نكتفي بهذا القدر من الثورة
أكثر ما أثار الانتباه والقلق في المؤتمر الصحافي لعسكر السودان، الذي امتد إلى الساعات الأولى من صباح أمس الثلاثاء، عبارة مرّت سريعًا على لسان أحد جنرالات الدعم السريع، يقول فيها إن هناك إحساسًا بأن الثورة انحرفت.
كان الرجل يتحدّث، وكأنه ينقل من أرشيف إعطاب الثورة المصرية، عن العناصر الغريبة، والأجنبية، التي بدأت تنضم للاعتصام أمام القيادة العامة، وتغير من طبيعته السلمية، ويلمح إلى أدوار لبعثات دبلوماسية أجنبية في انحراف الثورة عن مسارها الذي يريده المجلس العسكري بالطبع.
أسئلة الدماء الساخنة التي سالت في الاعتصام لم تجد سوى تلك الإجابات النمطية المحفوظة، المنقولة حرفيًا من كتاب "كيف تحتضن ثورة حتى الموت اختناقًا"، إذ يتكلم العسكريون بوصفهم، ليسوا فقط شركاء في الثورة، بل هم الثورة نفسها، مستخدمين ذلك الممر السحري للتهرّب من إراقة دم الثورات، المتمثل في إسناد كل الكوارث، الموجهة بمنتهى الدهاء للثورة، إلى طرف ثالث، أو قلة مندسة، أو دخول أجنبي مفاجئ، مع تعهد، كلاسيكي جدًا، بالتوصل إلى الأيدي الآثمة وقطعها وتقديمها قربانًا للثورة.
بالنعومة ذاتها التي يخاطبون بها الثورة، يتوجهون بخطاب أكثر عاطفية تجاه الشعب المسكين الذي يدفع ثمن الاعتصام، من غلق الطرق وتعطل حركة السير ونقص في الوقود، نتيجة تكدّس الشاحنات، بسبب الاعتصام، أو ما يعرف بمرحلة تعطّل عجلة الإنتاج عن الدوران، بعد الثورة.
هذه المرحلة تعقبها المرحلة الأخطر والأهم، وهي التبشير الصريح بالعسكرة، من أجل السيطرة على الانفلات الأمني ووقف إراقة الدماء، وهذه المرحلة عرفتها الثورة المصرية بعد أقل من شهرين فقط على رحيل حسني مبارك، فكانت ما عرفت بأحداث 8 أبريل 2011، حين هجمت القوات على المعتصمين، فقتلت واعتقلت وعذبت، ثم خرجت وسائل الإعلام بتوزيعات مختلفة للحن واحد، وضعه الكاتب الراحل، محمد حسنين هيكل، عن الجيش ضابطًا للإيقاع السياسي، فيقول في الأهرام "القرار هناك فى مجلس أعلى للقوات المسلحة موثوق فيه، لكنه يدير دون أن يظهر .. وتنفيذ القرار هناك في مجلس وزراء، وفيه عدد من الرجال المحترمين، لكن هذا المجلس يظهر دون أن يدير ثم إن قوى الإجبار في الدولة، وهي ركيزة أي استقرار ونظام حسم، معلقة على بوليس هو حاليا لا يقدر، وعلى قوات مسلحة هي بالحق غير مختصة".
بعدها مباشرة، بدأت كل الصحف والشاشات الخاضعة لسطوة المجلس العسكري عزف مقطوعةِ "الأيدي المرتعشة"، ومضمونها أن البلد بحاجة إلى قبضةٍ من حديدٍ تستطيع السيطرة على الوضع الأمني المنفلت، والحالة السياسية السائلة، وملخص الرسالة هو: كفى تدليلًا للثوار.. الثورة انحرفت، فينشر رئيس تحرير الأهرام، في ذلك الوقت، عبد العظيم حماد، في الصفحة الأولى خبرًا بتوقيعه يقول فيه إن 12 من ائتلافات شباب الثورة ترفض المشاركة في مليونية ضد ممارسات المجلس العسكري، مشيرًا إلى جهةٍ مشبوهة تقف وراء الدعوة إلى التظاهر. وبالتزامن، تنطلق جوقة الخبراء الاستراتيجيين تتهم الثورة بالعمالة للخارج.
وأحسب أن أكثر من ثماني سنوات تفصل ثورة السودان الحالية عن متاهة ثورة 2011 المصرية لا بد سيكون لها تأثير في إنتاج مسار مختلف، لثورة السودان المفترض أنها ذاكرت ودرست، حتى الحفظ، دراما العسكر والثورات، التي تبدأ بالإعجاب، ثم الشراكة، فالزواج بالإكراه، وصولًا إلى الطلاق والانفراد بكل شيء.. ثم البطش والانتقام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق