ألف يوم على المذبحة
وائل قنديل
مع مرور ألف يوم على جريمة نظام عبد الفتاح السيسي في ميدان رابعة العدوية، يرتكب النظام مذبحة قضائية جديدة، بإصدار أحكام بالإعدام على صحافيين وإعلاميين، في الملهاة المعروفة إعلامياً بقضية التخابر مع قطر.
قفزت المحكمة على الأسماء الأربعة الأولى في القضية، وحكمت بأقصى العقوبة على الإعلاميين، في اللحظة التي تحاصر فيها جحافل السلطة مقر نقابة الصحافيين، وتعلن أن السيسي لن يعتذر ووزير داخليته لن يُقال.
صدور الحكم بهذه الطريقة، وبهذه الأحكام المغلظة، يهدف إلى إظهار العين الحمراء للجماعة الصحافية، وللمجتمع المدني بأسره: نحن ماضون في الإجرام، هكذا تكلم النظام من فوق منصة القضاء، ومن يقاوم لن يكون مصيره أفضل حالاً ممن قاوموا في "رابعة العدوية" قبل ألف يوم.
جن جنون السلطة، وهي ترى ما اعتبرتها "أذرعها" الممدودة لإخصاء الوعي، وترويج الكذب، وتسييد الرداءة والقبح، تخرج عن طوعها وتتمرّد، وتعلن العصيان والاحتجاج، فلجأت إلى الأسلحة نفسها التي استخدمتها في تنفيذ جريمة القرن في "رابعة العدوية"، من تشويه وتخوين وإطلاق مجموعات البلطجة، وصولاً إلى الذروة، باستعمال آلية "الصدمة والرعب".
فلنتذكّر ما جرى قبل فض "رابعة"، لنرى كيف وإلى أي مدىً تخاف السلطة الإعلام وتكرهه، وتصنفه عدواً أول، إن لم يكن تحت نعالها.. فقبل سبعة أيام من تنفيذ جريمة فض اعتصام "رابعة العدوية"، كان واضحاً أن كل سهام الترويع الأمني والتشويه الأخلاقي ومحاولات الترويض بالصفقات لرافضي الانقلاب تكسّرت على صخرة هذا الصمود الرائع والاستبسال غير المسبوق للمعتصمين في الميادين.
ذلك أن نوافذ إعلامية، في مقدمتها شبكة الجزيرة، خاطرت وحاولت نقل الحقيقة، قدر استطاعتها، من داخل الاعتصامات، الأمر الذي أفسد على السلطة طبختها، وجعل خارطة الرفض والاحتجاج والغضب تتسع، وتجتذب فئات جديدة، حتى كادت تلتهم "خارطة الطريق" التي أراد الانقلابيون أن يجري التعامل معها كنص مقدس، لا يجوز مناقشته، أو الاقتراب منه.
لم تتحمل مؤسسة الانقلاب أن يتحدّث أحد بموضوعية عن ذلك الاحتشاد المذهل في الميادين، واستشاطت غضباً، عندما أظهرت الصورة الحقيقية أنه لا يخصّ جماعة الإخوان المسلمين، أو الإسلام السياسي فقط، بل هو غضب شعبي عارم، ضد انقلاب عسكري يمتطي ثورة مضادة.
وقد قلت، في ذلك الوقت، إن حالة العنصرية في التعامل مع معتصمي "رابعة" و"النهضة" بلغت حداً غير مسبوق في تاريخ عمليات غسيل المخ في العالم، حيث يسلك صانعو ومروجو هذا النوع من الدراما السوداء عن مجتمع المعتصمين، وكأنهم يخاطبون شعباً من الأطفال البلهاء، يستخدمون معه أساليب التنويم بالفزاعات، كما يحدث مع الصغار، عندما يريدون إدخالهم للنوم في فراشهم، تحت وابلٍ من حواديت الليل المرعبة.
غير أن حزمة الأكاذيب المستخدمة على مدار أسابيع عدة لم تستطع صناعة صورة شيطانيةٍ لاعتصامات معارضي الانقلاب، واستطاعت هذه "الإشارة" أن تنقر على زجاج الضمير، فتستدعي شرائح وفئات متنوعة من كل مكان، جاءت إليها مختارةً معلنةً التضامن، ومعبرة عن حالة إنسانية، على الرغم من كل الملوثات الإعلامية والفزاعات الأمنية والخزعبلات السياسية التي كانت تسكب في أدمغة الناس كل يوم.
بعد ذلك، تحولت عملية إطلاق الأكاذيب إلى نوعٍ من الهلاوس، مع التسريبات الخاصة بتحرّك القوات لافتتاح الحرب ضد الاعتصام، وصولاً إلى الجريمة الكبرى، في الرابع عشر من أغسطس/ آب 2013، والتي استطاعت "الجزيرة" أن تنقل فصولها، فكان قرار الانتقام منها، ومن أي إعلامٍ يزعج سلطةً تتغذى على دماء الثورة، وتصنع من عظام البشر كراسيها.
أمس، انتقمت السلطة، باستخدام قضائها، من "الجزيرة"، رافعة رأس الذئب الطائر في وجه من يجرؤ على قول الحقيقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق