فهمي هويدي
أسخف وأوقح ما قرأت في الأسبوع الماضي كانت تصريحات نشرتها صحيفة «هاآرتس» يوم 25/5 لرئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير قال فيها: إذا وافقت حكومة نتنياهو على التفاوض مع الفلسطينيين على أساس مبادرة السلام العربية، فستكون الدول العربية مستعدة للقيام بخطوات لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
أشارت الصحيفة العبرية إلى أن بلير أثار الموضوع في مؤتمر عقد بلندن ذكر فيه أنه في ظل الواقع الحالي بالشرق الأوسط، هناك فرصة لأن توافق الدول العربية على تخفيف خطوط مبادرة السلام العربية، بحيث يتم تطبيع العلاقات مع إسرائيل خلال المفاوضات، وليس بعد تحقيق الاتفاق الدائم بين إسرائيل والفلسطينيين.
أضاف بلير قوله: «إذا وافقت إسرائيل على الالتزام بالتحدث حول مبادرة السلام العربية كسياق تجري في إطاره المفاوضات، ستتمكن الدول العربية من القيام بخطوات لتطبيع العلاقات في أثناء المضي على ذلك الطريق لزيادة الثقة في عملية السلام.
من حيث المبدأ فإنه حين يكون المتحدث هو توني بلير خصم العرب التقليدي الذي يقوم بدور مشبوه لحساب أطراف ليست فوق الشبهة، فلا ينبغي أن ننتظر منه خيرا، وإذا صحت التصريحات التي نقلتها هاآرتس على لسانه، فذلك يعني أنه أسفر عن وجهه بجرأة خانه فيها ذكاؤه، لأنه استخدم المبادرة التي تبنتها القمة العربية في عام 2002 وتعامل معها باعتبارها غطاء لخطته الساذجة لتمكين إسرائيل والتطبيع العربي.
ذلك أنه لم يتحدث عن موافقة إسرائيل على المبادرة التي دفنت وشبعت موتا، وإنما أشار إلى مجرد استعدادها للكلام في الموضوع والتفاوض حول المبادرة، «بعد تخفيف لشروطها» من الجانب العربي بطبيعة الحال. وفي أثناء الحكي الذي نعرف مقدما أنه يمكن أن يستمر حتى تقوم الساعة، فإن الدول العربية ستتطوع بالتطبيع بغير مقابل، وقبل أن تظهر أي نتائج للمفاوضات المفترضة.
بكلام آخر، فإن العرب سيتنازلون عن شروط المبادرة بدعوى «تخفيفها»، وسيبادرون إلى الانبطاح أمام إسرائيل والتطبيع المجاني معها، بالتالي فإن التنازلات ستظل من جانب العرب ومقصورة عليهم، أما المكاسب والمغانم، فستكون من حظ الإسرائيليين وحدهم.
إذا أردت أن تعرف لماذا اعتبرت أفكار توني بلير سخيفة ووقحة، فأعد قراءة نصوص المبادرة كما أقرتها القمة العربية قبل 14 عاما، ذلك أنها اشترطت ثلاثة شروط لاعتبار الصراع منتهيا والدخول في اتفاقية سلام مع إسرائيل، تؤدي إلى تطبيع العلاقات معها هذه الشروط هي:
1ــ الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك الجولان السوري، وحتى خط الرابع من يونيو عام 1967، والأراضي التي مازالت محتلة في جنوب لبنان.
2ــ التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194.
3ــ قبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، منذ الرابع من يونيو عام 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتكون عاصمتها القدس الشرقية.
حين يقول السيد بلير إن العرب «سيخففون» من هذه الشروط أولا، فهو يشير بصيغة ضمنية إلى إلغائها، وتغطية الإلغاء بعبارات يتم فيها التلاعب باللغة. وذلك يضعنا أمام أحد احتمالين، فإما أن يكون ذلك مجرد اقتراح من جانبه، وتلك هي الوقاحة بعينها، وإما أن يكون الرجل قد نسق المسألة مع الأطراف المشبوهة التي يتعامل معها، وتلك جريمة تاريخية لا تغتفر.
وفي الحالتين فإننا نصبح إزاء مؤامرة مدبرة لحساب إسرائيل، تمكنها من اصطياد عصفورين بحجر واحد، أحدهما دفن القضية الفلسطينية والقفز من فوقها، والثاني تطبيع العلاقات مع العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، وفي هذه الحالة الأخيرة فمن حقنا أن نعرف هوية الأطراف العربية التي تواطأت معه فيما ذهب إليه.
من المصادفات ذات الدلالة أن نشر هذا الكلام تم متزامنا مع تشكيل حكومة فاشية وإرهابية إسرائيلية، قوامها تحالف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مع وزير الجيش الجديد أفيجدور ليبرمان، صاحب الدعوة إلى هدم السد العالي ومحو قطاع غزة وتحويله إلى ملعب لكرة القدم، وهي الحكومة التي وصفت بأنها الأكثر تطرفا في تاريخ الدولة العبرية، حيث لم يختلف أحد على أن الدم الفلسطيني سيصبح الوقود اللازم لاستمرارها، وكتب أوري إفنيري في هاآرتس (عدد 25/5) واصفا تلك الخطوة بأنها جنونية ومعتبرا ضم ليبرمان للحكومة بحسبانه عملا انتحاريا، وخلص من ذلك إلى أن نتنياهو الذي لا عهد له، فقد توازنه وصلته بالواقع.
لقد راهنا في وقت سابق على الدور العربي في تحرير فلسطين، لكننا صرنا نتمنى الآن أن يكف الجميع عن العبث بالقضية والمتاجرة بها، بحيث يرفعون أيديهم عنها، ليتولى الفلسطينيون تدبير أمرهم بأنفسهم، وقد أثبتت أجيالهم الرائعة أنهم قادرون على ذلك، حيث لا مفر من الاعتراف بأن القضية التي كانت هما عربيا حينا من الدهر، انقلبت موازينها بحيث أصبح الدور العربي هما فلسطينيا مؤرقا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق