مهلًا أيها الواعظ
احسان الفقيه
ألا فليُقْبِل وُعّاظ العصر بأقلامٍ ومحابر، فإن يحيى بن معاذ الواعظ يقول كلمته، ويُطلقها حكمة سائرة، يُحمِّل العبارة الوجيزة معانٍ بليغة، يخُطُّ بها معالم الخطاب.
“أحسنُ شيء: كلام صحيح، من لسان رجل فصيح…
كلام رقيق، يُستخرج من بحر عميق، على لسان رجل رفيق”.
وهكذا يُدوّن ابن معاذ بكلمته معالمَ الخطاب الوعظي الناجح، الذي يحمِل كلمة طيبة، ذات أصل ثابت، وفرعٍ سامق، تؤتي أُكُلها كل حينٍ بإذن ربها.
ذلك الخطاب الذي تمتزج فيها عناصر الفصاحة وسلامة المصدر، وعمق المعالجة، والاهتمام بجمال الظاهر وروعة المضمون، فماذا عنك يا واعظ العصر؟
فليتسع صدرك لشيء من العتاب، فإنما الوعظ والتوجيه وارتقاء المنابر جزءًا ثابتا في الخطاب الديني العام، والذي صُدّعِت حوله الرؤوس بمطالبات التجديد، فهلّا ارتقينا؟.
لا تأخذني بخطابك بعيدا عن الرعيل الأول إلى عصور متأخرة ظهر فيها التكلف والنأي عن الاقتصاد في التعبد، لا تُحدثني عمّن كان يصلي الصبح بوضوء العشاء، وبينهما قيامُ بلا فتور، وحدثني عن أبي بكر الذي يصلي بعد العشاء ما تيسر له ثم ينام، أو عن الفاروق الذي يرقد بعد العشاء ويستيقظ قبل الفجر ليتنفّل، والرجلان قد تعلما من هدْي نبيهما الذي كان يصلي ويرقد، ويصوم ويفطر.
لا تُحدثني عن ذلك الذي حرمه خوف جهنم من التبسّم، وائْت لي بجواب ابن عمر لمن سأل: هل كان الصحابة يضحكون؟ فقال: “نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال”.
إن تسليط الضوء على واقع القرون المُفضّلة التي اصطبغت بالوسطية، لهو الأوْلى، فهي نماذج قابلة للتأسي بها، وأما نماذج التكلُّف في العصور اللاحقة، فهي حالات فردية لا تُعبر عن منهج أو اتّجاه، ومن شأنها أن تُصيب المتلقي بالإحباط، ويرى بَوْنًا شديدا بين عبادته، وبين ما كانت عليه هذه النماذج.
حنَانَيْك، لا ألفَينَّك تُعيد على سمعي مرارا وتكرارا الحديث عن الصبر والتوكل وأعمال القلوب ووصف الجنة والنار، فالدين دنيا وآخرة، وإن كانت تلك الحياة قنطرة إلى الآخرة، فعلِّمني كيف أُصلح القنطرة.
لا تُهمل هذا الجانب المعنوي، ولكن لا تنس أن تُحدثني عن قيمة العمل والإنتاج، عن القيم التي يستقيم بها أمر المجتمع، عن نهضة الأمة وانبعاث حضارتها، عن الواقع الذي أعيشه، نعم ذلك الواقع الذي تتهرب في خطابك من معالجته وتُحيلني إلى الوصية بالصبر والرضا.
النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث في أمور المعاش، وقدِمَ المدينة فناقشهم في تأبير النخل، وأرشد إلى تعلُّم اللغات، وعلّم صاحبه كيف يسلخ الشاة، ووجّه إلى الرفق بالحيوان، وإلى الحفاظ على البيئة، فدونك هدي نبيك وإمامك.
أيها الواعظ، إن أعداء الإسلام يريدون أن يُظهروا الإسلام في صورة الدين الذي لا يملك للناس حلولا عملية لأزماتهم، أتدري عَلامَ اعتمدوا؟
اعتمدوا على مثل هذا الخطاب الذي تتَّجِه به أنت إلى الناس، ففي كل نازلة وكارثة وأزمة، تقول لهم إنّ الحل أنْ تتقوا الله تعالى، ثم تصْمت، ولا تُرشِد إلى كيفية معالجة الأزمات.
الإمام الشعبي من التابعين الذين وُلدوا في خلافة عمر، مرَّ بِإبلٍ قد فشا فيها الجرَب، فقال لصاحبها: أما تداوي إبلك؟ فقال: إنَّ لنا عجوزا نتّكل على دعائها. فقال الشعبي: اجعل مع دعائها شيئا من القطران.
حرص على أن يقترن بالتوجيه الإيماني توجيه آخر عمليّ، وهذه هي حقيقة التوكل، اعتماد القلب على الله مع مباشرة الأسباب، وتلك هي الحقيقة التي غفلتَ عنها في خطابك، التوجيه العملي، والتطرُّق إلى الحلول العملية، يسبقها الأمر بتقوى الله وطاعته التي هي أصْل كل خير.
أيها الواعظ لا أريد لك الكفَّ عن تناول صفات الحلم والصدق والعفاف والقناعة والصبر، ولكن مع ذلك لا تتجاهل صفات الفاعلية والإيجابية والمبادرة الذاتية والقيادة، فمنظومة الأخلاق الإسلامية تتَّسع دائرتها لتشمل صفات الأمانة والقوة معا، وحسبك في ذلك أن القرآن قد نقل إلينا تزكية الجانبيْن مجموعيْن {إن خير من استأجرت القوي الأمين}.
فتلك المنظومة الأخلاقية بمجموع طرفيْها هي التي يستقيم بها أمر المجتمع، فكما يلزم أن تسود فيه الأخلاق التي ترتقي بها العلاقات الإنسانية، فيلزمه كذلك تلك الأخلاق التي تصب في نهضته وازدهاره.
يا واعظ العصر، في الصحيح غُنْية، فلا تُعبّئ خطابك بالآثار الموضوعة والأساطير المنسوجة، فأمتنا أمة إسناد، وكم من حديث مكذوب سار به الناس دهرًا، يظنونه من حسن القول وجليلِه، فلبَّس عليهم في تصوراتهم، وضلّ به سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
فهلّا تحريت الصحيح من السقيم وصُنْت الأسماع عن الخضوع لسكرة الولوغ في الحكايات الأسطورية؟
أيها الواعظ، كن بخطابك ناصرا للدين لا ناصرا عليه من حيث لا تدري، واعلم أن كلمتك للناس هدية وعطية، فانظر ماذا تهديهم، ودونك درّة عبد الوهاب عزام “ولن تخلد الكلمة على الأجيال، إلا إذا اتصلت بالحق والخير، وكان لها من قوانين الله في خلقه سند، ومن إلهامه لعباده مدد”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق