الاثنين، 13 مايو 2019

قال أنا خير منه [1]


قال أنا خير منه [1]

الخميس 5 ربيع الأول 1434هـ

 د. سلمان العودة

دلالة ضمير المتكلم في القرآن الكريم
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: 
بسم الله الرحمن الرحيم.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
بالأمس أشرنا إلى وقفة تربوية، ممكن نقول: إنها كانت حول رحلة ألف ميل إن أردنا أن نلخصها في كلمة عابرة، وأنها تبدأ بخطوة واحدة، وأن الإنسان وإن كان عنده هدف طموح، أن يصبح عالماً جليلاً، أو داعية مؤثراً، أو شريفاً نبيلاً، أو ثرياً، أو أي شيء آخر من مصالح الدنيا أو الآخرة، فإنه مع وجود هذا الطموح الذي لا ينكر بل يشكر، لابد أن يجعل أو يعتبر أن هذا الطموح يمر بمحطات عملية، بعد كل محطة يتوقف الإنسان ليراجع ما عمل في السابق، ويصحح الأخطاء، ويجدد العزيمة، ثم يستأنف المسرى من جديد.
أما اليوم فأشير إلى نقطة جديدة أو لفتة جديدة، وقد تستدعي منا أكثر من جلسة، وجعلتها منطلقة من قوله تعالى: (( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ))[الأعراف:12]، ممكن تعتبر أن عنوان هذه اللفتة: أنا خير منه.
لو قلبت صفحات القرآن الكريم لوجدت أن لفظ أنا الذي هو ضمير المتكلم، أو نحن الذي هو ضمير المتكلمين الجماعة، ورد إما عن الله عز وجل، وهذا هو الكثير الغالب، أن الله سبحانه وتعالى يمدح نفسه، يثني على نفسه، يذكر صفاته وأسماءه مسندة إلى هذا الضمير، مثل، -تذكروا معنا آيات-: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))[الحجر:9]، طبعاً (إنَّا) هذه عبارة عن كلمتين، كلمة إن التي هي حرف توكيد مع ضمير (نا) الذي هو ضمير المتكلم، فهي داخلة فيما نشير إليه، آيات أخرى، (( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ))[الكوثر:1]، زد، (( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ))[القمر:49]، (( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ))[القدر:1]، (( وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ))[ق:29]، (( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ))[يوسف:3]، (( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ))[طه:14]، (( نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ ))[الواقعة:57]، (( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ))[ق:16]، وهكذا فالآيات في هذا الباب متكاثرة، وذكرها الآن ليس على سبيل الحصر، وإنما هو على سبيل التمثيل مما يحضر في الذهن.

استحقاق الله تعالى للكمال المطلق وافتقار المخلوقات إليه سبحانه


الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة:
ولا شك أن هذه الآيات تدل على أن المستحق للتعظيم والثناء والحمد والمدح هو الله سبحانه وتعالى وحده؛ لأنه الغني غنىً مطلقاً، فلا حاجة به إلى أحد من خلقه، ولأنه الأول الذي ليس قبله شيء، وليس له ابتداء، لا حد لأوليته، ولأنه الآخر الذي ليس بعده شيء، وليس له انتهاء، ولأنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو العلي الأعلى على العرش استوى وعلى الملك احتوى، ولأنه الباطن الذي ليس دونه شيء، يعلم السر وأخفى، ويعلم الجهر وما يخفى، ويعلم النجوى، ولا يخفى عليه شيء من أمرنا، ولأنه بكل شيء عليم، ولأنه على كل شيء قدير، فالله سبحانه وتعالى له الكمال المطلق، والجلال، والجمال، والعظمة، والكبرياء.
وكل صفة مدح فلله سبحانه وتعالى أكملها وأجلها وأفضلها وأعلاها، المقصود المدح المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وكل صفة ذم أو نقص فالله سبحانه وتعالى منزه عنها؛ ولهذا سمى نفسه بالقدوس، فالقدوس من معانيها: المتصف بصفات الكمال والعظمة، والسالم من صفات النقص والذم، فكل صفة مدح مطلق فالله تعالى أولى بها، وكل صفة ذم فالله تعالى بريء منها.
فلله تعالى الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو المستحق للمدح والحمد بحق وصدق، وهذا المعنى العظيم دارت حوله آيات كثيرة في الكتاب الكريم، وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وأقوال الأئمة والعلماء والعابدين، والمثنين على الله تعالى، فتنوعت عباراتهم وطرائقهم، واتفقت مراميهم ومقاصدهم على إسناد كل معاني الكمال، وصفات الجمال والجلال لله سبحانه وتعالى، وتنزيهه عن ضدها.
أما من سواه فهو المفتقر إلى الله تعالى بكل شيء، فهو مفتقر إلى الله تعالى بخلقه، ثم هو مفتقر إلى الله تعالى بديمومته واستمراره وبقائه، فالإنسان مفتقر إلى الله عز وجل في كل نفس، وفي كل لحظة، وفي كل ذرة من كيانه، لو تصورت جسم الإنسان كم فيه من مليارات الذرات، كل ذرة فهي مفتقرة إلى الله تعالى؛ لأن هذه الذرة لا تقوم إلا بالله عز وجل.
دعك من الكون كله؛ النجوم، والأفلاك، والأشجار، والأنهار، والبحار، وقطرات المياه، وذرات التراب، وكل ما في الكون ومن فيه، وما تعلم، وما لا تعلم، وما تبصر، وما لا تبصر، وما اطلعت عليه البشرية في علومها، وما عجزت عنه، فهو صائح ناطق بالافتقار الأصلي لله سبحانه وتعالى،يعني: افتقار ذاتي كما يسميه العلماء، لكن مع ذلك مما جبل عليه الإنسان هو شعوره بالذاتية، أو ما يسميه العلماء بالأنا، فتجد أن هذه الأنا تبرز في الإنسان؛ لأن الله عز وجل جعل للإنسان شخصية مستقلة، فله جسمه الخاص، وعقله الخاص، وبصمته الخاصة، ورؤيته الخاصة للأمور، وأصله وفصله وفرعه، وجعله الله سبحانه وتعالى يملك الأشياء وإن كان ملكاً ليس ذاتياً أو جوهرياً، ولكنه ظاهري وشكلي، وإلا المالك الحقيقي هو الله عز وجل؛ ولذلك سمى نفسه الملك، والمالك، ملكِ يوم الدين، أو (( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ))[الفاتحة:4]، قراءتان سبعيتان.

نماذج من الاستخدام المذموم للفظ (أنا) ومشتقاته



الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن لفظة أنا ومشتقاتها للخلق في الغالب على سبيل الذم.

استخدام إبليس لفظة (أنا)


الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: فتجد أن الله عز وجل ذكر عن الشيطان قوله: (( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ))[الأعراف:12]، وتلاحظ هنا أن الشيطان استخدم لفظ الأنا، ثم أسند إلى نفسه ماذا؟ الخيرية، فالمسألة مسألة منافسة في ظن الشيطان أو في تصويره، أنه الآن وُجد مخلوق جديد أعطاه الله سبحانه وتعالى فضلاً، وعلمه الأسماء كلها، واستخلفه في الأرض، ومكن له في الأرض وفضله، فهنا حصلت الغيرة وحصل الحسد من الشيطان، وبرزت الأنا مصحوبة بلفظ الخيرية، ما قال الشيطان مثلاً: أنا فاضل، أو أنا خيّر، أو أنا عندي كذا أو لدي كذا، قال: (( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ))، فتلاحظ أن الشيطان الآن يحاول أن يبرز مكانته على حساب من؟
على حساب آدم عليه السلام، يعني: المسألة عنده منسوبة، خيريته وفضيلته هي بالنسبة لـآدم عليه الصلاة والسلام الذي أعطي هذا التفضيل الذي تحركت معه دواعي الغيرة في نفس الشيطان الرجيم، فقال: (( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ )).

القياس الفاسد عند إبليس في ادعاء أفضليته على آدم

الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: ثم استخدم ما يسميه العلماء والفقهاء بالقياس الفاسد: (( خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ))[الأعراف:12]، وهذا القياس الذي شرحه بشار بن برد -فيما أحسب- الذي يقول: إبليس أفضل من أبيكم آدم فتبينوا يا معشر الأشرارالنار معدنه وآدم طينة والطين لا يسمو سمو النار
فقاس الشيطان قياساً فاسداً بأن النار خير من الطين، فالنار في تلهبها وتوقدها وإحراقها وهذه المعاني، ولكن المعنى الثاني في الطين معنى الثبات والاستقرار وإلى غير ذلك، وفيه معنى التواضع أيضاً لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا كان سر إبعاد الشيطان ماذا؟ هو الكبرياء، وسر البلية التي بلي بها، وترتب عليها طرده من الملكوت، والحكم عليه بالخلود في النار، هو كبرياؤه وغطرسته وصلفه الذي جعله يرفض السجود، لأن رفضه للسجود هنا رفضاً لعبوديته لله عز وجل، فلذلك كان فيه الغطرسة والكبرياء والتعاظم في غير محله، ولذلك يقول بعض الأدباء:
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع ولا تك كالدخان يعلو مكانه ..
أيش بقية البيت؟  
مداخلة:...
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: .. على طبقات الجو وهو وضيع
فهنا إشارة إلى تواضع آدم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه خلق من الطين، ولذلك أدخل الجنة واختاره الله واصطفاه، وكان نبياً مكلماً، وفيه طرد إبليس لكبريائه وغطرسته وغروره والتي بسببها طرد من الملكوت، فأنت تلاحظ الأنا هنا ماذا تعني.

استخدام فرعون لفظة (أنا)

الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: كذلك الموضع الثاني الذي فيه ظهور الأنا، تعرفونه أين يوجد؟ نعم؟
مداخلة:...
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: نعم، قال: (( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ ))[الزخرف:52]، من هذا القائل؟ هو فرعون، فتلاحظ أيضاً أن فرعون الآن يريد أن يثبت خيريته على حساب موسى.

القياس الفاسد عند فرعون في ادعاء أفضليته على موسى


الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: وما هو القياس الفاسد أيضاً الذي لجأ إليه فرعون؟ هو أنه عول على قضية معينة وهو أنه يدعي أن موسى مهين ولا يكاد يبين، فلعله يعني بالمهانة: أن فرعون يرى أنه يملك مصر، وتجري الأنهار من تحته، وله الذهب وله وله وله إلى غير ذلك،ويرى أن موسى عري عن ذلك كله.
وينسب إلى موسى أن في لسانه حبسة فهو لا يكاد يبين ويفصح، وقد قال بعض المفسرين: أن هذا كان بسبب الجمرة كما في القصة المعروفة،وموسى عليه الصلاة والسلام قال لربه لما بعثه الله عز وجل، وشفع لأخيه هارون أن يبعث معه قال: (( هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ))[طه:30-32]، وقال في نفس السورة: (( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ))[طه:27-28]، وفي الموضع الآخر قال موسى عليه الصلاة والسلام: (( وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا ))[القصص:34-35]، فيجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى أزال تلك الحبسة في لسان موسى فأصبح فصيحاً، ولكن فرعون كان يعيره بشيء قد ذهب عنه، وهذا موجود في المغرضين دائماً وأبداً، ويجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى أعطى موسى سلطاناً وحجة مع بقاء..كون هارون أفصح منه؛ لأنه لا يلزم من كمال الحجة كمال الفصاحة، فأنت تجد بعض الناس يتكلم بكلمات قليلة ومعدودة لكنها في الصميم، وتؤدي الرسالة على أحسن ما يكون، وتجد آخر فصيحاً يتفنن في القول وضروبه وأنماطه ويتكلم، ولكنه قد لا يؤدي المعنى على الوجه المطلوب.
أياً كان هذا أو ذاك فالمقصود أن فرعون كان يريد أن يقيس قياساً فاسداً، ويثبت خيريته على حساب موسى عليه الصلاة والسلام، وقد استخدم لفظ أنا وأسند إليه أنه (( خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ ))، ولذلك قال بعدها: (( فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ))، يعني: مثل ما عندنا: (( أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ))[الزخرف:53].

استخدام قارون لفظة (أنا)



الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: الموضع الثالث الذي فيه هذا الباب وما يشبهه وما يشاكله هو: ما ذكره الله تعالى عن قارون: (( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ))[القصص:76]، (( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ))[القصص:78]، فتلاحظ الآن الذاتية والأنا كيف برزت عندقارون، فهو الآن يتحدث إن أردنا أن نستخدم لغة العصر، افترض أن هناك مقابلة صحفية مع قارون مثلاً، بحكم أنه- مثلاً- مليونير أو مالك شركة، كما تجدون الآن في كثير من المجلات الاقتصادية أو غيرها، أو مجلات المشاهير، يعملون مقابلات- مثلاً- مع بيل جيتس، أو مع- مثلاً- فلان ممن يسمونهم مليارديرات، أو قد يعبرون عنهم أحياناً بأباطرة المال.
فتجد هذا الإنسان يتحدث عن تجربته وبدايته -مثلاً- في الثراء والتجارة وشيء من هذا القبيل، ودائماً يتحدث عن ماذا؟ عن أن هذا النجاح -طبعاً بعضهم- بسبب مواهبه وطاقاته وقدراته، فهنا تجد هذا الإنسان تشبه بقارون (( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ))، يعني: خبرة بفنون المال، والتصرف في التجارات وغيرها، حتى وصلت إلى هذا المال الضخم الوفير، طبعاً هذا ليس مطرداً؛ لأننا نجد أن من الناس سواء من الكفار أو من المسلمين، والمسلمون في هذا أفضل وأكثر أن الإنسان قد يسأل عن سر نجاحه- مثلاً- النجاح المالي أو غيره، فتجده يقدم تجربته بتواضع كما ذكرت لكم بالأمس، وقد يتحدث عن إخفاقات مر بها، بل قد يتحدث عن ألوان من العجز الذي يحيط به.
وأذكر لكم على سبيل الطرفة هذه القصة الواقعية، أحد الرجال كبار السن كان مريضاً، ثم نزل به القضاء فبكى، فقال له بعض الحاضرين -شخص معروف-: لماذا تبكي؟ هذا قدر الله، وأنت إن شاء الله تذهب إلى خير وكذا وكذا، قال: أنا الحقيقة لا أبكي لأنني أموت، لكني أبكي رحمة بفلان وذكر أحد أولاده، لأن هذا الإنسان لا يستطيع أن يتصرف في أموره مطلقاً، حتى إنه لو طُلب منه أن يحضر ماءً للشرب ما استطاع، وإلا بقية الأولاد الحمد لله يستطيعون أن يدبروا أنفسهم.
فهذا الشخص المشار إليه، الأب يبكي في مرض موته رحمة به، وإشفاقاً عليه، هذا الابن أصبح من كبار أصحاب رءوس الأموال في هذا البلد، أصبح ثرياً من الأثرياء، مع أنه بالمعايير المادية أو الدنيوية، أو نظرة الأب المشفق أن هذا الإنسان قد لا يستطيع أن يجمع قرشاً إلى قرش، لكن الله تعالى خصه وأعطاه، حتى بعض الأثرياء من غير المسلمين قد يسألون أحياناً عن تجاراتهم، فيذكرون إخفاقات مرت بهم، ويذكر بعضهم جوانب ضعف في شخصيته، أو عجز عنده، ولكنه قد ينسب هذا -إن كان مؤمناً- إلى الله وفضله وعطائه، وإن كان غير ذلك نسبه إلى ماذا؟ قد ينسبه إلى الحظ أحياناً، وقد ينسبه إلى نفسه، وهذا هو الأصل كما ذكرت، فهنا تلاحظ عملية الأنا.
كثرة لفظ الأنا عند الشعراء :-هذه الأنا جعلت كثيراً من العلماء خصوصاً المعنيين بالتزكية، تزكية النفس، يتحدثون عن أنه قل إنسان إلا وفي داخله نوع من الطغيان أو نوع من الفرعونية- كما يسمونها- فإذا انتبه وتفطن لها، وعالجها، وقاومها، وأصلحها، صلحت واستقامت، وإلا فإنها تتسلط عليه، وتؤثر فيه، ولعل أكثر من يعبر عن هذا المعنى هم الشعراء، تعرفون أن الشاعر هو لسان حال قبيلته؛ بل لسان حال-أحياناً- البشرية، فمن لدن المتنبي 
-على سبيل المثال- تعرفون أبياته المشهورة، ماذا يقول؟
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
فهو لما يذكر هذه الصورة البديعة في أنه هذا الشاعر شيخ الشعراء أنه نظر الأعمى إلى أدبه، وكلماته أسمعت من به صمم، وأنه ينام ملء جفنيه عن معاني قصائده، ودلالاتها وألفاظها وشواردها، والخلق يسهرون بسببها ويختصمون، فهو جعل لنفسه هذه السلطة في كونه يستطيع أن يؤثر على الناس، ويختصمون حوله وهو ينام ملء جفنيه، ولذلك قيل عن المتنبي: مالئ الدنيا وشاغل الناس.
إلى الشاعر المعاصر الذي يقول:
أنا شاعر الدنيا تبطن ظهرها شعري يشرق عبرها ويغربأنا شاعر الأكوان كل كُليمة مني على شفق الخلود تلهب
طبعاً الشعراء غالباً لما تقرأ ديوان أي شاعر، تجد أن جزءاً غير قليل من شعره هو عبارة عن تعبير عن الأنا، حتى أني أذكر أنني سمعت-وذكرت لكم هذا سابقاً- مقابلة مع نزار قباني في المجمع الثقافي في الخليج من شريطين، فربما أحصيت أكثر من ثلاثمائة مرة أنا أنا أنا في هذه المقابلة، خصوصاً لما يتحدث بعفوية، حتى إنك تجدها مضحكة.

انتشار الأنا وحظ النفس في أقوال الناس وأفعالهم



الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: وفي إحدى الدول عملوا استبياناً لأكثر الكلمات التي تستخدم عبر الهاتف، فوجدوا أن أكثر كلمة تستخدم عبر الهاتف بين الناس هي كلمة أنا، فأي إنسان تجد مثلاً أنه إن كان كبير السن طفق يحدثك عن تاريخه، وأنا فعلت وقمت وقعدت وذهبت وسافرت ورجعت وأنا وأنا، وإن كانت القضية قضية خصومة بين اثنين كان كل واحد منهم يدافع عن نفسه ويقول: أنا مظلوم وأنا بريء، وهذا أخطأ عليّ، وهذا أخذ حقي، وهذا غصب أرضي، وهذا ضرب ولدي، وهذا سرق أفكاري، وهذا وأنا كذا وهو كذا، وإن كانت امرأة فهي تتحدث عن نفسها وجمالها، أو حظوتها عند زوجها، أو ضد ذلك من كونها تتحمله وتصبر عليه، وتعامله بالحسنى، وهكذا تجد أن غالب الناس يدور حول الأنا.
حتى أنك لو راقبت نفسك خلال يوم أو يومين، وحاولت أن تسجل كم مرة استخدمت كلمة أنا لرأيت أمراً مثيراً للعجب، والمشكلة طبعاً ليست في اللفظ فقط، هذا اللفظ مجرد ظاهر يكشف عما وراءه، فإن المشكلة دائماً في هذه الأنا أنها ولدت عند الناس كلهم أنانية كبيرة يصعب الخلاص منها، ولا شك أنه ( ما أنزل الله من داء إلا له دواء )، وسر من أسرار المجاهدة العظيمة في مجاهدة النفس مجاهدة الأنا،حتى إنك قد تجد إنساناً قد يموت وهمه أن يقال: أنا، يعني: هو، مثل: (الرجل يقاتل رياء، أو حمية، أو شجاعة) ، كما في حديث أبي موسى، هذا الإنسان قدم نفسه، روحه، قرباناً لا طمعاً في الجنة وحورها وقصورها وأنهارها، إنما من أجل أن يقال: هو، فالأنا تتحكم فيه.
وذكر بعض السلف قال: إن بعض الناس يرائي حتى وهو ميت، قالوا: كيف يرائي؟ قال: إن هذا الإنسان يحلم أو يطمع أن يكون المصلون على جنازته كثيراً حتى يتحدث الناس بعد وفاته، يقولون: ما شاء الله ما أضخم العدد الذي صلى على جنازة فلان، يمكن أنا أرى أكثر من واحد منكم يبتسم، يمكن الفكرة هذه خطرت في البال.
طبعاً هنا فرق بين الجانب الشرعي، وبين جانب الأنا، الجانب الشرعي كون الإنسان مثلاً يحب أن يُذكر بخير ليدعى له، ويكون هذا المعنى معنىً صحيحاً لم تخدعك فيه الأنا، وإنما هو فعلاً هذا قصده ولا غير، أو قصده أن يصلي عليه جماعة من المسلمين حتى يدعوا له ويشهدوا له بخير كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ( أنتم شهود الله في أرضه )، أو قصده أن يشتهر حتى ينفع الناس بشيء من العلم أو الدعوة أو ما أشبه ذلك، هذه معانٍ طيبة ومقصودة، لكن دائماً أنا- انظر أنا هذه غير مقصودة لكنها تؤكد ما ذكرته لك- أذكرك وأقول لك: ابحث عن الأنا، أو ابحث عن أنا، فـأي شيء خطر في بالك ابحث عن حظ النفس فيه، ثم حاول أن تتخلص من حظ النفس، وما كان لله فأبقه، وما كان لعبد الله فتخلص منه، طبعاً هذا المعنى العظيم- وأقول العظيم- الحقيقة يتفرع عنه عشرات النماذج، وسوف أذكر لكم بعضها ونكمل بعضها لو ضاق الوقت وأظنه سيضيق نكمله إن شاء الله في مناسبة ثانية.

بعض مظاهر الأنا عند الإنسان



التنصل من تبعات الخطأ والإلقاء بها على الآخرين



الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: من مظاهر الأنا أن تجد الإنسان يميل إلى التنصل من تبعات الخطأ وإلقاء التبعات على الآخرين، وأنا أذكر لكم مثلاً طريفاً، هذا الصبي الذي رأيتموه قبل قليل جاء يوماً من الأيام وهو يبكي، والدموع تتقاطر من عينه، وطرف رجله يدمي.
- ما بك؟ ما الذي أصابك؟
فأجاب بعفوية الطفولة: بعد واضعين درج في البيت، ما معنى هذا؟ هو لا يريد أن يعترف بأنه أخطأ وسقط في الدرج، فحمل التبعة للذين بنوا الدرج، وأنكم وضعتم في البيت درجاً، طبعاً هذه على مستوى الطفولة، تجد الطفل الصغير أيضاً لما يسقط من يده الكأس أو غيره ويتكسر، كسرت الكأس، ماذا يقول؟ هو الذي انكسر، لا ما كسرته هو الذي انكسر، حتى في طفولة الإنسان تجد الرغبة في التخلص من التبعات، وإلقاء اللوم على الآخرين بعفوية بطبيعة الحال.
لكن يكبر الإنسان ويتحاذق بعد ذلك، أو يتذاكى كيف يلبس القضية لبوساً أكثر دهاءً ومكراً وخبثاً في التخلص من التبعات، وإلقائها على الآخرين، هذا الباب يبرز على المستوى الشخصي كثيراً، فالطالب الذي أخفق في الاختبار، لا يمكن أن يقول: إنني فشلت، أو لم أذاكر، أو ضيعت وقتي، إلا في حالات قليلة، وإنما الغالب أنّ الأسئلة كانت صعبة، والمدرس حاقد، وكان التصحيح عنده شديداً، وكانت الأسئلة غير متوقعة، وهلم جراً.
والإنسان الذي مثلاً أخفق في الزواج لا يمكن أن يلقي بالتبعة على نفسه، وإنما يقول: إنني خُدعت، وصورت لي القضية بصورة غير واقعية، وأهلي-هداهم الله- أخذتهم العواطف، وخدروني بشيء من الأوهام والمعلومات غير الدقيقة، وهكذا.
وقل مثل ذلك في تفاصيل حياة الناس التي طبعاً لا يخطر على البال أن الإنسان سوف يسردها؛ .لأنها ما تتناهى، إنما تفاصيل الإخفاقات الفردية التي تلم بالإنسان سواء في الجانب التعبدي، في الجانب العلمي، في الجانب العملي، في الجانب الزوجي والاجتماعي، في الجانب الاقتصادي، في أمور الحياة كلها، تجد أن الإنسان يميل إلى إلقاء التبعة على الآخرين.
وقل مثل ذلك أيضاً في المشاكل التي تحصل بين الناس، بين اثنين، وقد جربت أكثر من مرة أن أدخل لإصلاح بين متخاصمين خصوصاً إن كانوا من الأقارب الذين يستكثر أن يتخاصموا، أو من أهل الخير الذين أيضاً يستكثر أن يتخاصموا، فتجد أنك تأتي إلى ألِف لتحل أو تساعده في الحل، فيستغرق منك ثلاث ساعات في الحديث المفصل عن النفس، أنا تحملت كذا، وصبرت على كذا، وجاءني كذا، وقلت كذا، وفعلت كذا، ويقدم صورة، أنت لا تشعر أنه يخادعك حقيقة، لكن تشعر أنه يخادع من؟
مداخلة:...
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة:جميل، تشعر أنه يخادع نفسه أحياناً؛ لأنه يترافع عن نفسه، يعبر عن رؤيته الخاصة وزاويته الخاصة في النظر لهذه القضية، وربما يؤثر فيك بلحن القول، وبلاغة الكلام، حتى تظن أن هذا الإنسان مظلوم، فإذا أتيت للآخر قدم لك الصورة الأخرى، فتجد أنك أصبحت في حيرة من أمرك، كيف تصلح؟ إذا كان كل إنسان ينظر من زاوية الأنا، ومن زاويته الخاصة، ويقيم الأمور حسب نظره الشخصي، والآخر كذلك، معناه أنه لا يمكن عبور هذه الهوة القائمة بينهما، لا يمكن تجسيرها وبناء محاور التواصل بين الطرفين المتخاصمين.
لكن لو أن كل واحد منهما حاول أن ينقل نفسه من الأنا إلى أين؟ إلى الآخر، وينظر من زاوية الآخر، فيلتمس له العذر فيما قال، والعذر فيما فعل، وأنه قد يكون ظن ظناً، وقد يكون أصاب في هذا، وإلى آخره، لوجدت أن نصف هذا الجليد القائم والحاجز بينهما يذوب.
فتلاحظ هنا الأنا كيف تبرز في قضية الصراعات والخصومات بين الناس، وكون كل واحد منهما ينظر إلى الأمر من زاويته الخاصة، والشيء الغريب والمدهش والمحزن حقيقة في الوقت نفسه أنك تجد أن كثيراً من المتخاصمين سواء كانت خصوماتهم شخصية، أو دعوية، أو علمية، أو غير ذلك، ربما تسمع من كل واحد منهما من الكلام ما يتفطر له القلب في الحديث عن المثاليات والقيم الجميلة، والمعاني الرفيعة، ربما كل واحد منهم يقدم لك موعظة راقية في قضية الصبر، وقضية التحمل، وقضية ضرورة الاجتماع، وقضية وحدة الكلمة، وعذر الآخرين، وهذه المعاني الجميلة التي ربما أتيت وفي بالك أن تتحدث عنها، فوجدت أنك تتلقى فيها موعظة جميلة فعلاً، ومع كونها جميلة فهي في نظرك صادقة؛، لأن هذا الإنسان ليس بالضرورة أنه يمثل عليك، لا، تشعر بأنه يتحدث وهو صادق، يتحدث من معاناة، لكن مع ذلك هو في معالجته الشخصية للموضوع الذي يخصه ينظر من زاويته الخاصة، ويريد من الآخر أن يأتي إلى حيث هو، بدلاً من أن يرحل بهذه الأنا إلى الآخر، ولذلك كثير من المشاكل لا تنحل.
فأقول: إننا كثيراً ما نميل إلى التخلص من تبعات الأخطاء وإلقاء التبعات على الآخرين، قل مثل ذلك بالنسبة للجماعات والمجموعات والأمم،فإنك تجد أن الكثيرين يميلون إلى اعتبار أنفسهم قاموا بما يجب، وأدوا الأسباب كاملة، لكن أن الإخفاق الكلي أو الجزئي الذي منوا به يرجع إلى عمل الأعداء والخصوم، فالأعداء كادوا وخططوا ورتبوا وحاربوا، ويذكر الإنسان أمراً طويلاً في هذا الباب، قطعاً نحن لا ننكر كيد الأعداء، والله سبحانه وتعالى أثبته في القرآن الكريم، بل قال سبحانه: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ))[الفرقان:31]، هذه الآية في أي سورة؟ في الفرقان هذه أو لا؟ في سورة الأنعام: (وكذلك جعلنا لكل).. لا لا، لكل.. ماذا الآية؟ أول الآية ماذا هو؟
مداخلة:...
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة:(( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ))[الأنعام:112]، فأشار إلى عداوة الأنبياء، وأن الأعداء يتناصرون فيما بينهم، ويزخرفون القول، بل إن شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض، وهذا أثبته الله في كتابه بطريقة واضحة.
إذاً: الإسلام له أعداء، المسلمون لهم أعداء، الإنسان ما من إنسان إلا وله عدو، وقل مثل ذلك في أي مشروع خيري، أو عمل، أو إصلاح، له أعداء من غير المسلمين أو من المسلمين، الذين يختلفون مع هذا العمل اختلافاً كلياً أو جزئياً، هذا ليس هو محل الجدل ومحل النقاش، لكن السؤال هل هؤلاء الأعداء بما في ذلك أعداء الإسلام يهوداً كانوا أو نصارى أو مشركين، هل هؤلاء هم الذين يسببون الإخفاق للمسلمين؟ أم أن الإخفاق ذاتي في الأصل والأعداء أعانوا عليه، القرآن ماذا يقول؟ 
يقول الله تعالى: (( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ))[آل عمران:120]، ففي ذلك إشارة إلى أن الهزيمة تبدأ من أين؟ من داخل النفس، الهزيمة تبدأ من داخل النفس، ولو أن المسلمين اتقوا ربهم وصدقوا وصبروا لم يضرهم كيد الأعداء شيئاً.

نظرية المؤامرة وأثرها على تفكير الناس



الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: إذاً: نحن كثيراً ما نسمع كلمة تحتاج إلى نوع من التفصيل، ويختلف الناس حولها ويضطربون، وهي كلمة ما يسمى بنظرية المؤامرة، ماذا تعني نظرية المؤامرة؟ نظرية المؤامرة تعني: أن هناك نوعاً من التفسير أو التحليل للأحداث يقوم على اعتبار الإنسان ضحية لمؤامرات الأعداء، فكل ما يصيبه من النكبات والهزائم وأنواع الفشل، يعزوه إلى مؤامرات الآخرين، على سبيل المثال: لما نتحدث عن تخلف المسلمين في مجال التقنية كمثال، وكون الأعداء يملكون زمام التقنية، والتقدم العلمي والتكنولوجي، والمسلمون لا يملكون ذلك، ماذا نفسر هذا؟ نفسر هذا بأن الأمم التي تملك زمام التقنية، تسعى إلى حجب الأسرار والمعلومات التقنية عن الأمة الإسلامية، هل هذا الكلام صحيح أو خاطئ؟ هذا يرجع إلى قضية نظرية المؤامرة.
لما يخفق عمل من الأعمال الدعوية في بلد من بلاد المسلمين، قامت دعوة، ودروس، ومحاضرات، وخطب، وجمعيات، ومراكز إسلامية، وأسلم كثير- مثلاً- من النصارى، ودخلوا في دين الله، وشيء من هذا القبيل، ثم بعد ذلك صار هناك نوع من الفشل والضعف والتراجع،وتشتت مثلاً هذا العمل، فتجد أننا سرعان ما نقول: إن مثلاً الكنيسة والمنظمات التنصيرية لم يرقها هذا الحال، وسعت إلى عرقلة هذا النشاط، وأوغرت صدور المسلمين وزرعت الفرقة بينهم، وإلى آخره، حتى وصلت النتيجة إلى ما وصلت إليه.
لما يخفق عمل من الأعمال الجهادية، كما حصل نسبياً في أفغانستان، أو في غيرها من البلاد الإسلامية، تجد أن المسلمين سرعان ما يعزون ذلك إلى مخططات اليهود، وجهود الأعداء، والقوى الظاهرة والخفية التي تكيد ضدهم، يرجع السؤال هل هذا الكلام صحيح أم لا؟ نقول: القضية فيها نوع من التفصيل لابد منه، أما أن الأعداء يكيدون ويخططون، وأن لهم نصيباً في هذا الإخفاق، أو الفشل، أو التأخر، أو التراجع، أو التخلف أياً كان نوعه، فهذه عندنا من القطعيات الضرورية التي لا تحتمل النقاش من حيث إثبات أصلها، وأدلتها في القرآن والسنة والتاريخ والواقع ظاهرة ما تحتاج إلى بيان، لأنك تجد أن كثيراً من غير المسلمين حتى من عوامهم- كأن يكونوا نصارى أو يهود، حتى لو لم يكونوا من أصحاب القرار - تجد أن عنده نوعاً من الشعور بالتمايز عن المسلمين، والكراهية لهم، ولو لم يكن مربى أو مدرباً على ذلك؛ لأن مجرد شعوره بأنهم ينتمون إلى مذهب غير مذهبه أو دين غير دينه يجعله يشعر بالاختلاف عنه، وهذا الاختلاف يولد شعوراً سلبياً في الغالب عند الناس.
وهناك استثناءات، الاستثناء لا حكم له، هذا من حيث الأصل العام، لكن أيضاً يجب ألا نقبل بنظرية المؤامرة كعامل وحيد في تفسير الأحداث، هي واحد من ضمن عشرات العوامل، وهناك عوامل كثيرة جداً هي عوامل ذاتية من داخل النفس، أو من داخل الصف، أو من داخل الأمة، هي التي ولدت هذا التخلف، وجعلت كيد الأعداء ينجح: (( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ))، فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية أثبت الكيد أو لا؟ أثبت وجود الكيد: (( لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ )) إذاً: هناك كيد، والكيد هو التخطيط الخفي، وغالباً ما تجد أن المكر خفي، والله سبحانه وتعالى يقول: (( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ))[إبراهيم:46]، وفي قراءة: لتزولُ منه الجبال، فأثبت المكر، وأثبت الكيد، والكيد هو التدبير الخفي اللطيف الذي قد لا يدرك، وهذا تجده واضحاً، إنما أثبت أن هذا الكيد يفعل فعله في النفوس، والصفوف، والأمم، التي فقدت الحصانة الذاتية، فقدت الصبر، وفقدت التقوى، فقدت التحصين الذاتي، وهذه تقريباً يسميها الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله قابلية الاستعمار؛ يعني: كون الشعوب قابلة للاستعمار، عندها جرثومة المرض فبمجرد ما ينتشر الداء تتقبله، وتتشربه، وتتأثر به.
إذاً: من مظاهر الأنا رغبة الإنسان في التنصل من الأخطاء، والتبعات، والإخفاقات، والفشل، وعزو ذلك إلى الآخرين، سواء على الصعيد الفردي، أو الجماعي، أو الأممي، هذا نموذج واضح، لماذا؟ لأن هذه الذات الزكية المطهرة الراقية الكاملة الكامنة في نفوسنا، ذات الصبغة الفرعونية، لا تريد أن تخدش.

الحرص على امتلاك الأشياء منفرداً وحجبها عن الآخرين



الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: النموذج الثاني أو المثال الثاني: يمثله حرص الإنسان على امتلاك واقتناء الأشياء لنفسه، وحجبها عن الآخرين، وهذا له اسم في الشرع، من يسعفنا به؟ له اسم وضده له اسم في الشرع أيضاً.
مداخلة:...
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: الأثرة، جميل، هناك شيء اسمه الأثرة، ونقيضه أو ضده الإيثار، فـالأثرة هي: أن الإنسان يحب أن يستأثر بالأشياء، يحب أن تكون الأشياء له، نقصد بالأشياء البيت الجميل، الزوجة، السمعة الحسنة، المال، الحق، أن يكون الحق في جانبه، وأن يحجب هذه الأشياء عن الآخرين، فهذه الأثرة ظاهرة، ولذلك يقول ابن السماك كما ذكر ذلك صاحب كتاب الإمتاع والمؤانسة أبو حيان التوحيدي يذكر عن ابن السماك أنه يقول: لولا ثلاث لم يقع حيف، ولم يرفع سيف، وجه أصبح من وجه، وسلك أنعم من سلك، ولقمة أسوغ من لقمة، طبعاً هذا كلام ابن السماك ليس حاصراً، هو يشير إن أسباب الصراع بين الناس تدور حول هذه الأشياء، الأسباب الدنيوية، طبعاً هذا ليس حصرياً، ولكن الكلمة تستفاد، لولا ثلاث لم يقع حيف، ولم يرفع سيف، سلك أنعم من سلك، ولقمة أسوغ من لقمة، ووجه أصبح من وجه.
فأنت تجد الإنسان بطبعه يميل إلى الأثرة، يميل إلى الاستئثار بالأشياء، أن تكون الأشياء له، وهذا أيضاً كما ذكرنا في النقطة الأولى، تجد الطفل الصغير عنده غريزة حب التملك، فهذه اللعب التي في البيت مهما كثرت لا يمكن أن يقبل أن تكون لعبة للآخر، له اللعب كلها، ما اشتري له وما اشتري لغيره فإنه يستولي عليه بالقوة لو استطاع، ولذلك أيضاً نرجع لـأبي الطيب:والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
فهو يشير هنا إلى الطبيعة البشرية التي تقوم على حب الاستئثار بالأشياء، وأن تتملك الأمور وتحجبها عن الغير.
ونقيضه كما ذكرنا الإيثار، وهو: أن يترقى الإنسان في الإيمان، والتخلص من الذاتية والأنانية والأثرة، حتى يصبح عنده نوع من إيثار الآخرين بالأشياء على نفسه، ولعل من الصور الراقية الجميلة في هذا ما حفظه لنا التاريخ، أولاً في الصحيح قصة سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف وعرضه زوجاته وبعض ماله عليه، أو القصة المعروفة في غزوة اليرموك، وكيف أن عشرة من الصحابة كان كل واحد منهم في ساعة الاحتضار حين يحتاج إلى جرعة من الماء، ولما تتسنى له يسمع أنين أخيه إلى جواره فيؤثره بها، ثم يموتون دون أن يشربوا هذا الكأس من الماء.
وفي ذلك نظائر جميلة تدل على معنى لا بأس أن أشير إليه وهو أن الإيمان الصادق، وشدة المراقبة للنفس، وشدة التزكية للنفس، وزمها بزمام التقوى والمراقبة يمكن أن تثمر نقيض هذه المعاني السلبية، فتتحول الأنا في المثال الأول إلى قدر من التجرد، وقدرة الإنسان على الاعتراف بأخطائه وتجاوزها، ومعرفة ما أصاب فيه الآخرون والانتفاع بذلك، وتتحول في المثال الثاني إلى قدرة على الإيثار، وتقديم حتى النفس أحياناً فداء للآخرين إذا كان في ذلك مرضاة لله عز وجل، وتعرفون قصة عبيدة بن الحارث في غزوة بدر لما طُعن في المبارزة، ثم جيء به وهو يلفظ أنفاسه قد قُتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حماية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله لو رآنا أبو طالبأو نحو ذلك لعلم أنا أحق منه بقوله:كذبتم وبيت الله نبزى محمداً ولما نطاعن دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرّع دونه ونذهل عن أبنائنا والحلائل) . 
فيبلغ التجرد بالإنسان، والتخلص من الذاتية، ومن الأنانية، ومن الأثرة، إلى حد أن يؤثر بروحه غيره في سبيل الله، ولذلك قيل:يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
فهذا طبعاً مما تصل إليه النفوس إذا تجردت وآمنت وأدركت ضرورة الخلاص، أما إذا فقدت ذلك فإنك تجد الأثرة تصحبها في كل حركة، وكل خطوة.

نسيان معاناة الآخرين رغم المرور بها



الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: أنت يوماً من الأيام جالس عند الطبيب، جالس في الانتظار طبعاً، فدخل قبلك مريض، وأنت تنظر في الساعة كل ثلاث دقائق.
- أعوذ بالله تأخر.
كل هذا ربما أنه جلس (يسولف) مع الطبيب، ويتحدث في أحاديث لا قيمة لها، وكل خمس دقائق يعلق الجميع، ويتحركون، ويعبرون عن تبرمهم من إطالة الطبيب، ثم إذا خرج الجميع يتأففون ويتأوهون، فإذا قمت وجاء دورك، ودخلت على الطبيب، خلعت ذلك المعطف، ولبست معطفاً آخر، فجلست قرير العين عند الطبيب لا تنظر في الساعة، وإنما ربما تتحدث مع الطبيب، وتقول: إني سبق أن رأيتك، أين رأيتك يا دكتور؟ وربما تعلق، وربما تنظر في الغرفة فتعلق على ما بدا لك منها، وكلما سألك الطبيب تحدثت معه باستفاضة، وبدلاً من أن تقتصر على ذكر العلة التي تعاني منها، فإنك سردت عليه تاريخك الطويل، وفي طفولتك، وأنك سبق أنه حصل كذا وكذا، وأشياء لها علاقة وأشياء ليس لها علاقة، لماذا؟
لأنك خلعت معطف الذات الذي كنت تنظر به إلى الآخرين، ولبست معطفاً آخر.
لو أن عندك الإيثار لكنت تصبر حين كنت على كرسي الانتظار، لماذا؟ لأن هذا المريض أخذ شيئاً بحقه، إما أنه جلس ينتظره، أو أنه دفع مالاً من أجل الحصول على هذا الوقت الذي قضاه، وبالمقابل لما دخلت شعرت بنفسية الآخرين الذين ينتظرون الآن عند الطبيب، فحاولت أن تقتصر على القدر اللازم، وأنا لا أقول الضروري؛ لأنه لا نريد أن نكون مثاليين أو خياليين، نريد أن نتعامل مع الواقع، فلا تسمح لنفسك باستطراد أو استرسال أو تطويل لا فائدة معه؛ لأنك استبطنت شعور الآخرين الذين هم الآن في دور الانتظار.
طبعاً قل مثل ذلك في أشياء كثيرة جداً لا تتناهى، أنا أذكر هذا المثال البسيط، وأرجع لأقول لك مرة أخرى: لو حاولت أن ترصد آثار الأنا في تملكك للأشياء في خلال يوم أو أسبوع لوجدت من ذلك الشيء الكثير جداً.
هناك طبعاً نماذج وأمثلة عديدة وسوف أسترسل بها، لماذا؟ لأني أعتقد أن كثيراً من أخطائنا الفردية والاجتماعية والدعوية والعلمية وغيرها يكون للأنا جزء من المسئولية، فنحن نعالج الأخطاء الظاهرة، وننسى خطأً وراء الأخطاء أحياناً، وهو تسلط الأنا، فلذلك وجدت نفسي مضطراً إلى أن أفصل، وسأفصل أيضاً في جوانب أخرى في هذا الموضوع الذي هو موضوع الأنا، أو موضوع الذات.
بالمناسبة علماء النفس يسمون هذا المعنى بالنرجسية، عقدة معينة يقصدون من ورائها عشق الذات،عشق الإنسان لذاته، تغزل الإنسان بنفسه، ويعزون هذا إلى قصة وهي كيف أن شاباً أظن يونانياً أو شيئاً من هذا القبيل رأى صورته على صفحة الماء، وكان جميلاً وسيماً، فأعجب بها وتعلق بذاته، هذا أصل الأسطورة.
وهذا المعنى الرمزي تجده موجوداً يبرز عند أقوام حتى يتضخم، ويختفي عند آخرين حتى يحتاج إلى استخراجه بالمناقيش، وأنا أذكر أستاذاً كان يدرسنا في المرحلة الثانوية، ففي كثير من الأحيان قبل أن يبدأ بالدرس، أو حتى بالإجابة على سؤال لابد أن يقدم بين يدي إجابته بعبارات الثناء على الذات، الشخص الذي أمامكم ليس بالبسيط، الشخص الذي يتحدث معكم إنسان عظيم فعلاً، ثم يشرع، قد يكون عند الرجل جوانب إيجابية، معلومات، خبرات، لكن هذا الغزل المكشوف يجعل الاستفادة منها أقل.
إذا كان لأحد إضافة حول النقاط التي ذُكرت فلا حرج، أي نعم.
حياكم الله جميعاً يا إخوان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق