بالله يا أهل الطائرة نزلوني
د. محمد الأحمري
مدير منتدى العلاقات العربية والدولية
كانت هذه من أول الأغاني التي رنّت في آذاننا صغارا أغنية "في سلم الطائرة" كلمات يسلم بن علي، وأداء طلال مداح، فكنا نتوقع أن أهل الطائرة ينزّلون الراكب في الطريق عندما يقرر النزول، أو حين يرى حبيب قلبه فيقول: "عندما شفت محبوب قلبي بين نخلة وبيت... بكيت غصبا بكيت" كما تقول الأغنية، ولم نكن قد رأينا الطائرة آنذاك فضلا عن معرفة حالها وقوانينها، فكانت طائرة متخيلة وهي تختلف عن الحقيقية.
كبرنا وتبين لنا أن الطائرة ليست مثل السيارة تنزلك حيث رغبت، بل تطير بين نقطتين محددتين سلفا، ومتى طارت فقد أصبح الراكب بيد غيره، ويفقد كل القرارات، أو هو قانونيا قد أصدر وكالة نهائية لقائد الطائرة والشركة والعالم بإدارة مصيره حتى ينزل.
هذه الطائرة بل الأغنية سواء كانت جميلة أو تافهة أصبحت من تراثنا، خاصة في "منطقة الخليج" ذلك العالم الذي تشكل سياسيا وصدرت له تلك التسمية بعد الأغنية، ولن أشغلكم بالفذلكات عن خبر الطائرات، غير أن التراث وتشكيله وتاريخه ومستقبله أكبر من قدرة أي حكومة على تشكيله، لأنه حتى في أشد الدكتاتوريات بؤسا نجد التراث يتفلت من قراراتها، مهما حاولت أن تثبت شيئا وتنفي آخر، فلا يستجيب التراث لقرارات الدكتاتوريات، ولن ينفعها إصرارها وصراخها وقولها هذا تراث وذاك ليس بتراث، وسواء أكدت لكم هذا أم لم أؤكده، فإن التراث هو مجموعة ما يشكل الثقافة ماضية وحاضرة مما صنع قبل هذه اللحظة وأثر في السلوك والتفكير والتصق بشعب أو لغة أو مكان سواء كان حقا أو باطلا أحبه الناس أو كرهوه.
فمثلا من تراثنا الحديث، السلفية والقومية والبعثية والقاعدة والإخوان والجامية واليسار المحلي وحزب البعث وعفلق وعبد الناصر وحافظ وابنه وصدام والأسر الحاكمة إلى جانب ابن باز والبنا وطه حسين والمودودي وإقبال وإدوارد سعيد وأحمد شوقي وأم كلثوم وابن لادن وحمد الجاسر والاستعمار البريطاني والاحتلال الصهيوني والاحتلال المحلي، سواء قبلناه أو رفضناه، وسواء كان حسنا أو قبيحا، فإنه نقش وجوده في التاريخ والذاكرة وقد يبقى ممدوحا أو مذموما منبوذا أو مقبولا، ولهذا يعاني الناس معه دائما ويعتركون، ويسقطون في مشكلاته بدلا من أن ينتقلوا إلى غيره أو يبدعوا سواه، وهذا التراث كثير منه خيالي لم يقع وربما لن يكون.
المهم أن هذا التراث فيه معالم واضحة كثيرة وفيه حشد هائل من كل الأنواع، لا يملك أحد بجرة قلم ولا بشرطي ولا سجن ولا تربية ولا تعليم ولا إعلام أن يمحو هذا التراث لأنه دخل القلوب والعقول والكتب والداخل والخارج، وشكل الوعي الداخلي لنا والخارجي عنا، ولن ينتزع ولكن من الواقع أيضا أنه يمكن إجراء حملات تعظيم أو تشويه أو محاولة تناس، غير أنه في النهاية تراث لا يغيب إلا عند غلبة غيره مما يقنع أو يجبر عليه الناس، وقد يغيض ثم يظهر وينتقم مرة أخرى.
وبهذا، فلن يستطيع أنصار عفلق إلغاء دور البنا، ولا أنصارهما يلغيان دور آخرين، فالمثقف العاقل يوطن نفسه على أن هذه الحقائق معالم كبيرة في طريق التاريخ والثقافة لا تجرع نفسك البقاء في مسألة رفع قوم ووضع آخرين، فدورك أن تبني فكرا وفعلا للمستقبل يكون بانية في تراث أو معلم خير في الطريق.
توقفت بعد خبر الطائرة الأولى، عند خبر طائرة أخرى تحدث عنها الدكتور عبد الله النفيسي، وسمعت فكرتها منه وهو يتحدث معجبا بنظريته؛ طائرة النفيسي قديمة أيضا لعلها في الثمانينيات الميلادية من القرن العشرين، وفيها يرى أن حكام الخليج العربي أشبه بركاب طائرة وتلك الطائرة خطفتها الحكومة الأمريكية، لا يملك المخطوفون من أمرهم شيئا، بل ينتظرون رحمة المختطف وشروطه ويخضعون لإرهابه أو ترويعه، فهل يعني خطف القرار السياسي أم أكثر؟ لا ندري.
حين سمعت خبر طائرة النفيسي أو القصة الثانية للطائرة وركابها كنت قد ركبت الطائرة، وعرفتها، لكن هذه الطائرة المخطوفة شدت فكرتها أذهاننا للماضي وللمستقبل المأمول أو المخيف، وكلاهما طلال مداح والنفيسي لا ينهون قصة الطائرة والبكاء والحب والخوف والرعب وما أعد الله من الفرج لهؤلاء الذين تطير بهم الطائرات عن محبوبيهم أو عن كارهيهم، ومن يخطفه أهو حبيب أم عدو.
وقد عرفنا لاحقا أن زمن الطائرة محدود، وصحبة قائدها محدودة، وإن استمر خطف الطائرة أكثر من أربعين عاما كطائرة القذافي، أو ثلث قرن كطائرتي مبارك وعلي صالح، وربما فهمت من الحال والمآل أن الطائرات التي يقصدها النفيسي هي الخليج كله شعوبا وحكومات، وأننا مخطوفون جميعا، وأن الرحلة ليست قصيرة ونقطة الهبوط غير معلومة، كما أن الطائرة المخطوفة يحرم على ركابها المشاركة في مصيرها أو الحديث عنه، ولو حدثت مشاركة لما كانت الطائرة مخطوفة أصلا، فهذا خروج على طاعة المختطف، خروج مآله الموت له وللجميع أو السجن في مكان ما فيها.حسب المخطوف أن يؤذن له بالاستجابة للقواهر الطبيعية كالنوم يكون مفزوعا قبله وبعده، وربما استرق المخطوف إلتفاتة بلحظ ذليل إلى الخارج ليخمّن في أي سماء هو أو فوق أي أرض.
طائرة الخليج المخطوفة تموج مشاعر مخطوفيها موج البحر، وهي تضطرب في الجو، وتروعهم، وتحرم عليهم التفكير في مصيرهم، وإن كانوا قادرين على الإنقاذ، فشعار الخاطفين: "من أنتم؟"، والرأي خروج على قرار الخاطفين، هنا تخيلت الطائرة بحسب تصوري القديم وتمنيت لها أمنية يسلم وطلال أن تنزل ركابها حيث شاءوا، وناديت معهم: "بالله يا أهل الطائرة نزلوني.. وإن كنت غلطان بالله يا أهل الطائرة فهموني"، وحينها تأكدت أن أمنية فهم طائرة الخليج أصعب من أمنية التنزيل في الطريق، وعلى أي حال قانون الخطف أن تشكر الخاطف على فعله وتتودد له وإن لم تصل.
كانت هذه من أول الأغاني التي رنّت في آذاننا صغارا أغنية "في سلم الطائرة" كلمات يسلم بن علي، وأداء طلال مداح، فكنا نتوقع أن أهل الطائرة ينزّلون الراكب في الطريق عندما يقرر النزول، أو حين يرى حبيب قلبه فيقول: "عندما شفت محبوب قلبي بين نخلة وبيت... بكيت غصبا بكيت" كما تقول الأغنية، ولم نكن قد رأينا الطائرة آنذاك فضلا عن معرفة حالها وقوانينها، فكانت طائرة متخيلة وهي تختلف عن الحقيقية.
كبرنا وتبين لنا أن الطائرة ليست مثل السيارة تنزلك حيث رغبت، بل تطير بين نقطتين محددتين سلفا، ومتى طارت فقد أصبح الراكب بيد غيره، ويفقد كل القرارات، أو هو قانونيا قد أصدر وكالة نهائية لقائد الطائرة والشركة والعالم بإدارة مصيره حتى ينزل.
هذه الطائرة بل الأغنية سواء كانت جميلة أو تافهة أصبحت من تراثنا، خاصة في "منطقة الخليج" ذلك العالم الذي تشكل سياسيا وصدرت له تلك التسمية بعد الأغنية، ولن أشغلكم بالفذلكات عن خبر الطائرات، غير أن التراث وتشكيله وتاريخه ومستقبله أكبر من قدرة أي حكومة على تشكيله، لأنه حتى في أشد الدكتاتوريات بؤسا نجد التراث يتفلت من قراراتها، مهما حاولت أن تثبت شيئا وتنفي آخر، فلا يستجيب التراث لقرارات الدكتاتوريات، ولن ينفعها إصرارها وصراخها وقولها هذا تراث وذاك ليس بتراث، وسواء أكدت لكم هذا أم لم أؤكده، فإن التراث هو مجموعة ما يشكل الثقافة ماضية وحاضرة مما صنع قبل هذه اللحظة وأثر في السلوك والتفكير والتصق بشعب أو لغة أو مكان سواء كان حقا أو باطلا أحبه الناس أو كرهوه.
فمثلا من تراثنا الحديث، السلفية والقومية والبعثية والقاعدة والإخوان والجامية واليسار المحلي وحزب البعث وعفلق وعبد الناصر وحافظ وابنه وصدام والأسر الحاكمة إلى جانب ابن باز والبنا وطه حسين والمودودي وإقبال وإدوارد سعيد وأحمد شوقي وأم كلثوم وابن لادن وحمد الجاسر والاستعمار البريطاني والاحتلال الصهيوني والاحتلال المحلي، سواء قبلناه أو رفضناه، وسواء كان حسنا أو قبيحا، فإنه نقش وجوده في التاريخ والذاكرة وقد يبقى ممدوحا أو مذموما منبوذا أو مقبولا، ولهذا يعاني الناس معه دائما ويعتركون، ويسقطون في مشكلاته بدلا من أن ينتقلوا إلى غيره أو يبدعوا سواه، وهذا التراث كثير منه خيالي لم يقع وربما لن يكون.
المهم أن هذا التراث فيه معالم واضحة كثيرة وفيه حشد هائل من كل الأنواع، لا يملك أحد بجرة قلم ولا بشرطي ولا سجن ولا تربية ولا تعليم ولا إعلام أن يمحو هذا التراث لأنه دخل القلوب والعقول والكتب والداخل والخارج، وشكل الوعي الداخلي لنا والخارجي عنا، ولن ينتزع ولكن من الواقع أيضا أنه يمكن إجراء حملات تعظيم أو تشويه أو محاولة تناس، غير أنه في النهاية تراث لا يغيب إلا عند غلبة غيره مما يقنع أو يجبر عليه الناس، وقد يغيض ثم يظهر وينتقم مرة أخرى.
وبهذا، فلن يستطيع أنصار عفلق إلغاء دور البنا، ولا أنصارهما يلغيان دور آخرين، فالمثقف العاقل يوطن نفسه على أن هذه الحقائق معالم كبيرة في طريق التاريخ والثقافة لا تجرع نفسك البقاء في مسألة رفع قوم ووضع آخرين، فدورك أن تبني فكرا وفعلا للمستقبل يكون بانية في تراث أو معلم خير في الطريق.
توقفت بعد خبر الطائرة الأولى، عند خبر طائرة أخرى تحدث عنها الدكتور عبد الله النفيسي، وسمعت فكرتها منه وهو يتحدث معجبا بنظريته؛ طائرة النفيسي قديمة أيضا لعلها في الثمانينيات الميلادية من القرن العشرين، وفيها يرى أن حكام الخليج العربي أشبه بركاب طائرة وتلك الطائرة خطفتها الحكومة الأمريكية، لا يملك المخطوفون من أمرهم شيئا، بل ينتظرون رحمة المختطف وشروطه ويخضعون لإرهابه أو ترويعه، فهل يعني خطف القرار السياسي أم أكثر؟ لا ندري.
حين سمعت خبر طائرة النفيسي أو القصة الثانية للطائرة وركابها كنت قد ركبت الطائرة، وعرفتها، لكن هذه الطائرة المخطوفة شدت فكرتها أذهاننا للماضي وللمستقبل المأمول أو المخيف، وكلاهما طلال مداح والنفيسي لا ينهون قصة الطائرة والبكاء والحب والخوف والرعب وما أعد الله من الفرج لهؤلاء الذين تطير بهم الطائرات عن محبوبيهم أو عن كارهيهم، ومن يخطفه أهو حبيب أم عدو.
وقد عرفنا لاحقا أن زمن الطائرة محدود، وصحبة قائدها محدودة، وإن استمر خطف الطائرة أكثر من أربعين عاما كطائرة القذافي، أو ثلث قرن كطائرتي مبارك وعلي صالح، وربما فهمت من الحال والمآل أن الطائرات التي يقصدها النفيسي هي الخليج كله شعوبا وحكومات، وأننا مخطوفون جميعا، وأن الرحلة ليست قصيرة ونقطة الهبوط غير معلومة، كما أن الطائرة المخطوفة يحرم على ركابها المشاركة في مصيرها أو الحديث عنه، ولو حدثت مشاركة لما كانت الطائرة مخطوفة أصلا، فهذا خروج على طاعة المختطف، خروج مآله الموت له وللجميع أو السجن في مكان ما فيها.حسب المخطوف أن يؤذن له بالاستجابة للقواهر الطبيعية كالنوم يكون مفزوعا قبله وبعده، وربما استرق المخطوف إلتفاتة بلحظ ذليل إلى الخارج ليخمّن في أي سماء هو أو فوق أي أرض.
طائرة الخليج المخطوفة تموج مشاعر مخطوفيها موج البحر، وهي تضطرب في الجو، وتروعهم، وتحرم عليهم التفكير في مصيرهم، وإن كانوا قادرين على الإنقاذ، فشعار الخاطفين: "من أنتم؟"، والرأي خروج على قرار الخاطفين، هنا تخيلت الطائرة بحسب تصوري القديم وتمنيت لها أمنية يسلم وطلال أن تنزل ركابها حيث شاءوا، وناديت معهم: "بالله يا أهل الطائرة نزلوني.. وإن كنت غلطان بالله يا أهل الطائرة فهموني"، وحينها تأكدت أن أمنية فهم طائرة الخليج أصعب من أمنية التنزيل في الطريق، وعلى أي حال قانون الخطف أن تشكر الخاطف على فعله وتتودد له وإن لم تصل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق