الاثنين، 27 مايو 2019

أحمد العمري صانع الأنفاق!


أحمد العمري صانع الأنفاق! 


بقلم د محمد عباس

كانت لحظة تعرفي بالدكتور أحمد العمري لحظة رائعة ومروعة..
لحظة شبيهة بتلك اللحظة التي عبر عنها هو نفسه  بفكره القابع "خارج التصنيف".. بطموح النسر، ودأب النملة.. بالتوفيق الإلهي يتوج  الجهد البشري  الذي يجمع بين الأمرين و يوصله إلى مقاصده عبر طرق تعيي أصحاب الحيل.  بأسلوبه الرائع وحساسيته المدهشة وموهبته العبقرية في عمله الدامي المروع الرهيب القاسي الدامع الباكي الحنون الجبار الرحيم اللائم المعاتب المُدين المتفجر المحاصَر المحاصِر المحاكِمَ للأمة المستعيد للتاريخ الرازح تحت الحاضر  الراني للمستقبل المدوخ بالألم والمستدعي لماضي الفخار والندم والمفعم بالأمل الــ.. الـ.. الــ.. الـ.. الــ.. الـ.. ألف الــ.. عمله:  "ليلة سقوط بغداد".

في " ليلة سقوط بغداد" كان أحمد خيري العمري يقتص من الأمة.. يجلدها.. يعاقب صمتها الخسيس.. .. يندد بعار النجاة الدنيء الذي تسربلت به.. يعاتبها.. يعذبها ..يبكيها يفضح عجزها  برواية ما حدث لبغداد أمام العالم وأمام الأمة المشلولة الراكعة لغير الله المستذلة لأعداء الله..
ولم يكن أحد ممن يقرؤون يستطيع ادعاء البراءة..
الفجار الذين يزعمون البراءة لا يقرءون!..
نعم .. كانت لحظة تعرفي بالدكتور أحمد العمري لحظة رائعة ومروعة..
تلك اللحظة التي عبر عنها بقوله: 
"كل شيء يبدو أنه كان يهم شخصاً آخر بعد   عشرة أيام من الحرب.. وعندما سألتني زوجتي وهي تهم بتفقد روضتها – إذا كنت سأذهب لتفقد عيادتي؟- ارتعبت كمن قالوا له إن على الباب يوجد شخص يطلبه، وقد كان يتوهمه مات منذ عدة عقود"
أنا أيضا.. وأنا أقرؤه أصابني رعب كرعبه..
ظننت أن كل شيء انتهى ومات.. العراق.. وبغداد .. والناس.. والتاريخ والجغرافيا والخير والجمال والعقل والمنطق والميزان بين الأشياء.
نعم.. ظننت كل ذلك مات .. أما باقي عالمنا العربي فقطيع من خراف لوثوا عقله وزيفوا وعيه فإذا به يندفع نحو المجزرة المعدة له وهو فرح بها نشوان.
لكنني أفقت في  صفحات"ليلة سقوط بغداد" على أمور كثيرة.. لا يهم الترتيب أيها كان الأول وأيها كان الأخير.. لا يهم الزمن.. لا يهم الفاعل ما دمنا نحن المفعول..  
وكان بين ما أفقت عليه أن ثمة منافسا خطيرا لي في حب بغداد.. لم أكن أظن أن هناك كاتبا عربيا بكاها كما بكيتها وكتب عنها كما كتبت (كتاب من 800 صفحة ومقالات تكفي لكتابين مماثلين).

دوّختني "ليلة سقوط بغداد" فلم أكد أفق من الدوار حتى فاجأتني أعماله الأخرى..
كانت "ليلة سقوط بغداد" قد حفرت موقعا للعمريّ في قلبي وعقلي.. فتلقيت أعماله الأخرى متسائلا عن قدرته على الاستمرار بهذا المستوى الفذ.. هل هو من كتاب العمل الواحد مثل"فرانسواز ساجان".. لكنني أفاجأ بفرسيْ رهان وبمنافسة خطيرة بين الكاتبين.. نعم.. الكاتبين: أحمد خيري العمري كاتب "ليلة سقوط بغداد" و أحمد خيري العمري كاتب بقية الأعمال: البوصلة القرآنية والفردوس المستعار والفردوس المستعاد وضوء في المجرة(ستة أجزاء) وكيمياء الصلاة(ستة أجزاء) وروايتان:"أبي اسمه إبراهيم " و:"ألواح ودسر"
إيهٍ يا أحمد العمري..
أي روعة وأي جمال وأي إبداع وأي فكر وأي ثقافة وأي شمول..
أقرأ الفردوس المستعار فتسلب لبي.. أكاد أصرخ في عالمنا الإسلامي: هذا كتاب لابد أن يقرأه كل تلميذ في المدارس وكل صحافي وكل كاتب وكل مفكر وقبل ذلك وبعده كل شرطي وكل جندي.. وأخص الأخيرين لأن الإصابة فيهما أشد.. والتأثير منهما أكثر.. نعم .. أريد من كل واحد من أولئك أن يقرأه بل أن يحفظه.. ليت وزارات التربية والتعليم تقرره  على المدارس أربعين عاما (مثل كتاب :"الأيام لطه حسين" المقرر على المدارس المصرية  منذ أربعين عاما  فلما عنّ لأحد المسئولين تغييره لصالح كاتب تغريبي آخر انفجرت مزرعة حيوانات العلمانيين والتغريبيين بالعويل والصراخ والصياح والعواء والفحيح والنباح).. كانوا يعترضون لأن الوزارة سترفعه من المنهج الدراسي بعد أربعين عاما!..
الفردوس المستعار والفردوس المستعاد  كتاب يجب أن تعقد له آلاف الندوات وآلاف حلقات النقاش.. وأن يعد له برنامج على فضائحياتنا (يسمونها فضائيات وأسميها فضائحيات) يتجدد باستمرار..
***
ثم أقرأ البوصلة القرآنية ..
يزداد الصخب والعنف  ويصطخب الصراع وتظهر بوادر الخلاف بيني وبين الدكتور أحمد خيري العمري.. لكنني -وهذا عجيب حتى بالنسبة لي- يزداد انبهاري به كلما أوغلت في قراءته برغم أي خلاف.  ربما- وهذه محاولة للتفسير- أن انبهاري لا يعود لفكره المتوقد فقط بل لجذوة النار المشتعلة في وجدانه.. أشعر بها وأحس بلهيبها.. وهي نار مقدسة.. نعم .. أنا كاتب مخضرم عجوز.. أدرك معنى الكتابة وخبرتي تفوق خبرة القارئ العادي.. لذلك أدرك كم أن أحمد العمري نبتة نادرة مبهرة يصيبني اليأس لأنه ليست لدي طاقة ولا طريقة للحفاظ عليها ولتخليدها..!.. كنت أتمني أن توجد طريقة وجدانية غير الكلمات أكتب بها عن أحمد العمري.. طريقة كالحلم.. حيث الكلمات دون صوت والكتابة دون قلم والمشاعر بسرعة الضوء.. وحيث أصل إلى عقول الناس ووجدانهم دون المرور بأبصارهم!..أغزو عقولهم  دون أن يقرؤوا كلماتي!
 أستغفر الله..!!..
أنا كالمهندس المعماري الذي يرى "الماكيت" فيرى بعيني خياله البناء كاملا يعج بالحياة.. ذلك المهندس سيدرك عظمة الماكيت وسيتجاوز عما فيه من هنات أو حتى من أخطاء لأنه يدرك أنه سيتم تجاوزها عند التنفيذ أو بالزمن.. وهكذا أري إنتاج  أحمد العمري في الستين من عمره أو في السبعين أو في الثمانين.. وأظن أن هذا سيعتمد على الوقت الذي سيقررون فيه قتله!.
***
نعم .. أختلف أحيانا مع أحمد العمري..
 أختلف مثلا معه في معنى "المؤسسة الدينية الرسمية" وفي انتقاده لها وفي حدة ذلك الانتقاد. وتمنيت كثيرا أن تخف شدة إدانته لها.. وفي مرات عديدة أثناء قراءة"البوصلة القرآنية" كنت أشعر بالغيرة على علمائنا .. لكنني أدركت فجأة أن هذا الاختلاف يبدو صوريا ويتعلق بالاختلاف في المصطلح لا في المعنى..ذلك أنني أرى أن الإمام أحمد بن حنبل فقيه الناس هو المؤسسة الدينية الرسمية وليس ابن أبي داوود فقيه أمير المؤمنين!.. وبهذا تكون جبهة علماء الأزهر هي المؤسسة الرسمية وليس مشيخة الأزهر ولا مجمع البحوث الإسلامية. أدركت أن ما يقصده الدكتور العمري غير ما أقصده.. لأنني لا أرى حكما إسلاميا كي تكون له مؤسسة دينية رسمية.. لا أرى سوى قطاع طرق وعملاء استولوا على الحكم .. رحماء بالكفار أشداء علينا.. لا أرى إلا الملوك الكلاب والكلاب الدمى على حد تعبير الشاعر محمد عفيفي مطر. نعم.. دمى ينطبق عليهم ما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون-مع الاعتذار للعملاق عبد الوهاب المسيري لبعض المخالفة لرأيه في البروتوكولات!- التي قالت : " سنختار لهم حكاما ممن لهم صفات العبيد"..  لا يمكن إلا أن يكون شيوخهم على شاكلتهم.. إنني أرى المؤسسة الدينية الرسمية-حقا وصدقا وقولا-  في أبي حنيفة والشافعي وابن تيمية وابن القيم.. والقائمة طويلة لا داعي أن نذكر المتأخرين فيها كي لا نحاكم بقوانين الإرهاب!.. وأيضا لا داعي لأن أستفيض في وصف الجبهة الأخرى .. جبهة فقهاء السلطان.. لا لشيء إلا أن ذلك قد يوقعنا تحت طائلة قانون العقوبات.. وبهذا المعنى .. إذا تبنيت مصطلح الدكتور العمري في العلماء الذين يقصدهم فإن موقفي ينقلب إلى العكس.. لأعاتبه على فرط رقته مع من سماهم المؤسسة الرسمية.. فلا هم مؤسسة ولا هم رسميون.. وليسوا حتى من أعوان الظلمة وقطاع الطرق بل هم الظلمة أنفسهم.. وربما تنضح التجربة العملية بذلك.. ففي بلادي لا تكاد تُطلق تسمية: "المفكر الإسلامي الكبير" إلا على كافر ينقض عرى الإسلام عروة عروة!.
***
بيد أن الاختلاف مع الدكتور العمري هو شهادة له بالتميز والإبهار وهو قد لا يعنى التناقض بل التكامل كالشهيق  عكس الزفير لكنه ليس ضده. كما أن الخلاف والصراع يشتد ليس عندما تبتعد الشقة بين الأفكار لكن عندما تقترب جدا فكلما ازداد الاقتراب ازداد الصراع .. ودعوني أضرب مثلا: لو أن محمد على كلاي لاكم صبيا هزيلا فلن يكون هناك صراع.. لكن كلما اقترب منافسه من قوته كلما ازداد الصراع وازداد الجهد وازدادت الحيرة في الأحق بالفوز..  كما أن أجلّ الصراعات في صدر الإسلام لم يكن بين صواب وخطأ بل كان بين صوابين.
 أتذكر بيت شعر صلاح عبد الصبور:
أعطيك ما ملكت يدي من التجريب والمهارة..
لقاء يوم واحد من البكارة..
وأنت -يا أحمد العمري- تعطينا آلاف الصفحات من البكارة!
***
مع الأيام الأولى لمعرفتي بأحمد خيري العمري  داهمني شعور غامض وغريب بأنني التقيته منذ زمان طويل..ربما منذ أربعين عاما .. 
لكن هذا الشعور جوبه بما ينفيه. إذ كيف يمكن أن أكون قد التقيته ولم يكن قد ولد بعد؟ 
أنقض ظهري هذا الشعور الطاغي بالانسحاق بين يقينين  يمكن حدوث أحدهما ويستحيل حدوثهما معا.
شيء ما في انبهاري بطريقة كتابة أحمد العمري تؤكد لي أنني التقيته .. لا يمكن أن تخونني الذاكرة إلى هذا الحد.. هذا الانبهار أذكره.. أحسست به قبل ذلك.. اندهشت.. ذات الاندهاش من تلك "الطرق" المبتكرة في الكتابة..طرق لا تخضع للتصنيف..  و إعجاز في المرور من معني لمعنى.. وقدرة على توليد مسارات لم أكن أراها.. ومن ابتكار ما يشبه الأنفاق التي تنقذك من الاختناق في الزحام المفضي إلى الشلل..
من المؤكد أنني التقيته..!
من المستحيل أنني التقيته!!
فكيف يجتمعان.
***
فجأة انفجرت الذاكرة المضوأة كما يضئ كشاف ساطع  يسلط على بقعة من  خشبة المسرح لم تكن تراها على الإطلاق فإذا بك –فجأة – ترى كل تفاصيلها فكأنك لا ترى سواها.
كان ذلك منذ أربعين عاما أو أقل قليلا.. كنت في "دار الحكمة" بالقرب من ميدان التحرير في القاهرة.. وكان علىّ أن أصل إلى محطة باب الحديد  للقطارات - في ميدان رمسيس- لأدرك القطار الذي لم يتبق على موعده سوى عشرين دقيقة. كان عليّ أن أسافر على الفور فلدي موعد هام جدا لكن الوقت غافلني فتأخرت. وكانت  شوارع القاهرة المختنقة بالزحام والفوضى وعادم السيارات السام رمزا متجسدا على أمة مشلولة.
كنت أقول لنفسي ساخرا أن على إسرائيل أن تدفع بسيارتين تعطلهما في أحد شوارع القاهرة الكبرى.. ستصاب القاهرة بالشلل.. وتستطيع إسرائيل بعدها احتلالها بدبابتين!..
(دبابتان.. آآآه.. دبابتان كتلكما اللتين احتلتا بغداد)..
كنت أعلم من خبراتي السابقة أن اجتياز تلك المسافة التي لا تزيد عن ثلاثة كيلومترات تستغرق أقل من ثلاثة أرباع الساعة مشيا على الأقدام وما يزيد على الساعتين في السيارة. وأسقط في يدي واستبد بي اليأس فاستسلمت له. لكن صديقا كان يدرك أهمية الموعد قال لي: لا تقلق.. ووعدني أنه سيصطحبني في سيارته وأنني سوف أدرك القطار. أذهلني ذلك الصديق .. لا بطريقة قيادته للسيارة فقط بل بكيفية تخلصه من الزحام.. كان قد تدرب في شركة سيارات عالمية على القيادة الخطرة بل والبهلوانية وكان يبدو لي أنه يأتي بما يشبه المعجزات –كأن يسير على العجلتين الجانبيتين فقط مع الاحتفاظ بالتوازن الكامل!- وأن يسير بسرعة قصوى في شوارع بالغة الضيق. وهو بالضبط ما فعله. أفلت من الزحام. واندفع في شوارع وحارات كنت أظن أن سيارته أعرض منها فإذا به يطويها في سرعة هائلة. لم يكن في تلك الشوارع بشر ولا سيارات ولا محلات أو هكذا بدا لي الأمر.. بدت لي  تلك الشوارع كما لو كانت في مدينة مسحورة غير مدينتي..شوارع ما ظننت أنها توجد قط.. شوارع كنت أمر عليها كل يوم لكنني لم ألاحظها أبدا.. وأبدا لم أر مداخلها ومخارجها..  
شوارع وصف مثلها أحمد العمري في بغداد اسمها "الدربونة" وهي تصغير لكلمة "درب" والتي أكد العمري أنها الفخ الذي سيهزم أمريكا . اجتزنا "دربونات" القاهرة وأدركت القطار.
***
تذكرت كل ذلك متسائلا في دهشة: ما علاقة ذلك بأحمد خيري العمري؟.. ولماذا ذكرني بتلك الحادثة التي غابت حتى ظننتها اضمحلت وتلاشت..
فجأة.. انبلج التشابه كنور الشمس..
لقد فعل أحمد العمري في الكتابة ما فعله صديقي منذ أربعين عاما بقيادة السيارة في الشوارع التي لا يعرفها سواه..
لقد هرب من شوارع الفكر المزدحمة حتى الشلل الراكدة حتى التعفن والمختنقة بالسموم.. شوارع الفكر التي تحولت فيها مؤسساتنا الثقافية والفكرية إلى قلاع للأعداء تمتلئ بالقناصين الذين يغتالون من هم على شاكلة أحمد العمري.. وإلى فخاخ يتستر بها النخاسون كي يصطادونا ويسلموننا إلى الأعداء.. وتحول بعض قادة الفكر فيها من قواد إلى قوادين يزينون لباقي الكتاب بيع الشرف.. ويروجون للفردوس المستعار.. لم يكونوا مفكرين بل مجرد دعّار.. كانت شوارع الفكر مزدحمة بهم مختنقة بسمومهم  مسدودة بأكاذيبهم.
***
من مثل تلك الشوارع الفكرية هرب أحمد خيري العمري ليصوغ بالعبقرية شوارعه السرية ويصنع أنفاقه السفلية. يتجنب بها الزحام ويصل إلى الناس وإلى مبتغاه حيث لا يعرقله الآخرون.
هرب أحمد العمري من حيث كان لا يستطيع أن يسير إلى دربوناته السرية التي لا يعرفها سواه كي ينصب للعدو الغاصب فخاخه واثقا من قدرته في النهاية على القضاء عليه.
تلك الدربونات السرية والأنفاق التحتية كانت عبقرية أحمد العمري ومفاجأته الصاعقة المذهلة التي لم يتصورها عدو ولا صديق.
***
لكم أشعر بالخزي لأنني لم أعرفه قبل ذلك.. ولكم أدين كل "الميديا" الملوثة المدنسة الممزقة..
وأدين أيضا النقاد والصحف..
كان لقائي الأول معه في : "ليلة سقوط بغداد"..
كان مذهلا لي أيضا ومرعبا ذات عين الرعب الذي أصاب العمري بما يشبه صعقة الكهرباء عندما تذكر عيادته فـ: " ارتعبت كمن قالوا له إن على الباب يوجد شخص يطلبه، وقد كان يتوهمه مات منذ عدة عقود"
أنا أيضا ظننت كل شيء في العراق قد انتهى وانقضى وأن علينا أن ننتظر قرونا كي نرى فيها الحياة من جديد..
***
لكن..
كيف يكون العراق قد مات وانتهى وهاهو ذا ابن من أبنائه يصف صباح الاحتلال الأول مما يدل على الأقل أن بعضا من أهل العراق لم يموتوا! ( وليس أحمد العمري نبيا على أي حال ليصف الدنيا بعد موته كما وصف سيدنا موسى عليه السلام في التوراة تفاصيل موته وما حدث بعدها!.. على الأحرى : كما زعموا وحرفوا أنه وصف)..
يتذكر أحمد العمري ما حدث يوم الاحتلال الأول:
صباح الاحتلال الأول تجربة لا أتمنى لأحد أن يمر بها.
 صباح الاحتلال الأول، تفتح عينك على ما تتمنى أن يكون كابوساً وانتهى، تفتح عينيك وأنت تتذكر حوادث الأمس وتتمنى أنها كلها لم تحدث، كلها كانت مجرد كابوس وانتهى بمجرد أن تفتح عينيك.. للأسف لا. ستنتظر أن يصحح دماغك ما تشعر به، ويقول لك: لقد كان مجرد كابوس..
 أبداً. لا أحد يصحح لك شيئاً. إنه حقاً صباح الاحتلال الأول، ماذا ستفعل؟ هل ستقول: صباح الخير أيها الاحتلال؟..
 ربما ستغلق عينيك من جديد، ترغب في النوم مرّة أخرى، ترغب في الهروب وتعطي فرصة لأن يكون كل شيء قد تغير عندما تفتح عينيك مجدداً، قد تنجح في النوم، لكن ستفشل في الهروب، وعندما تفتح عينيك، ستجد الاحتلال لا يزال جاثماً.. ستجده لا يزال قائماً، ولم يستفد من تلك الفرصة التي منحته إياها..
 .. نعم. إنه الاحتلال، وبلدك بلدٌ محتل، وأنت تنتمي لشعب وقع في قبضة الاحتلال..
 .. وهذا هو يومك الأول فيه، تستطيع أن تعد الأيام أن شئت..
 .. ولعــل العــد سيطــول..
 ستقول لنفسك: لا، لعله لن يطول، لعلهم لن يطيلوا البقاء.. ويخرجون.. وينتهي هذا الكابوس..
.. وهل أحدثكم عن نفسي، أم أن ذلك سيكون منحازاً ومخالفاً لقواعد التأثير.. هل أحدثكم عن نفسي، أنا الذي لا يزال قلبي يغوص عميقاً كلما رأيت دبابة أو مدرعة أمريكية في الشارع، أنا الذي لا أزال أنظر إلى الإسفلت الذي تدوس عليه المجنزرات الأمريكية كما لو كنت أنظر إلى أشلاء أولادي وقد مزقتها عجلات الدبابات..
***
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه يا بغداد..
نكأت جرح القلب يا أحمد العمري..
الجرح لما يندمل ولن يندمل أبدا وما يزال ينزف وهاهي ذي كلماتك أسنة رماح تعبث في جرحي كما عبث سن رمح يزيد في شفتي الحسين..
تنهمر الذكرى..
في الصبيحة الدامسة  لسقوط بغداد كتبت مقالا بعنوان "عتـــاب على الأمة" قلت فيه:
ليس في مقدوري حتى لو حاولت أن أخدعكم.. ولا أن ألبس  لباس الخبير ولا طيلسان العالم ببواطن الأمور.. لأحاول أن أثبت أنني كنت على صواب..( رغم أن ذلك حق ) .. أو أنني توقعت ما حدث كما حدث.. ولا أن أخفف الخطب عليكم.. ولا أن أكشف لكم كم هو فادح ومخيف..
ليس في مقدوري أن أفعل أيا من ذلك حتى لو حاولت..
فقط.. أقول لكم أن الشهور الماضية كانت ألما لا يوصف.. حين بدت الكارثة كأنما هي قدر مقدور لا يمكن دفعه.. وما كانت قدرا بل كانت حماقة وخيانة أودت بنا إلى الهاوية.. ولو أن مصر والسعودية فقط أخلصتا في مقاومة العدوان الفاجر لما حدث هذا العدوان..
كانت الشهور الماضية ألما لا يوصف..
أما الأيام الماضية فقد كانت محنة لا تطاق.. وكان من أسوأ ما فيها اضطراري للقاء الناس.. واضطراري للتماسك أمامهم.. وكنت أتحين الفرص لأهرب منهم حتى أخلو بنفسي كي أبكي وأنتحب.
***
كانت  قسوة الفرحة الوحشية تضطرم في قلبي عندما بدأت قراءة : "ليلة سقوط بغداد".
ومقدما.. قبل أن أبدأ الصفحة الأولى.. بل قبل أن أقلب الغلاف امتلأت عيناي بالدموع.
لم أبك القاهرة كما بكيت بغداد..رغم أنني لا أظن أن القاهرة أقل احتلالا من بغداد..
أقف على مشارف  ليلة السقوط وكأنني مسترسل لا يدري ما يوشك أن يدهمه.. وكأنني واقف على أعتاب مخبأ العامرية  لا أدري الهول الذي ينتظرني فيه.
***
"ليلة سقوط بغداد"..
أتحسر الآن على صحيفة "الشعب" التي أغلقوها منذ عام 2000 بسبب مقال لي.
كان ذلك قبل سقوط بغداد.. وبعد سقوط القاهرة.. لا والله.. كان بعد سقوط كل عواصمنا.
لو لم يغلقوا صحيفة "الشعب" لظللت أسابيع أكتب عن "ليلة سقوط بغداد".. منذ ما يقرب منذ عشرين عاما قدمت فيها كتاب كبارا وفطاحل يعرفهم النخبة ويجهلهم العامة. كنت أتمنى أن أتوج باقتي تلك بأحمد خيري العمري.
 أيامها كتبت أيضا عن شاعر من أعظم الشعراء العرب المعاصرين ومن أقلهم شهرة هو الشاعر محمد عفيفي مطر. عملاق هائل صعب مخيف. 
احتج على الحرب على العراق.. فاعتقلوه وعذبوه. 
كتب ديوانا داميا رهيبا اسمه"احتفالية المومياء المتوحشة" يصف ما جرى..وهم يعذبونه من أجل العراق.. سأتلو لكم بعض ما فيه..
لا بد أن أتلو لكم بعض ما فيه..
فأنا متهم ومن حقي أن أدافع عن نفسي وأن أثبت العكس..
أنا متهم –كبلادي- بالصمت حين سقطت بغداد..
أصرخ: أنا بريء لكن بلادي مدانة..
لقد كنت في صف محمد عفيفي مطر.. لم أتوقف عن الكتابة مثله.. لكنهم أخذوه وتركوني..  أخذوه إلى حيث كان هو مصلوبا معذبا مجلودا تنهشه الكلاب في مباحث أمن الدولة في لاظوغلي.. فقط لأنه يدافع عن العراق( ملاحظة: ما بين الأقواس شرح من عندي لبعض الكلمات):
تحت العصابة كان وقت من دم..
والأفق مشتعل بوهج حريقه الممتد..
أنت تهز  رأسك..
تستفيق من المخدر وانتهاك الذاكرة( كانوا يعطونه عقاقير هلوسة لتدميره)..
شيئا فشيئا تخرج النهر المخبأ تحت جلدك(يقصد اعترافاته)..
أغيمة تبدو أم الإبريق صلصلة من الظمأ المفضض في العراء..
قلت اغسل القدمين والرسغين، أطفئ جمرة الفولاذ تحت أساور الصلب المحبك(يقصد القيود المعدنية)..
وارتخت في القيد أطرافي..
وكنت أفيق من خلط المخدر وانتهاك الذاكرة..
شيئا فشيئا..
قبل أن تبتل أطرافي انتبهت على فحيح الموت
يفهق في العصي وفي كعوب الأحذية:
- قم، طأطىء الرأس، استدر، واصعد، وقف..
كان الهواء رطوبة وحرارة وزهومة تعلو عفونتها..
ورائحة الشواء كأنها نتن الخليقة في سهوب الموت..
وكان القيد في الرسغين جمرا نابضا:
- " هيئه واحذر أن يموت فعهدة الأفراد كاملة الدفاتر"
كنت مشبوحا وسلك الكهرباء على يديّ
وكان برق من وحوش الطير ينهش ظاهر الكفّين(يقصد التعذيب بالكهرباء)..
تنبش ثم تلقط..
لا دمى يكفي ولا يكفي طحين العظم..
فانظر هل ترى..
لا شئ يبقى من بلادك غير جير العظم..
هل وطن سوى هذى المسافة بين لحمك في الجحيم وبين سلك الكهرباء
***
كان الاسم الرمزي لحرب تدمير العراق ليس عاصفة الصحراء بل المجد للعذراء :Ave Mary، وكان الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر يشاهد مقدمات سقوط بغداد وهو معلق معذب مهان معصوب العينين في جحيم لاظوغلي:

كان الليل تحت عصابة العينين ينبض ملحه المسنون..
بالبرق المفتت والدخان ومشهد الموت الأخير..
...
ومئذنة يؤذن فوقها الجزار  :Ave Mary
ومريم كانت اتكأت تهز النخل لا رطب ولا نجم  سوى الفولاذ منصهرا..  يئزّ  يؤجّ يهطل..
والدخان معارج الموتى وقافلة الحجيج..
صوت المؤذن  من رفات العامرية طالع متوضئ..
باللحم  والدم وانصهار  الرمل والفولاذ بالموتى
و أنت تخب في عار النجاة  تقلب الكفين من مقهى إلى مقهى..
ومن عار الحداثيين  في لغو القراءات الدنيئة  والضمير المسترق..
من المهارشة الخصية من مصارعة الديوك على بقايا الغائط النفطي.. والتنوير في ظل النعال..
و أنت في عار النجاة تخب..
والصوت المؤذن رائق الترجيع..
كان يثوّب  (يوقظ) الموتى..
فينبعثون من روح الظلام..
جماعة يتقطر الدم من وضوئهمو ومن قتلى الظهيرة في الميادين التي  امتلأت كتائب من سرايا الأمن..
تبدأ ركعة الميعاد على ربوبيات لاظوغلي..
ونهش الكهرباء على المعاصم والمحاشم..
***
أتذكر ما حدث في العامرية..
كان ما حدث في مخبأ العامرية مجدا للشيطان و أي مجد …
ومجدا للأمريكان و أي مجد..
هاجمت طائرة أمريكية من نوع الشبح ملجأ العامرية بصاروخ موجه بالليزر: "… محدثا فتحة في السطح والسقف وانفجر في مستشفى الملجأ، وبعد أربع دقائق وجه صاروخ آخر غبر الفتحة نفسها التي أحدثها الصاروخ الأول، و أغلق انفجار الصاروخ الثاني الأبواب الفولاذية التي يبلغ وزنها ستة أطنان وسمكها نصف متر، وأحرق مئات عدة من الأشخاص ، في الطابق الأعلى تبخر كثيرون منهم بالحرارة، التي بلغت درجتها آلافا عدة والمتولدة من الانفجار، وكان مصير مئات عدة من الأشخاص الغليان حتى الموت في مياه المراجل الضخمة المدمرة في الانفجار، لا يُعرف على وجه التأكيد عدد المدنيين الذين قُتلوا في ملجأ العامرية في تلك الليلة، كان السجل المدونة به أسماء الأشخاص الذين احتموا بالملجأ قد أودع في الملجأ نفسه ولم يعد له أثر ، ولكن من المعروف أنه قبل تلك الليلة، كان 1500 شخص يوقعون عند دخول الملجأ كل ليلة، وعُثر بعد المجزرة على أحد عشر شخصا قُذف بهم خارج الملجأ، وبعد ساعات عدة مرعبة استُخرجت من البناية البقايا السوداء المشوهة لأربعمائة وثلاثة أشخاص، وقدر أن مئات عدة من الأشخاص قد احترقوا وتبخروا ولم تعد ثمة وسيلة لتحديد هويتهم أو حتى عددهم، ووصف شهود منهم تام دالى، العضو العمالي في البرلمان البريطاني آثار النساء والأطفال المتفحمة على جدران الملجأ، تفحمت طبعات أقدام و أيد صغيرة على الجدران والسقوف وانطبعت على جدران الطابق الأسفل عند علامة الماء في الخزانات المتفجرة آثار اللحم البشرى على ارتفاع خمسة أقدام…"
يومها بكيت بغداد كما لو كانت قد اختفت من الوجود..
***
كيف استطاع أحمد خيري العمري أن ينجو من مخبأ العامرية حين انصهر الفولاذ وتبخرت الأجساد لكنه بالمعجزة ينجو ليكتب لنا الحكاية.. حكاية:"ليلة سقوط بغداد"..
أنا رأيته هناك.. فكيف نجا؟!.
***
هل قلت لكم أنني تخيلت أنني أعرف أحمد خيري العمري منذ أربعين عاما؟!
لم أقل لكم كل الحقيقة..
الآن أعترف لكم..لقد رأيته قبل ذلك بكثير جدا.. رأيته نازفا وجريحا عند سقوط بغداد على أيدي المغول الأُوَل.. ورأيته ينتقم لها في عين جالوت..كان يقف خلف سيف الدين قطز.. وعندما ألقى قطز بخوذته وهو يصرخ وا إسلاماه تلقاها العمريّ وأعادها إليه كي يحمي رأسه.. كما يحمي الآن رؤوسنا..  بل رأيته قبل ذلك.. رأيته يوم كربلاء يكاد يقتله الانفعال ويطيح به الغضب العاصف وهو يحاول اختراق الزمن كي يستشهد مع الإمام الحسين.. وخيل لي أن الإمام الحسين يشير له قائلا:
- ابق عندك.. معركتك قادمة وزمانك آت حيث تستشهد..
رأيته.. رأيت العمري والصخرة على صدره في الهجير يمسك بالبوصلة القرآنية هاتفا أحد أحد..
رأيته يتسلل خلف أبي الأنبياء إبراهيم ويحطم الأصنام معه..
ورأيته يهرع  إلى سفينة نوح ينجو من الطوفان..
بل رأيته وقابيل يظن أنه قتله فيدفنه لكنه بمجرد أن يدير قابيل ظهره ينتفض طائرا كالرخ إلى الزمن الآتي..
فهل خف اندهاشكم الآن من قولي لكم في البداية أنني عرفته منذ أربعين عاما؟!
***
في لحظة عبقرية عبر فيها "العمري" في "ليلة سقوط بغداد" وهو يحاذر النظر في المرآة خشية أن يواجهه وجهه القديم.. تلك اللحظة الغارقة في الخيال بالنسبة له كانت ما روعني عندما قرأته.. رأيت فيه ملامح وجهي القديم..
ها أنذا أظفر مرة أخرى بكاتب يهزني من الأعماق كما هزني ذات يوم العلامة محمود شاكر(المحقق لا المؤرخ-المصري لا السوري)  والدكتور محمد محمد حسين ومالك بن نبي ومظفر النواب وماركيز ودستويفسكي وتولستوي وتشيكوف وفوكنر ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ومنيف ومطر..
***
المبهر في اكتشافي لأحمد خيري العمري  أنني  كنت كالكاهن في أصحاب الأخدود.. وظننت أنني أموت حسيرا دون أن أجد غلاما يحمل علمي ورسالتي.. وفجأة وجد الكاهن الغلام.. وعلم أنه سيتجاوزه ويتفوق عليه.. ولشد ما أفرحه ذلك.
***
كان جزءا كبيرا من مشروعي الفكري هو ما يفعله الدكتور أحمد خيري العمري  الآن.. وهو إرساء قواعد أدب وفكر عربي إسلامي لا يستمد جذوره من الغرب.. ليس بسبب التناقض أو القطيعة.. بل عن طريق تواصل من يعلم أنه أسمى..
حوصرت.. واكتمل حصاري عام 2000 حين صادروا الصحيفة التي كنت أكتب فيها وأظنها كانت أفضل وأقوى صحيفة معارضة في العالم الإسلامي.. 
كنت قد كتبت فيها مقالا بعنوان:"من يبايعني على الموت" احتجاجا على قيام المسئولين في بلادي بنشر رواية: "وليمة لأعشاب البحر".. 
وخرج عشرات الآلاف من طلاب الجامعة يتظاهرون ضد ثقافة تروج للكفر والعهر والتطبيع- ولاحظوا أن الثلاثة متلازمة.. دائما متلازمة-  .. عامل العسس الطلاب المتظاهرين بقسوة.. فقد سبعة طلاب عيونهم.. فقأها الرصاص.. فانفقأ قلبي.. واعتليت صهوة الكتابة المباشرة.. وواجهت حملة إعلامية هائلة على مستوى العلمانيين في العالم العربي كله.. حملة تضارع الحملة التي اشتعلت بعد مباراة الكرة بين مصر والجزائر أو تلك التي اشتعلت حول قافلة شريان الحياة وجورج جالاوي والحائط الفولاذي النجس.. وتوقفت عن كتابة الرواية والقصة وخرجت شاهرا قلمي لأدافع بالمقال المباشر عن البديهيات المنتهكة والمنكرة..وسلمتنا الهزائم للهزائم حتى خارت العزائم.. وكلما جاءت هزيمة قلت هذه مهلكتي.. فتمضي ولا نهلك حتى تجيء بعدها قارعة أشد فأقول هذه.. هذه.. لكن الأمور لا تنتهي والهزائم أيضا.
***
لكم كنت حزينا عندما رأيت مشروعي يوأد .. وما أشد فرحي إذ أراه يولد من جديد على يدي أحمد خيري العمري ربما أفضل مما ظننت أني أفعل.
ربما كان هذا بعض سبب من انبهاري بأحمد خيري العمري..
***
في أتون الألم وجحيم العجز وجهنم العذاب كان يستبد بي كابوس لا يفوقه بشاعة إلا أنه واقع.. فينساب إلىّ خيال حزين، ربما كان رؤيا، وربما كان من خلال أستار الزمن رؤية، عن فارس، ربما كان في الأندلس أو في العراق أو في فلسطين أو في سيناء أو في البوسنة والهرسك أو الفلبين أو كوسوفا أو في بخارى أو في سمرقند، أو الشيشان أو كشمير أو في دمشق وبيروت والرياض والقاهرة،  فارس يحاول الدفاع عن قلعة تهدمت حصونها ونقبت ثغورها، وانشغل ولاتها الخونة، وأمراؤها اللصوص، انشغلوا عن الدفاع عنها بجمع ما سرقوه منها والهرب، ويقف الفارس وحيدا وحيرانا، هذا الثقب أولى بالدفاع أم تلك الثغرة، تلك الثلة من فرسان العدو أم تلك القلة، هل يندفع إلى اليسار أم اليمين أولى، إلى الأمام أم الخلف أخطر، كلما اتجه إلى مكان اكتشف أن الخطر في المكان الآخر أشد، وكلما عزم على أمر وجد أن فرصة تنفيذه قد ولت، تجيئه النداءات من كل صوب، والاستغاثات من كل جهة، اختلطت الأصوات فما عاد يعلم إن كان الصوت صوت أخيه أم صوت عدوه، وما إذا كانت الاستغاثة صادرة لتحذيره أم لتضليله كي يندفع إلى المكان الخطأ في الزمان الخطأ، اشتبكت الأصوات واختلطت الملامح، الأعداء يلبسون زى قومه وقومه يلبسون زى الأعداء، لم يعد يعرف، لم يعد يفهم، عيناه تكذبان وأذناه تكذبان وفكره يختل، إلى من يستجيب؟ من يُنجد وبمن يستنجد؟؟ تدور عيناه، تنسعر عيناه، يجرى لكن في نفس النقطة من المكان، يلهث، يدور حول نفسه، يظل يدور، ويدور ويدور..
***
يستبد بي هذا الخيال الكابوسي، ثم ما يلبث حتى يستسلم لواقع لا يكاد يختلف عنه.. لزمان طويل كنت أحسب هذا الفارس يحمل ملامحي .. لكن .. الآن تأكدت أنه يحمل ملامح أحمد خيري العمري!..
كان ثمة خيال عبثي صور لي أنني آخر الأحياء المهمومين بالأمة على ظهر الأرض! وأنه لن يأتي بعدي من يعاني ما عانيت.. فإذا بي أكتشف أنني تركت ابنا في هجير الصحراء بواد غير ذي زرع.. سوف يعيد حكايتي ويكمل رسالتي ..ابن.. أبوه اسمه إبراهيم!.
***
أواصل قراءة أحمد خيري العمري فيزداد إعجابي به..
أقرأ "كيمياء الصلاة" حيث  إهداءه الآسر:
"أهدي هذه السلسة إلى لميس الدفتري ، والدتي..محاولة سداد لدين لا يمكن سداده"
وحيث يقول:
في عالم لم يعد يؤمن بشيء، لا أزال أؤمن بقوة الكلمات..
في عالم لم يعد يؤمن إلا بقوة المادة، لا أزال أؤمن بقوة الكلمات، بقدرتها، بامتلاكها شفرة تفتح مغارات وعوالم..
في عالم فقد رشده منذ زمن طويل، لا أزال أؤمن برشد الكلمات..
أحياناً بمنتهى الشغف، وأحياناً أخرى بمنتهى البؤس، لكني لا أزال أؤمن بالكلمات..
وفي عالم رفع راية الاستسلام منذ زمن بعيد، لا أزال أؤمن أنا بالتغيير..
في عالم فقد الأمل في أن بالإمكان شيئاً ما، لا أزال أؤمن أنا بالإمكان.
وفي عالم صار يؤمن بالعبث.. لا أزال أتمسك أنا بالهدف..
في عالم لم يعد يؤمن إلا بالمصادفة، لا أزال أؤمن بأننا خلقنا من أجل هدف.. وأن الهدف هو أن نغير هذا العالم.. أن نعيد بناءه على أسس أكثر عدالة وتوازناً..
***
أقرأ كل أعمال الدكتور أحمد العمري فتصطخب داخلي مشاعر الإكبار والانبهار والاعتراض والإعجاب والتأييد والانفجار..
لكن.. تظل "ليلة سقوط بغداد" حبي الأول..
إن فقرة طويلة منها تحتوي في أحشائها على فكر أحمد العمري كله..
فلتقرءوا معي:
رغم القصف : يوجد أمل.
.. وماذا لديك – تحت القصف- سوى أن تكون فاراً مذعوراً..
ماذا لديك سوى أن تكون ما أنت عليه.. ترتجف كما تفعل وتحتضن صغارك كما تفعل..
ماذا لديك وعدوك يضربك من كل مكان. من قارة أخرى، من فوق البحار البعيدة، وحتى من أعماقها السحيقة، من الأعالي الشاهقة، ومن الارتفاعات المنخفضة.. من الأقمار الاصطناعية وربما حتى من الطبيعة..
ماذا لديك لتفعله ولا توجد حتى إمكانية للمقارنة – بين عدتك وعدتهم – ماذا لديك لتفعله والحرب محسومة النتائج سلفاً، ونتائجها محض أرقام : أرقام لإعادة الإعمار. أرقام لبراميل النفط. أرقام لأسعار النفط. أرقام للاحتياطي المتوقع وغير المتوقع.
.. وأيضا أرقام للضحايا..
.. وماذا لديك سوى أن تدعو الله أن لا تكون من بين هذهِ الأرقام.. وماذا لديك وأنت وأسلحتك من مخلفات عصر آخر، وأسلحتهم (تنتمي لعصر آخر أيضا ولكن في المستقبل) الكترونية ومبرمجة بالحاسوب، وقنابلهم الذكية تسيطر عليها أيدي غبية وأدمغة حقودة – حتى أقمارهم الاصطناعية التي تلتقط لبيتك وبيت جدك صوراً- تبدو ممتلئة حقداً عليك وعلى آبائك بشكل شخصي.
.. ماذا لديك لتفعله، وأنت الأعزل ابن الأعزل، المنتمي لأمة عزلاء ومعزولة، انفرد بها قاطعو الطرق في ليلة ظلماء، واغتصبوها عنوة، ونهبوا عفتها و متاعها وحتى ذاكرتها، وتركوها عارية على قارعة الطريق..
ماذا لديك لتفعله – أيها الأعزل- أمام كل ذلك الجبروت والصلف والطغيان، .. وأنت مرمي على قارعة الطريق ؟؟
لكنك لست اعزلاً قط . إذا كان عندك قيمك
لست اعزلاً قط – حتى لو جردوك من سلاحك، حتى لو كنت بلا سلاح أصلا – إذ1 ظلت معك قيمك..
لست اعزلاً أبدا – لا تقلها ولا تفكر بها- لو أنهم لم يتمكنوا من اغتصاب قيمك .. ومن انتهاب قيمك.. ومن استبدال قيمك.
كل تلك الجيوش الجرارة، مشاة البحرية، وسلاح الطيران، قوات التدخل السريع، وفرق الصيانة.. كلها –مجتمعة ومتعددة- لن تصمد أمامك، لو انك كان عندك قيمك..
سيهزم الجمع وسيولون الدبر، لو انك استمسكت بقيمك..، سيصبرون على البقاء، سنة أو اثنتان، أو عشرة – لكنهم سيسأمون ويملون إذا وجدوك صامداً- مستمسكاً بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها – لو تكسر صلفهم على صخرة قيمك وأنت تنقلها لأولادك وأولادك يعتبرونها الحجر الأساس لحياتهم، لو استطعت ذلك، لهزموا، ولرحلوا..
في صدام الحضارات، النتائج لا تحسب بتقدم القطعات العسكرية إلى هذه المنطقة، واحتلالها لتلك – في صدام الحضارات النتائج لا تحسب بالكم الجغرافي : ألف كيلو متر مربع أو عشرة آلاف ميل مربع.. ولا تحسب حتى بالنوع الجغرافي تلك التلة الإستراتيجية هناك، وذلك السهل الذي يحتوي على آبار النفط هناك
 في صدام الحضارات، الأمر مرتبط بالقيم..
ولو أن مجنزراتهم فشلت في فرض قيمهم – ولو انك استمسكت واستعصمت بقيمك، ولو انك لم تهزم من الداخل، وظلوا يحاصرون بيتك دون أن يحتلوه – وحتى لو اقتحموه- فأنهم لم يقتحموا عقلك.
لو انك صمدت أمام معسول وعودهم، وقاومت مناهج تعليمهم. وسددت أذنيك بوجه سمومهم. لو إن أبواب عقلك وقلبك ظلت موصدة بوجودههم، وظل الحاجز يحول بينك وبينهم..
 سواء رفسوا بابك ليفتحوه، أو حطموه فاقتحموه، أو طرقوه وفتحت فدخلوه .. سواء حدث هذا وذاك : فالمهم أن لا يقتحموك ..
والمهم أن ترفض الدسم الذي يقدموه – لأنك متيقن- أنهم دسوا فيه السم الذي عبروا المحيطات والقارات ليجعلوك تتجرعه..
.. لا ، لست اعزلاً قط، لو كان معك قيمك..
ولا تهن ولا تحزن. فالأمر لم يحسم بعد.
والحسم عند القيم. الحسم عند القيم. الحسم عند القيم.
.. لن يغلبوك أبدا – لو أن قيمهم لم تغلب قيمك..
لا ، لست اعزلاً قط –لا تقل ذلك- لو انك كنت مدججاً بقيمك..
***
***
***
هنا.. لنقف معا وقفة قصيرة..
لأنني وقفت هنا وحدي طويلا .. وكنت حائرا كيف أكمل المقال..
 أدخل القارئ إلى المأزق الذي وجدت نفسي فيه في هذا المفترق..
كان طموحي أن أكتب مقالا متكاملا عن أحمد خيري العمري.. أعددت أدواتي واحتشدت.. جمعت مقتطفات من كتبه وفوجئت –رغم الانتقاء الصارم والمختصر- بأن ما انتقيته يزيد على مائتي صفحة من كل أعماله.. وأن ذلك يحتاج إلى مائة صفحة على الأقل من التعليقات..
وأسقط في يدي..
طيلة الانتقاء كنت أعزي نفسي بأنني سأعيد الانتقاء مرات حتى أصل إلى حجم معقول..
وبدا لي الأمر مستحيلا..
كان مستحيلا أن أختصر أكثر مما اختصرت..
ومن ناحية أخرى كان هناك تأنيب فظيع للضمير.. لأن الأجزاء التي لم أخترها لا تقل روعة وأهمية عن الأجزاء التي اخترتها..
بدت الكلمات كائنات حية تلوم وتحتج وتصرخ..
وأدركت أنني حتى لو استوليت على هذا الكتاب الذي تعده "دار الفكر" كله وحدي فلن تكون دراستي عن أحمد خيري العمري كما أريد لها.
إنني أريد أن أتناول أعماله عملا عملا بالدراسة والتحليل والتعليق.. إنني أحتاج إلى آلاف الصفحات.. وحتى لو أتيح لي ذلك فإنني لا أستطيع وحدي التصدي لدراسة كل جوانب عبقرية أحمد العمري أو لنقد ما لا أوافقه عليه.
في هذه اللحظة أدركت أنني أمسكت بأهداب حلم مستحيل.. وأن الحلم أفلت مني..
وأن الأمر الذي أريده ليس لي..
أنه خارج نطاق استطاعتي..
إنه مهمة مؤسسات وجامعات وفضائيات وصحافة ومجلات ومعاهد ووزارات للتربية والتعليم..
لذلك أتراجع عما انتويته.. مستعيرا من أحمد خيري العمري إحدى مقولاته المبهرة في البوصلة القرآنية إذ يخاطب القارئ قائلا له أنه هو بذاته أحد الدلائل على إعجاز القرآن بالتأثير الذي يحدثه القرآن فيه.. وبما يدفعه إليه من تغيير..
إن كتب أحمد خيري العمري كفيلة بتغييرك أيها القارئ.. فعليك بها.. لأن أي محاولة لاختصارها تشبه اختصار تمثال أو لوحة فنية. فهي عملية مستحيلة. عليك إذن أن تتكلم عنها وتنشرها وتعرف أصدقاءك بها.. وأن تعلمها لأبنائك.. فهي كالمصل الواقي من مرض مميت.
***
إنني أناشد كل صاحب رسالة في هذه الأمة أن ينشر كتب هذا الكاتب وأن يكتب عنها.. أناشد الصحافة أن تنشر والفضائيات أن تعد البرامج والهيئات التعليمية أن تضعها في مقررات التعليم.. وأناشد شبابنا جميعا أن يقرؤوها. بل أناشد كتابنا أن يدْرُسوها وأن يتعلموا منها وأن يدرِّسوها ويعلِّموها.. لأن أحمد خيري العمري من ذلك النوع من الكتاب الفطاحل الذين يتجاوز تأثيرهم الثقافي القراء إلى الكتاب والمفكرين.
***
في البوصلة القرآنية سيذهلكم أحمد العمري بموهبة فذة وثقافة موسوعية وبفكر مدهش.. وفي الفردوس المستعار والفردوس المستعاد يتحدى العمري الدين الجديد.. دين الحضارة الأمريكية ويثبت بكل الوسائل أنه دين جديد لا يبدأ بالتصارع مع الأديان الرئيسية بل يتعايش معها ليزيحها في النهاية أو ليفرغها بالكامل من مضمونها.
يحاول أحمد العمري أن يعيد لنا فردوسنا المفقود وأن يرجع إليهم فردوسهم الملعون.
لقد  اكتشف على عزت بيجوفيتش شيئا مشابها فقال "إنهم جعلونا نفخر بما يجب أن نخجل منه ونخجل مما يجب أن نفخر به".
***
ما يزال أحمد العمري يحاول أن يعيد لنا فردوسنا المفقود وأن يرجع إليهم فردوسهم الملعون.
الفردوس الملعون الذي عبر عنه جورج أورويل في روايته الفذة"1984" حيث يصبح شيطانهم إلههم..أو كذلك التي عبر عنه الأديب الإنجليزي (ألدوس هيكسلي(في روايته المروعة "عالم جديد رائع" التي تكشف لنا المنتج النهائي للحضارة الغربية.. المنتج النهائي الذي سماه "العمري" الفردوس المستعار.. حين يذهب مجموعة من الطلاب في رحلة علمية  لأحد المختبرات الوراثية.. حيث يتمّ تعريفهم بالآلية التي يتمّ بها إنتاج البشر وتقسيمهم إلى فئات على حسب دورهم في المجتمع!
في البداية يعتذر المرشد لاضطراره لقول لفظيين نابيين بذيئين أمام الطلاب.. وما إن قالهما حتّى احمرت وجنات الطلبة والطالبات في خجل شنيع!..
فيا ترى ما هاتان الكلمتان؟
هاتان الكلمتان هما.... أب وأم!
فقد انتهى تماما النظام المتخلف المعروف بالأسرة، ويتم إنتاج البشر في المعامل بالهندسة الوراثية.
لا داعي للاستمرار في الرواية لكن هذه هي نهاية الفردوس المستعار الذي يحاربه ويفضحه أحمد خيري العمري.
***
 مفتون أنا برائعتيه عن إبراهيم ونوح عليهما السلام في روايتين بديعتين تصلحان للكبار كما للصغار.. ويا له من ملمح يخطف القلب خطفا وهو يصف الكفار من قوم نوح عليه السلام وهم يشرفون على الغرق، فيقول أنه بان على ملامحهم أن الموت أهون عليهم من الإيمان بالله و من الاعتراف بأنهم كانوا مخطئين..
وكأنه يصف علمانيينا ودعاة الدولة المدنية..
***
يخطف القلب في مجموعته البديعة عن الصلاة بطريقة عرضه وسرده وبمنهجه الفكري.. إنه يتحدث مثلا عن تكفير الصلاة عن الذنوب بينها إلا الكبائر.. لكنه يكشف لنا ما لا يخطر لنا على بال وإن استقر في الضمائر.. ذلك أنه يكشف لنا أن الكبائر ليست فقط ما نرتكب.. بل أيضا في تلك الأشياء التي لا نفعلها لتكون أكبر الكبائر أن تعيش حياتك لا تفعل شيئا.
***
مقالات العمري رائعة..
تحليلاته رائعة..
الجانب الروائي فيه رائع..
لكن"ليلة سقوط بغداد" تظل حبي الأول..
ولكن المساحة المتاحة لم تعد تتسع لمزيد.
فقط أقول أنه لن ينال جائزة نوبل أبدا.. سوف ينالها زميله طبيب الأسنان الآخر  الدكتور علاء الأسواني.. وقد تعلم كلاهما وعمل فترة في أمريكا.. وبادر الأسواني بالتشهير بأمته والسخرية من ثوابتها فحق له أن تطبق شهرته الآفاق و أن يبدأ انتظاره لنوبل بعد ثلاثة أعمال قيمتها مشكوك فيها تماما..
أحمد خيري العمري لن ينال نوبل أبدا لأنه يدافع عن ثوابت أمته.. يكتب بدمه وبجماع عقله وروحه.. إنه لا يبيعهم شيئا فكيف ينال منهم شيئا؟!.
المقارنة بين الاثنين تدل على مدى فساد الثقافة في بلادنا.
أحمد خيري العمري ومضة أمل وشعاع ضوء يحمل لنا رسالة أننا لن نتلاشى ولن نبيد ولن تهلك بيضتنا..
أحمد خيري العمري دليل على أمة ولود ستقهر ما تواجهه من صعاب..
أحمد خيري العمري لطمة  هائلة على وجوه غليظة لأشباه كتاب وأشباه نقاد وأشباه مفكرين سلعهم الشقاق والنفاق والسحاق والشذوذ والعهر والكفر وعبادة الذات.
أحمد خيري العمري شجرة وارفة تستحق من كبار نقادنا الشرفاء أن يلتفتوا إليها.. فذلك حق القارئ في عالمنا العربي والإسلامي.. حق القارئ الذي أغرق في مستنقعات الدنس وغياهب الظلمات أن يحس لمسة طهر وبصيص نور.
***
يا عمري.. يا ابن بغداد العظيمة.. بغداد الحبيبة.. بغداد الجريحة.. بغداد الشهيدة..
بل يابن أمتنا .. بل يا ابن الإسلام!!
***
الآن أدرك بعض سرك.. يا حبيبيتي .. يا جريحتي.. يا شهيدتي .. يا بغداد..
الآن أدرك كيف استطعت-أيتها البسيطة الصريحة الصادقة الأبية- أن تخدعي العالم.. ولم يكن لديك مخابئ ولا كهوف  ولا وسائل تشويش تجعل المرئي لا يرى..
الآن أدرك بعض عبقريتك وأرى بعيني رأسي أين خبأت أسلحة الدمار الشامل التي عجز العالم بكل ما فيه من علم وشر أن يعثر عليها..
الآن أدرك حبيبيتي .. يا جريحتي.. يا شهيدتي .. يا بغداد..أنك خبأتيها في قلوب أبنائك..
ها أنذا أصفعك يا عالم الشيطان وأبصق في وجهك وأقهقه ساخرا على خيبتك بل وغباء ذكائك لأشير إلى أحمد خيري العمري صائحا صادقا جادا : هذا هو سلاح دمارنا الشامل.. هذا سلاح لا تستطيع راداراتكم رصده ولا طائراتكم قصفه ولا صواريخكم نسفه.. إنه بعض عبقرية أمتنا..إنه سلاحنا السري.. وهو حيث لا تستطيعون العثور عليه أبدا فمكانه القلوب والعقول أما زمانه فهو المستقبل .. نعم.. خبأته بغداد في الزمن الآتي .. حيث لا تستطيع جحافل جيوشهم ومسوخ مخابراتهم الوصول إليه.
سيحاولون الحيلولة بينه وبين الناس.. سيسلطون عملاءهم على تجاهله.. وفضائياتهم على عدم استضافته.. وصحافتهم على عدم النشر له.. لكنه سيحفر أنفاقا بينه وبين الناس.. سيصنعها على عينه.. سيحاولون بناء الجدر الفولاذية بينه وبين الناس.. لكنه سينتصر.. وأنفاقه ستصل..وفولاذهم سيذوب ويتلاشى..
أدرك يا بغداد يا حبيبيتي .. يا جريحتي.. يا شهيدتي .. أنهم سيحاولون قتله.. وإنني أقصد القتل البيولوجي لا الروحي.. لكن ما لا يدركونه أنه جاء من وراء ما يدركون.. وأنك يا بغداد يا حبيبتي تحتفظين بشفرة جيناته السرية فكلما قتلوا لك ابنا أنجبت لهم آخرين.. سيأتون لك-أبناؤك- يا بغداد كما أتي الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين إذ ناداهم: أنا النبي لا كذب.. أنا بن عبد المطلب..
سيأتونك يا بغداد عبر دربوناتك السرية.. في طرق لم تتدنس بأعدائك.. سيأتونك عبر الأنفاق التي تتحدى الخيانات وجدر الفولاذ يا بغداد.. يا حبيبيتي .. يا جريحتي.. يا شهيدتي .. يا بغداد..
***
أما أنت يا أحمد العمريّ: فيجب أن تدرك أنك جوهرة نادرة.. وأنك لست ملك نفسك.. وأن تتعهد نفسك بالرعاية الفكرية والوجدانية والثقافية التي تجعلك تؤدي دورك..وأن تحافظ لنا عليك..لنا.. ولبغداد.. ووالله إني لأرجو أن تكون ممن عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يصلح لهذه الأمة أمر دينها"
*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق