ضريبة الذل
شرت هذه المقالة في مجلة الرسالة، العدد ٩٨٩، بتاريخ ١٦ يونيو ١٩٥٢
بعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هربًا من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة رخيصة، مفزعة قلقة، تخاف من ظلها، وتفرق من صداها، يحسبون كل صيحة عليهم، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة! هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة، إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة.
يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون.
وإنهم ليحسبون أنهم ينالون في مقابل الكرامة التي يبذلونها قربى ذوي الجاه والسلطان حين يؤدون إليهم ضريبة الذل وهم صاغرون، ولكن كم من تجربة انكشفت عن نبذ الأذلاء نبذ النواة، بأيدي سادتهم الذين عبدوهم من دون الله!
إنه لابد من ضريبة يؤديها الأفراد، وتؤديها الجماعات، وتؤديها الشعوب. فإما أن تؤدي هذه الضريبة للعزة والكرامة والحرية، وإما أن تؤدي للذلة والمهانة والعبودية! والتجارب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفر منها ولا فكاك
كم من رجل باع رجولته، ومرغ خديه في الثرى تحت أقدام السادة، وخنع وخضع، وضحى بكل مقومات الحياة الإنسانية، وبكل المقدسات التي عرفتها البشرية، وبكل الأمانات التي ناطها الله به أو ناطها الناس.. ثم في النهاية إذا هو رخيص رخيص، هين هين، حتى على السادة الذين استخدموه كالكلب الذليل؛ السادة الذين لهث في إثرهم، ووصوص بذنبه لهم، ومرغ نفسه في الوحل ليحوز منهم الرضاء!
كم من رجل كان يملك أن يكون شريفًا، وأن يكون كريمًا، وأن يصون أمانة الله بين يديه، ويحافظ على كرامة الحق وكرامة الإنسانية، وكان في موقفه هذا مرهوب الجانب، لا يملك له أحد شيئًا، حتى الذين لا يريدون له أن يرعى الأمانة، وأن يحرس الحق، وأن يستعز بالكرامة، فلما أن خان الأمانة التي بين يديه، وضعف عن تكاليف الكرامة، وتجرد من عزة الحق، هان على الذين كانوا يهابونه، وذل عند من كانوا يرهبون الحق الذي هو حارسه، ورخص عند من كانوا يحاولون شراءه؛ ورخص حتى أعرضوا عن شرائه، ثم نبذ كما تنبذ الجيفة، وركلته الأقدام، أقدام الذين كانوا يعدونه ويمنونه، يوم كان له من الحق جاه، ومن الكرامة هيبة، ومن الأمانة ملاذ.
كثير هم الذين يهوون من القمة إلى السفح، لا يرحمهم أحد، ولا يترحم عليهم أحد. ولا يسير في جنازتهم أحد، حتى السادة الذين في سبيلهم هووا من قمة الكرامة إلى سفوح الذل، ومن عزة الحق إلى مهاوي الضلال.
ولدينا أمثلة كثيرة وقريبة على الأدلاء الذين باعوا الضمائر وخانوا الأمانات وخذلوا الحق وتمرغوا في التراب، ثم ذهبوا غير مأسوف عليهم من أحد، ملعونين من الله! ملعونين من الناس!!
ومع تكاثر العظات والتجارب. فإننا ما نزال نشهد في كل يوم ضحية. ضحية تؤدي ضريبة الذل كاملة، ضحية تخون الله والناس، وتضحي بالأمانة وبالكرامة، ضحية تلهث في إثر السادة، وتلهث في إثر المطامع والمطامح، وتلهث وراء الوعود والسراب. . ثم تهوي، وتنزوي هنالك في السفح خانعة مهينة، ينظر إليها الناس في شماتة، وينظر إليها السادة في احتقار.
لقد شاهدت في عمري المحدود – وما زلت أشاهد – عشرات من الرجال الكبار يحنون الرؤوس لغير الواحد القهار، ويتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل تبهظ كواهلهم، وتحني هاماتهم، وتلوي أعناقهم، وتنكس رؤوسهم.. ثم يطردون كالكلاب، بعد أن يضعوا أحمالهم، ويسلموا بضاعتهم، ويتجردوا من الحسنيين في الدنيا والآخرة، ويمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق لا يحس بهم أحد حتى الجلاد!
لقد شاهدتهم وفي وسعهم أن يكونوا أحرارًا ولكنهم يختارون العبودية، وفي طاقتهم أن يكونوا أقوياء، ولكنهم يختارون التخاذل، وفي إمكانهم أن يكونوا مرهوبي الجانب، ولكنهم يختارون الجبن والمهانة. .
شاهدتهم يهربون من العزة كي لا تكلفهم درهمًا، وهم يؤدون للذل دينارًا أو قنطارًا..
شاهدتهم يرتكبون كل كبيرة ليرضوا صاحب جاه أو سلطان، ويستظلوا بجاهه أو سلطانه وهم يملكون أن يرهبهم ذوو الجاه والسلطان.
لا بل شاهدت شعوبًا بأسرها تشفق من تكاليف الحرية مرة، فتظل تؤدي ضرائب العبودية مرات. خرائب لا تقاس إليها تكاليف الحرية. ولا تبلغ عشر معشارها.
وقديما قالت يهود لنبيها:(يا موسى إن فيها قومًا جبارين،) وقالوا:(إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون)… فأدت ثمن هذا النكول عن تكاليف العزة أربعين سنة تتيه في الصحراء تأكلها الرمال، وتذلها الغربة، وتشردها المخاوف.. وما كانت لتؤدي معشار هذا كله ثمنًا للعز والنصر في عالم الرجال!
كثير هم الذين يهوون من القمة إلى السفح، لا يرحمهم أحد، ولا يترحم عليهم أحد. ولا يسير في جنازتهم أحد، حتى السادة الذين في هووا من قمة الكرامة إلى سفوح الذل، ومن عزة الحق إلى مهاوي الضلال.
إنه لا بد من ضريبة يؤديها الأفراد، وتؤديها الجماعات، وتؤديها الشعوب. فإما أن تؤدي هذه الضريبة للعزة والكرامة والحرية، وإما أن تؤدي للذلة والمهانة والعبودية! والتجارب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفر منها ولا فكاك!
فإلى الذين يفرقون من تكاليف الحرية، إلى الذين يخشون عاقبة الكرامة، إلى الذين يمرغون خدودهم تحت مواطئ الأقدام، إلى الذين يخونون أماناتهم، ويخونون كراماتهم، ويخونون إنسانيتهم، ويخونون التضحيات العظيمة التي بذلتها أمتهم، وبذلتها الإنسانية لتحرر وتتخلص.
إلى هؤلاء جميعًا أوجه الدعوة أن ينظروا في عبر التاريخ وفي عبر الواقع القريب، وأن يتدبروا الأمثلة المتكررة التي تشهد بأن ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، وأن تكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية، وأن الذين يستعدون للموت توهب لهم الحياة، وأن الذين لا يخشون الفقر يرزقون الكفاية، وأن الذين لا يرهبون الجاه والسلطان يرهبهم الجاه والسلطان.
ولدينا أمثلة كثيرة وقريبة على الأدلاء الذين باعوا الضمائر وخانوا الأمانات وخذلوا الحق وتمرغوا في التراب، ثم ذهبوا غير مأسوف عليهم من أحد، ملعونين من الله! ملعونين من الناس!! وأمثلة كذلك – ولو أنها قليلة – على الذين يأبون أن يذلوا، ويأبون أن يخونوا، ويأبون أن يبيعوا رجولتهم بيع السماح. وقد عاش من عاش منهم كريمًا، ومات من مات منهم كريمًا.
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق