وبدا العالم الإسلامي مستباحاً مكسوراً، حتى جاء يوم 25 رمضان سنة 658هـ، وهـزم المسلمون بقيادة سيف الدين قطز، صاحب مصر، جيش هولاكو المغولي في معركة «عين جالوت» التاريخية.
عندما زحف المغول إلى حلب، فرّ كثير من أهلها، ومنهم المؤرّخ والشاعر، كمال الدين بن العديم (660-588هـ)، مؤلف كتاب «بغية الطلب، في تاريخ حلب» (دوّن فيه تاريخ حلب منذ الفتح الإسلامي حتى عصره مترجماً كلّ من سكنها أو مرّ بها من الأعلام والأعيان، وراصداً تجاربه مع ملوك عصره).
سافر ابن العديم إلى غزة ومنها إلى مصر، وبعد الهزيمة الساحقة للجيش المغولي، بل «إبادته» في «عين جالوت»، انهارت معنويات المغول في الشام، وثار عليهم المسلمون، وفي 30 رمضان (بعد النصر الكبير بأيام) دخل المظفر قطز دمشق، وتعقّب فلول الغزاة في المدن الشامية، فطهّرها منهم، وعادت حلب حرّة عزيزة.
وعاد ابن العديم إلى مدينته، لكنه وجدها خراباً وأثراً بعد عين، فرثاها بقصيدة جاء في مطلعها:
ويمضي ابن العديم راثياً حلب بأبيات تذكّر بقصيدة رثاء الأندلس لأبي البقاء الرُّندي المعاصر له (601-684هـ):
هو الدهر ما تبنيه كفّاك يهدمُ
وإن رمتَ إنصافاً لديه فَتُظْلَمُ
ووصف ما حلّ بالشهباء فقال:
وعن حلبٍ ما شئت قلْ من عجائبٍ
أحلَّ بها يا صاحِ إنْ كنتَ تعلمُ
غداةَ أتاها للمنيّةِ بغتةً
من المُغْل جيشٌ كالسحابِ عرمْرمُ
فما دفعت أسوارُها عنهمُ الذي
دهاهم ولا ما شيّدوه ورمّموا
فلو حلبُ البيضاءُ عاينتَ تُرْبَها
وقد عَنْدَمَ الفضِّيَ من تُربِها الدمُ
وقد سُيّرت تلك الجبالُ وسُجّرت
بهنّ بحارُ الموت والجوُّ أقتمُ
وقد عُطّلتْ تلك العِشارُ وأُذهلتْ
مراضعُ عما أرضعتْ وهْي هُيَّمُ
ولا بد للشاعر أن يُصوّر أبشع ما في النكبة التي نزلت بالحلبيّين، وهو ما جسّده في هذه الأبيات:
فيا لكَ من يومٍ شديدٍ لُغامُهُ
وقد أصبحتْ فيه المساجدُ تُهدَمُ
وقد دَرَستْ تلك المدارسُ وارتمت
مصاحفُها فوق الثرى وهي ضُخَّمُ
وكلُّ مَهاةٍ قد أُهينتْ سبيّةً
وقد طالما كانت تُعَزُّ وتُكرَمُ
تنادي إلى من لا يجيبُ نداءَها
وتشكو إلى منْ لا يَرقُّ ويرحمُ
لماذا أقفرت حلب، وأين مغانيها، وكيف أصبحت يباباً؟ يتساءل ابن العديم:
فيا حلباً أنّى ربوعُكِ أقفرتْ
وأعيتْ جواباً فهي لا تتكلّمُ
وكنتِ لمن وافاكِ بالأمس جَنَّةً
فما بالُ هذا اليوم أنتِ جهنّمُ
يعزُّ على قلبي المُعَنَّى بأنني
أرى ربْعَكِ المأنوسَ قَفْراً ويَعْظُمُ
أنوحُ على أهليكِ في كلّ منزلٍ
وأبكي الدجى شوقاً وأسألُ عنهمو
ولكنَّما للهِ في ذا مشيئةٌ
فيفعلُ فينا ما يشاءُ ويحكمُ
تُرى ماذا سيقول الشاعر لو رأى ما أصاب مدينته اليوم من تدمير ممنهج بأسلحة غير قذائف المنجنيق والسيوف، ومن قتل جماعي للأطفال والنساء بأيدي من هم أشد همجية وكفراً من المغول؟
هل سيرثيها أم سيكتب:
ألا إن مهرَ النصر يا بلدتي دمُ
وعمّا قليلٍ ثغرُكِ الحلو يبسُمُ
فأنتِ لنا شهباءُ في العَتْمِ كوكبٌ
ولن يطفىء اللألاءَ كفرٌ مُعمَّمُ
لأنتِ لنا الجنّاتُ في الأرضِ رحْبةً
وأنتِ لجيشِ الباطنيِّ جهنّمُ;
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق