باسم يوسف وكسّابة بعزق
عبد الحكيم حيدر
كان بعزق حلّاقاً، لكنه لم يهتم بالحلاقة، ولم يكن له دكان، وكان مطرباً في الأفراح (الفقايري)، لكنه كان دائما في الخلفية، حينما ينشرخ الغناء في حنجرة (المطربة فكة) من تأثير الكِيف والدخّان، فكان يقوم بباقي الجملة، إلى حين أن تزيح (فكة) البلغم.
وكانت له ربابة لا يعمل عليها إلا في مواسم القمح والفول، وأحياناً كان يرقص مع النساء في (السحجة)، وكان في مواسم الدميرة يلعب السيجة، أو يلف السجائر لفكة، أو يسافر إلى بيوت أخواله في (ببا)، وكان دائماً يقول: (أجدع فتوات فيك يا بني سويف شفتهم في ببا).
الغريب أنه كان يعمل (سقّا) في الأسواق، ولا أعرف كيف جمع بعزق بكل هذه المهن مرة واحدة.
واضح أن البرجوازية المصرية (تبعزقت) بكل أطيافها، وخصوصاً في فترة الرئيس محمد مرسي، فجاءوا بأناسٍ من المقابر محللين استراتيجيين، فخرجت هالة سرحان ترقص، وتقول (مين قالك تسكن في حارتنا، يا تشوف لك حل في حكايتنا، لا تعزل وتسيب حتتنا)، وخرج باسم يوسف بطاقيةٍ أمام دار القضاء، وكان ناقص فقط المطربة (فكة). كيف لا، ومرسي فلاح، وقد جاء إلى المدينة كي يحكمنا. كانت لبعزق الحقيقي عادة غريبة في مواسم القمح والفول، فكان يذهب إلى الحقول لأخذ (حسنته) من خير الأجران، وكان الفلاح الذي لا يعطيه يجعل بعزق يصرخ منادياً على الجسور، أن فلاناً ابن فلان وجدوه قتيلاً في الترعة أو غيطان القصب، فيذهب أهل الفلاح إلى الغيطان، أو إلى الترعة حزانى كي يروا ابنهم القتيل، فيجدونه في الغيط يضحك، ويشرب الشاي، أو لا قتيل في الترعة ولا شيء.
ولا تنس أن بعزق أيضاً كان ينادي نظير قرش أو قرشين على الجِديان، أو النعاج التائهة، أو العيال الصغيرة التائهة أيضاً.
تغيرت أحوال الدنيا وتبدلت، وفتحت ليبيا في أوائل السبعينيات أبوابها (سلكاوي) على الجميع، وامتلأت البلد بالفانلات (الهالانكة)، حتى إن مطرباً ليبياً ظهر فجأة في حفل المطربة وردة، فقال بعزق في المقهى (إن المطرب الليبي هيرش على الجماهير فانلات هالانكة).
بعدها بسنوات، تضعضع الحال ببعزق، وحازت حفلات وردة، وهي تكزّ على شفتها بحرقةٍ وهي تغني، وعبد الحليم حافظ ومحرم فؤاد على جموع الجماهير، فقلّت الأفراح وانزوى بعزق، إلا أن يُنادي على جديٍ، أو نعجة شاردة عن الغنم أو مسروقة، وانتشرت التلفزيونات في البلد مع المسجّلات، فتحوّل بعزق شخصاً حزيناً بقربته في الأسواق.
وفي النهاية، سمعنا أنه سافر لكي يسكن مع أولاد أخواله في بني سويف، وكانت كل آنٍ تأتينا بعض أخبار بعزق غير المؤكدة أحياناً، وأحياناً ما تكون ضاحكة، مثل أن شخصاً شاهده في (ببا)، وقد صار يمتلك محلين لعصير القصب، أو أنه تزوج من بدوية عندها (قطفة) غنم، أو أنه سافر إلى أبو ظبي مع أولاد خاله، ويعمل هناك في تجارة القماش، وبنى بيتاً بالطوب الأحمر في (ببا)، إلا أن بعزق، بعد سنوات قليلة، جاء ومعه على ظهره (كسّابة)، كان ينصبها ليلاً للعب، وفي النهار كان يلف في الأجران بالبالونات الملونة.
في الأعياد، كان بعزق ينصب الكسّابة فوق الترابيزة، ويلتف حوله الكبار والصغار، وفي يده كباية من الجلد فيها زهر، ومرسوم فوق رقعة الكسابة (الهلب والقلب والتريس وأبو ديل).
صحيح أن ماء غزيراً كان يخرّ من عيون بعزق، حينما يضحك، وينادي على الكسبان، وخصوصاً حينما يكون قد وضع فلوسه على (أبو ديل)، قائلا: (مين أبو ديل؟)، وكان يطلق نكتةً من هناك أو من هنا، وفي آخر الليل، كان يشيل كسابته على ظهره، مع عودين قصب، وينام على مصطبة (بيت فكة)، بعدما شحّ نور بصرها، وكفّت تماماً عن الغناء.
لا أعرف لماذا تذكّرت بعزق، حينما رغبت أن أكتب عن (بعازق) مصر وبرجوازيتها، بعدما (تبعزقوا) في البلاد والقارات، وخصوصاً وهم من حملة الدكتوراة وأصحاب شهادات عالية جداً، وخصوصاً حينما حينما تركوا شهاداتهم وراء ظهورهم، واكتفوا بترقيص الحواجب، واشتغلوا مع (فكة وبعزق).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق