الأحد، 26 مايو 2019

محاكمة القرني.. أزمة الصحوة أم أزمة المملكة؟

محاكمة القرني.. أزمة الصحوة أم أزمة المملكة؟

كاتب وباحث موريتاني



“ليس للمكره ولا للخائف رأي”، هكذا علق الدكتور محمد بن حامد الأحمري على مقابلة رفيق دراسته الدكتور عائض القرني، تلك المقابلة التي أثارت ضجة إعلامية كبيرة في مختلف وسائل الإعلام والمنابر، وقد اهتم المراقبون والكتاب بالمقابلة أو محاكمة القرني العلنية على الأصح بسبب علاقة الدكتور القرني بتيار الدعوة والصحوة، ولنوع المقابلة؛ إخراجًا ومضمونًا وتوقيتًا، وللواقع السعودي نفسه المتردي داخليًا وخارجيًا.
تحكُّم أبوظبي في القرار الرسمي السعودي سبقه تحكُّم آخر في وسائل الإعلام الممولة سعوديًا، وتحكُّم أشد في طبقة الكتاب السعوديين الليبروجاميين، فقناة العربية التي أنشئَت لمنافسة قناة الجزيرة تعبر عن السياسية الظبيانية أكثر من تعبيرها عن وجهة النظر السعودية -إن وجدت-

 حين تابعت حيثيات المحاكمة العلنية ورأيت آيات الخوف والإرهاب التي أحاطت بالاستجواب من كل مكان، وبرزت مع جُلِّ الأسئلة وتكررت في أكثر محطات المقابلة، رحمت الشيخ عائضًا القرني -فرج الله ما به وبإخوانه- واستعذت بالله خالقي وخالق كل نفس من غلبة الدين وقهر الرجال، ثم أكبرت الدكتور الأحمري على معذرته للقرني، فـ”أعقل الناس أعذرهم لهم”، وهذا من مكارم أخلاق الأوفياء،  “ومن ذا يعاتب مشنوقًا إذا اضطربا”، فكيف بمن يلوح عليه بـ”منشار” لم يجف بعدُ من دم حُرٍّ آخر لاحقته المنايا كالحات في مغتربه؟.
إن المثير في محاكمة القرني العلنية، -ولم ينل حظه من التعليق والتناول- هو محاولة الصحوي بالواو المديفر وبعض المعلقين جعل التحديات التي تواجهها السعودية ذات صلة بالصحوة أو التدين الوسطي فيها، أو بالمطالبة بالحقوق في محاولة للهروب إلى الخلف، وتحميل المغيبين في السجون والمنافي إخفاقات سلمان وابنه في كل المحاور والملفات، وهي محاولة محكوم عليها بالفشل ككل السياسات السعودية.
إخفاقات خارجية
لا يخفى على المتابع للسياسة السعودية الخارجية منذ صعود محمد بن سلمان وتحكم ابن زايد في قرارات المملكة أن الدور الخارجي للسعودية، والأخبار المتداولة عنها في وسائل الإعلام الجادة تتعلق بالأمور التالية:

  1. آهات الجوعى والمرضى والمشردين في اليمن جراء الحرب العبثية المكلفة ماديًا وإنسانيًا وأخلاقيًا وحقوقيًا.
  2.  وصفقة القرن والسعي الحثيث للتخلي عن القدس والقضية الفلسطينية برمتها.
  3. ورعاية هجوم السفاح حفتر على الشعب الليبي الأبي في شهر رمضان.
  4. وآثار فضيحة اغتيال خاشقجي المخزية.
  5. وحصار قطر الذي بدأ واستمر بلا مسوغات ولا أسباب.
  6. والانهزامات المتكررة أمام النفوذ الإيراني.
  7. وصفقات الأسلحة باهظة الثمن والتي لا ترد صائلاً ولا تهزم عدوًا.
  8. مع إهانات ترامب المتكررة للسعودية وقادتها، ولمزهم بالعجز عن حماية أنفسهم.
  9. ثم هروب من يستطيع الهرب من المواطنين السعوديين رجال أعمال وأحرار، ونساء بيوت ضقن ذرعًا بالتيه والضياع والحرمان.  
وإخفاقات داخلية!
ليست السياسة السعودية الداخلية بأحسن حالاً من الخارجية، فالأخبار القادمة من المملكة تدور حول تعذيب وتغييب مئات العلماء والدعاة والمصلحين والأمراء ورجال الأعمال وبعض الضباط وشيوخ القبائل في سراديب النسيان والطغيان؛ بعضهم اعتقل لدعوته لإصلاح سياسي متدرج، وبعضهم بتهمة الصمت، وبعض السيدات لمناوأتهن الصهاينة المغتصبين، وأخريات لأنهن سبقن ولي العهد “المجدد” في الدفاع عن حقوق أخواتهن في قيادة السيارة وغيرها من الحقوق العادية والعادلة التي يمن بها آل سعود على الشعب السعودي المحترم.
والجامع بين سجن هذا الكشكول المختلف هو المبالغة في التودد للصهاينة وعملائهم، وتلبية رغبات الانتقام الملتهبة في الجوانح الظبيانية والدحلانية، والتمهيد لصفقة القرن التي اشترى محمد بن سلمان بموجبها مع صفقات أخرى عرش أبيه وجده ولم يستطع الوصول إليه بعدُ.
الرياض في قبضة ابن زايد
 لم تبرز الأزمة الماحقة التي تحيط بالسعودية داخليًا وخارجيًا في عمل إعلامي كما برزت في محاكمة القرني وأسئلة المديفر، فالمحاور  الصحوي حرص أن يربط المصلحين ومعتقلي الرأي بجهات خارجية، وتحديدًا دولة قطر التي رقص فيها الملك سلمان نفسه، وتمايل فيها ابنه طربًا، لكن حرص عائض القرني وتكريره أكثر من مرة أنه كما زار قطر زار مجلس “الشيخ محمد بن زايد” يكشف عمق الأزمة التي تعاني منها مملكة آل سعود في طبعتها الجديدة غير المنقحة، كما تبدي بوضوح مستوى التحكم الذي تخضع له الرياض الكبيرة من قبل أبي ظبي الصغيرة، والمناوئة لها سياسيًا ومذهبيًا.

في 16 مايو 2016 وقعت السعودية والإمارات في مدينة جدة محضر إنشاء “مجلس التنسيق السعودي الإماراتي”، بحضور الملك سلمان وابن زايد، وهو مجلس غامض لم يحدد محاور التنسيق ولا الرؤى المشتركة، ولم يعرف الناس تعاونًا ذا بال بين السعودية والإمارات في غير محاربة تطلعات الشعوب العربية في الحرية والحياة الكريمة، وفي 5 ديسمبر 2017 على وقع قمة خليجية في الكويت قاطعتها قيادة البلدين أصدر رئيس الإمارات “المغيب” قرارا بتشكيل “لجنة للتعاون والتنسيق المشترك” بين السعودية والإمارات، برئاسة أخيه المتغلب محمد بن زايد، وبذلك أعلن المحمدان رسميًا نهاية مجلس التعاون الخليجي، وتتويج محمد بن زايد ملكا للسعودية بدون ألقاب، وكان هذا الإعلان تتويجًا لما أسماه الطرفان بـ”خلوة العزم” السنوية، تلك “الخلوة” القرمطية الغامضة التي استطاعت أبو ظبي من خلالها التحكم في السعودية المنقسمة على نفسها.
الأزمة في السعودية إذن ليست أزمة صحوة ولا أحرار يطالبون بعدل وقسط، أو سيدات يردن أن يدخلن الحد الأدنى من التصنيف البشري في حقوق بني آدم، إنما الأزمة في سيادة وسياسة مملكة آل سعود التي وصلت جيلها الخلدوني الثالث، فبدت للصديق قبل العدو تائهة الرؤى.
في عداء آل نهيان لآل سعود عمومًا، والعداء الشخصي الذي يكنه محمد بن زايد للأمير نايف وابنه المنقلَب عليه، اتبع ابن زايد سياسية طويلة الأمد في التأثير على القرار السعودي، وقد نجح في ذلك نسبيًا أيام الملك عبدالله من خلال التناغم مع خالد التويجري، ثم تراجع ذلك الدور أيام “صحو” سلمان الأولى، ثم أحكم قبضته من خلال توفير دعم مالي ويهودي وغربي لطموحات ابن سلمان الذي انتقم له من ابن عمه محمد بن نايف وأبناء الملك عبدالله الذين لم يسايروا رئيس ديوان أبيهم في التبعية لأبي ظبي.
تحكم أبي ظبي في القرار الرسمي السعودي سبقه تحكم آخر في وسائل الإعلام الممولة سعوديًا، وتحكم أشد في طبقة الكتاب السعوديين الليبروجاميين، فقناة العربية التي أنشئت لمنافسة قناة الجزيرة تعبر عن السياسية الظبيانية أكثر من تعبيرها عن وجهة النظر السعودية -إن وجدت-، أما اختراق الصحفيين السعوديين فقد عبر عنه داوود الشريان في تسجيل صوتي شهير، يمتعض فيه من تحكم الإمارات في كتاب الرأي السعوديين، وقال في التسجيل ما معناه: لقد صارت أبو ظبي تفعل مع صحافتنا كما كنا نفعل مع صحفيين عرب، وما تفعله السعودية مع الكتاب معروف، أي شراء الذمم وتأجير الأقلام أو القتل والسجن، وتصرفات تركي الدخيل بعد تعيينه سفيرًا في أبي ظبي تنبئ عن عمق ذلك التحكم الذي صار جزءًا لديه من اللا وعي.
أين الأزمة؟
الأزمة في السعودية إذن ليست أزمة صحوة ولا أحرار يطالبون بعدل وقسط، أو سيدات يردن أن يدخلن الحد الأدنى من التصنيف البشري في حقوق بني آدم، إنما الأزمة في سيادة وسياسة مملكة آل سعود التي وصلت جيلها الخلدوني الثالث، فبدت للصديق قبل العدو تائهة الرؤى، متعثرة الخطى تخرب بيوتها بأيديها وأيدي الحوثيين.
أما أنت يا شيخ عايض وغيرك ممن يحسب على المشايخ فإنا نذكركم بتوجيه الشهيد سيد قطب للذين آثروا الراحة وظنوها مغنمًا بـ”أن ينظروا في عبر التاريخ وفي عبر الواقع القريب، وأن يتدبروا الأمثلة المتكررة التي تشهد بأن ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، وأن تكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية، وأن الذين يستعدون للموت توهب لهم الحياة، وأن الذين لا يخشون الفقر يرزقون الكفاية وأن الذين لا يرهبون الجاه والسلطان يرهبهم الجاه والسلطان”.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق