عقوبة، يستوي في ذلك المصري والسائح الأجنبي، كما حدث مع الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، بالأسلوب نفسه الذي اختفى به مئات المواطنين قسرياً، ولم يظهروا حتى الآن.
تحت حكم نظام السيسي، تتحول مقار الاحتجاز إلى مدافن للموتى، وفق تقرير لجنة العدالة في المرصد المصري للحقوق والحريات بعنوان "مدافن أم سجون"، والذي أكد انتهاكاتٍ أدت إلى وفاة 395 حالة، منذ 30 يونيو 2013 وحتى نهاية مارس 2016.
في ظل هذا النظام، لا تعرف مصر منظومة عدالة بالمعنى الدقيق المحترم لكلمة عدالة، فالقاضي يعبر عن مشاعر كراهية المتهمين، قبل أن يمثلوا أمامه.
ووزير للعدل يعلن عبر الإعلام أنه يريد أن يشرب دماء آلاف المعارضين، كي يطفئ نار غضبه على الجنود المساكين الذين يسقطون ضحايا إرهابٍ استدعته السلطة في سيناء.
هذه هي حالة مصر السيسية، بعد ثلاث سنوات من انقلابه، والسيسي هنا ليس ذلك الشخص الذي وصل إلى رئاسة مصر، فوق آلاف الجثث، بل جمهور التفويض بالقتل والحرق والإبادة، ومطاردة مصريين مثلهم، في المطارات والموانئ، وقاعات المحاكم، والنقابات المهنية، كما رأينا تلك المليشيات الراقصة، في قاعة محمد حسنين هيكل في مبنى جريدة الأهرام، وفي محيط نقابة الصحافيين، وهي تلف حول خصورها أحزمةً ناسفةً لكل قيمة محترمة ومعنى نبيل.
قرّرت "المليشيا الحاكمة" اعتماد مصطلح "الحرب على الإرهاب"، للتغطية على ما فات من جرائم، وما هو آتٍ.
وفي ذلك كله، كانت جماهير المعارضة الأكثر تحضّراً، فلم تقاوم الإرهاب السلطوي بعنف، فكان أن قرّر النظام استدعاء التنظيم، في سيناء، حلاً وحيداً للهروب من الفشل والعجز والبلادة في إنجاز شيء من قائمة الأكاذيب القومية الكبرى التي أعلنوا عنها في مناسباتٍ عدة.
أكرّر، هنا، أنني مثلك، وقبلك وبعدك، وأكثر منك، أدين الإرهاب في كل مكان، وفي كل وقت، وبكل العبارات، البليغة منها والركيكة، المباشرة وغير المباشرة.. وأتألم للدماء التي سالت، أمس، في حلوان، كما تألمنا جميعا لدماء الخمسة الذين ذبحوهم لصناعة كذبة تنطلي على إيطاليا، تغلق ملف ريجيني، ولدماء بائع الشاي، ولدماء رابعة وغزة وحلب.
كل هذا مدان، ومجرّم، ويدعو إلى القرف من هذا المصير البائس للإنسانية، والتردّي الحضاري غير المسبوق في حياة العرب، ولكن..
إذا كنت تدين إرهاب التنظيمات المتطرفة، فماذا عن إرهاب الأنظمة الأكثر تطرفاً وإجراماً؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق