طرد المصريين والحكومة من قلب القاهرة
عامر عبد المنعم
يبدو أن القاهرة على موعد مع عمليات تهجير وإخلاء للسكان لا تقل بشاعة عن إخلاء مدينة رفح؛ فهناك أحياء سيتم محوها وتشريد سكانها، وأحياء سيعاد تخطيطها لإزالة أجزاء منها، وتقليل سكانها، ومنطقة وسط البلد سيتم إخلائها من سكانها وطرد الحكومة المصرية منها، لبيعها للمستوطنين الجدد من الأجانب، لتأسيس محمية أجنبية أشبه بالمنطقة الخضراء في العراق، تديرها الشركات متعددة الجنسيات، ويبدو أن من خططوا لإعادة تقسيم القاهرة وتغيير هويتها يستعجلون التنفيذ.
ما يجري في القاهرة وعموم مصر ليس سياسات وإجراءات نتيجة تخطيط محلي، وإنما تنفيذ متسارع لمشروعات ومخططات، تقف خلفها دوائر خارجية، مرتبطة بالكيان الصهيوني، تعمل على تفكيك الدولة المصرية وإضعافها، مع عودة السيطرة المباشرة على المناطق الحيوية المتحكمة في مفاصل الدولة المصرية، باسم الاستثمار وتمكين الشركات العالمية الكبرى من إدارة مصر، على أنقاض الدولة المركزية المصرية التي يتم تفكيكها الآن.
عقب حريق منطقة الرويعي بالعتبة، أعلنت محافظة القاهرة أنها بصدد نقل 21 منطقة تُجارية بحي وسط القاهرة إلى الصحراء، وذكر نائب المحافظ أسماء المناطق التي قررت الحكومة إخلائها من بينها شارع الأزهر وخان الخليلى والنحاسين والقماشين، والسروجية والخيامية والبطانية، ودرب السعادة والمناصرة ودرب البرابرة، والحمزاوى الصغير والكبير والغورية، وفي اليوم التالي اشتعلت الحرائق في منطقة الغورية؛ الأمر الذي أثار الشبهات حول الحرق العمد.
وفي أول خطاب لعبد الفتاح السيسي بعد الحرائق، بمناسبة افتتاح بعض المشروعات في مدينة بدر، تجاهل الإشارة من قريب أو بعيد لما جرى في العتبة والغورية، ولم تصدر منه كلمة مواساة للضحايا أو إعلان التضامن مع التجار والمواطنين الذين أضيروا في الحرائق،
بل فوجئ المصريون بالسيسي، في هذا الخطاب، يعلن عزم الحكومة على إخلاء وتطوير المناطق العشوائية في القاهرة خلال عامين على الأكثر، في تأكيد على أن الموقف الرسمي لإخلاء بعض أحياء القاهرة مسألة ملحة وقضية ضاغطة، حتى أن رموز الدولة لم يراعوا مشاعر المواطنين المضارين في العتبة والغورية.
مستوطنة أجنبية
محور مخططات تطوير القاهرة التي وضعتها دوائر غير مصرية هو تفريغ منطقة وسط البلد، وإخلائها من السكان وطرد الحكومة المصرية منها، وبيعها بالكامل للمستثمرين.
يريدون تأسيس مستوطنة مغلقة للأجانب تتوسع على مراحل، لتشمل معظم أحياء القاهرة شرق النيل، وستسند مسئولية الأمن في هذه المنطقة لشركات الأمن الخاصة التي ستشكل جيوشا من المرتزقة الأجانب ومن الشباب المصري العاطل، تدار بشكل مباشر من تل أبيب ونيقوسيا وباريس ولندن وواشنطن.
تعمل مخططات التطوير على إحياء ما تسميه بالمنطقة المركزية للقاهرة الكبرى وإعادتها إلى شكلها الأوربي في عهد الخديوي إسماعيل، لتحقيق شعارات رنانة مثل تحويل القاهرة إلى عاصمة عالمية، ومدينة عصرية، ومتحف عالمي، بإزالة الأحياء السكنية، وبيع كل مباني الحكومة وإنهاء وجودها.
وحددت الرؤية المستقبلية للقاهرة عدد 10 شركات متعددة الجنسية ستنقل مقارها الرئيسية للمنطقة المستهدفة بوسط البلد بالإضافة إلى مكاتب إقليمية لأكبر 2000 شركة عالمية.
يعمل المخطط على انتزاع الأراضي على كورنيش النيل من شبرا الخيمة مرورا بماسبيرو ومصر القديمة وحتى حلوان، لتحويل الضفة الشرقية لنهر النيل إلى أبراج وناطحات سحاب، تملكها الشركات متعددة الجنسيات.
وسيتم تشكيل مجلس أعلى لحكم المحمية بشكل مستقل عن سلطة الدولة يضم المستثمرين والشركات التي ستنتقل إليها ملكية العقارات والأراضي في هذه المنطقة، وسيصدر قانون خاص لإدارة هذه المنطقة ذات الطبيعة الخاصة لكونها ستخضع للنفوذ الأجنبي.
التركيز في المرحلة الأولى على ما تسميه مخططات التطوير"القاهرة الخديوية" وتضم ميدان التحرير وميدان رمسيس والعتبة وعابدين وجاردن سيتي، يليها عملية توسع لابتلاع ما يسمى بالقاهرة الفاطمية، ثم القاهرة الإسلامية لضم منطقة الأزهر والحسين والقلعة والمقابر وما بعدها.
ولأن كل شيء مدروس بشكل محكم بدأت الشركات الأجنبية تشتري العمارات والعقارات بوسط القاهرة من خلال شركات مصرية بالوكالة، وبالفعل استطاعت هذه الشركات شراء عدد كبير من العمارات القديمة، وأخلتها من السكان، بأساليب وحيل قانونية وتعويضات، وتم إغلاق عشرات البنايات بعد طرد سكانها.
ومن الشركات التي تشتري العقارات بهذه المنطقة شركة مرتبطة برجل الأعمال سميح ساويرس، وما تزال عمليات السيطرة على كامل المنطقة جارية، وفي انتظار الخطوة الأخيرة من الشركات العالمية التي تم تحديدها لشراء ممتلكات ومقار الحكومة التي سيتم إبعادها إلى صحراء العين السخنة.
وموضوع العاصمة الإدارية الجديدة يستخدم كغطاء ومبرر لعملية الخروج الكبير للدولة المصرية من قلب القاهرة؛ فالمكان لا يصلح كعاصمة، وإنما هو مجرد حي إداري لن يكتمل؛ لأسباب عديدة منها أن الوزارات السيادية لن تنتقل إلي العين السخنة، لخطورة المكان استراتيجيا؛ فالأرض مكشوفة أمام العدو، وتستطيع القوات الإسرائيلية تطويق المكان في ساعة من الزمن.
المشروعات والمخططات
بدأت مشروعات تخطيط القاهرة تظهر بداية منذ عام 2008 عن طريق الهيئة العامة للتخطيط العمراني، وتبناها جمال مبارك، من خلال الحزب الوطني ولجنة السياسات، واعتمدها أحمد نظيف رئيس الوزراء الأسبق، وعرف المشروع باسم " القاهرة 2050" وبعد ثورة يناير تم تغيير الاسم إلى مصر2050 ثم مصر 2052 للإيحاء بأن التطوير يشمل كل مصر وليس القاهرة فقط؛ إلا أن تغيير الاسم جاء بسبب الانتقادات التي وجهت لمشروع جمال مبارك، وكذلك – وهو الأهم- لإدخال بعض التعديلات الضرورية مثل ضم مشروع فاروق الباز المعروف باسم "ممر التنمية" للتحكم في حركة السكان الذين سيتم نقلهم من شرق النيل إلى غرب النيل، وحصرهم في شريط ضيق مسيطر عليه يتراوح بين 20 :30 كم غرب النهر، حتى لا يتجه السكان إلى قلب الصحراء الغربية ويفسدون مشروع برنارد لويس الذي يعمل على فصل غرب مصر كدولة قبطية صهيونية عاصمتها الإسكندرية.
ومع تغير الوضع السياسي منذ 3 يوليو 2013 عادوا إلى التركيز على القاهرة مرة أخرى، فهي الهدف الاستراتيجي، وهناك استعجال واضح للتنفيذ في أقل وقت ممكن، فعاد المشروع بأسماء جديدة مثل" الرؤية الاستراتيجية لتطوير منطقة القاهرة الكبرى" ثم تعديل الاسم إلى " المخطط الاستراتيجي لتطوير منطقة القاهرة الكبرى" وفي آخر طبعة أطلقوا على المشروع " إستراتيجية التنمية العمرانية للقاهرة الكبرى"، ورغم تعدد الأسماء فإن المشروع واحد لم يتغير.
الجهة التي تقف خلف المخطط
رغم ما يبدو أن هيئة التخطيط العمراني كمؤسسة حكومية هي التي تقف خلف مشروع تطوير القاهرة، فإن الجهة التي وضعت المشروع بكل تفاصيله هي "برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية" ومقره في العاصمة الكينية نيروبي، وهذا يثير الكثير من التساؤلات حول هذه الجهة، ولماذا تترك لها الحكومة المصرية عملية التخطيط العمراني للعاصمة؟ فإسم هذه الجهة له دلالات سلبية؛ فالمستوطنات والاستيطان من المصطلحات المرتبطة بالاحتلال، وإذا تركنا الاسم إلى المضمون نجد أن الاسم يتطابق مع المسمى، فمحور المخطط هو تمكين الأجانب والشركات الصهيونية والغربية من السيطرة على قلب القاهرة باسم الاستثمار، وإزاحة الكثافة السكانية إلى غرب النيل.
وكل التعديلات التي تمت على المشروع منذ ولادته وحتى الآن يقوم بها مكتب الأمم المتحدة للمستوطنات، لكن ثمة ملاحظة وهي أن المشروع منذ بداية طرحه مرتبط باسم الدكتور مصطفى مدبولي عندما كان رئيسا لهيئة التخطيط العمراني والذي تم تعيينه وزيرا للتخطيط في عام 2016، وهو مرتبط بعلاقة وظيفية ( 2014: 2016) بهذه الجهة الخارجية، حيث كان يشغل منصب المدير الإقليمي للدول العربية ببرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية.
وحتى الآن يقوم برنامج المستوطنات بتوزيع كتيبات مشروع تطوير القاهرة والتعديلات التي تم إدخالها عليه، كأحد إنجازاته العمرانية، في أغرب عملية تخطيط لعاصمة دولة تتم بشكل سري ووسط عمليات خداع استراتيجي ماكرة.
ومن الملاحظات المهمة في الوثائق التيتصدر من هيئة التخطيط العمراني حول تطوير القاهرة، أن النسخ العربية تختلف عن النسخ باللغة الانجليزية، حيث تتم الترجمة ناقصة لإخفاء الكثير من المعلومات والبيانات، كما أن هناك تعمد في تسريب وثائق غير متطابقة من باب تضليل الرأي العام ولهروب الجهات المنفذة من أي مساءلة قانونية، لكن القاسم المشترك بين كل المشروعات التي صدرت منذ 2008 وحتى الوثيقة الأخيرة المنشورة على الموقع الالكتروني لهيئة التخطيط العمراني، تدور حول هدف واحد وهو طرد الحكومة والسكان من قلب القاهرة.
تهجير سكان القاهرة
الدوائر الصهيونية التي تقف خلف مشروع تطوير القاهرة تعمل على التحكم في حركة السكان لما يشكلوه من خطر على الحلم الصهيوني بتمدد إسرائيل إلى النيل، ولهذا تصب تفاصيل المخطط الذي ينفذ الآن تجاه تحزيم القاهرة ووقف حركة التمدد السكاني شرقا وتقليل الكثافة السكانية في الأحياء عالية الكثافة والإخلاء الكامل لبعض الأحياء، ونقل الملايين من شرق النيل إلى غرب النيل.
يؤكد المشروع أن المناطق العشوائية في القاهرة تصل إلى 40% من مساحة المناطق السكنية بالقاهرة الكبرى، ويقسم المشروع المناطق العشوائية إلى مناطق خطرة وغير آمنة يجب إزالتها بشكل كامل وتهجير سكانها، ومناطق غير مخططة وهي التي تخضع لما يسمى التطوير.
يحدد المخطط 100 منطقة في القاهرة الكبرى ويصفها بأنها غير آمنة على مساحة 1058 فدان، كما يحدد المساحات غير المخططة بالقاهرة التي سيشملها التغيير حوالي 22.5 ألف فدان، وتطويرها بإخلاء مساحات واسعة منها وتهجير نسبة كبيرة من سكانها.
ستمتد يد التهجير والإخلاء لكل مناطق القاهرة، سواء بالإزالة الكاملة أو بالتطوير، وتتضمن وثائق المخطط كل منطقة بالتفصيل.
من الأمثلة على الأحياء التي ستختفي لبيعها للمستثمرين منطقة الأزبكية بطول نهر النيل شرقا بوسط المدينة حيث يوجد جنوبا منطقة ماسبيرو، وتبلغ مساحة الأراضي المقرر طرد سكانها21 فدانا، والموسكي التي تبلغ مساحتها 15 فدانا، يصف المخطط مساحة 9 أفدنة بأنها غير آمنة يجب إزالتها فورا وتطوير الباقي، ومصر القديمة سيتم إخلاء 197 فدانا بزعم أنها غير آمنة وإعادة تخطيط كل المنطقة، أما التبين التي تمتد بمحاذاة النيل فيشير المخطط إلى أن المساحات غير المخططة تبلغ 1483 فدانا منها 224 فدانا مصنفة كمناطق غير آمنة، والبساتين التي تعد أحد أكبر المناطق السكنية يري المخطط أن المساحة التي ستخضع للتطوير وتقليص عدد السكان تبلغ 938 فدان، ورغم أن مدينة نصر مدينة حديثة يؤكد المخطط على إيقاف التوسع السكني العشوائي على المناطق الصحراوية، أي وقف التمدد شرقا.
يظل الأخطر، هو إغلاق الأسواق التجارية بوسط القاهرة التي يعتمد عليها المصريون في حركة التجارة الداخلية والخارجية سيترتب عليه تخريب أحياء القاهرة القديمة القائمة عليها، وتشريد الملايين المرتبطين بها، وضرب مجتمعات لها مئات السنين كانت تعيش آمنة مطمئنة، جاءها الغزو من حيث لا تحتسب، والغدر من حيث كانت تظن الحماية.
إن ما يجري في القاهرة أغرب عملية تدمير للدولة المصرية، فمشروعات التخطيط العمراني القادمة من الخارج ظاهرها التطوير، وباطنها القضاء على مصر بالضربة القاضية، فالقاهرة هي مركز ثقل الدولة المصرية، وتفكيكها وتهجير سكانها ووقف الحركة التجارية فيها، وتهيئتها للاستيطان الخارجي سيكون إعلان عن نهاية الدولة المصرية الموحدة وبداية عهد جديد لدويلات الطوائف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق