.. إنه كلب من كلاب الله !!
بقلم: الدكتور جابر قميحة
2004-07-21
""اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك... اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك"".. قالها رسول الله صلي الله عليه وسلم في يقين ممزوج بالأسي, وعيناه وقلبه إلي السماء يستنصر الله, ويستعديه علي ""عتبة بن أبي لهب"" الذي جاءه, وهو في جمع من الناس, يسخر منه, ويتمادي في السخرية, ويأخذه غرور الجبابرة الصغار, وهو يقول ""يا محمد , أشهد أني قد كفرتُ بربك. وطلقت ابنتك"", وكان النبي صلي الله عليه وسلم قد زوجه ابنته رقية قبل البعثة.
ولم يهتز عتبة لدعوة النبي. واحد فقط أخذه الفزع - علي ضلوعه في الكفر وإيذاء النبي - هو أبو لهب الذي قال لابنه عتبة ""يا ولدي فلتأخذ حذرك دائمًا, فإني لأشد الناس رهبة وخوفًا عليك من دعوة هذا الرجل"" .
وودع أبو لهب ابنه, وهو يهم بالرحيل في قافلة تجارية إلي الشام, وليس نصب عينيه وأذنيه ومشاعره إلا دعوة محمد صلي الله عليه وسلم "اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك".
* * *
بدأ الركب مسيره إلي الشام, وفي الليل بلغوا واديًا يسمي ""وادي القاصرة"" , وهو واد مسبعة - أي كثير السباع- فنزلوه للاستراحة, وكما يروي ""هبّار بن الأسود"" - أحد رجال الركب - أصر عتبة ألا ينام إلا وسط رفاقه قال هبار: فما راعني إلا ""أسد"" يشم رؤوسنا رجُلا رجلاً, حتي انتهي إلي عتبة, فأنشب مخالبه في صدغيه, فصرخ عتية ""يا قوم قتلتني دعوة محمد"".
* * *
جاء ذلك في سياق حديثي عن دعاء الأنبياء والصالحين وأثره. ورأيت ابتسامة ساخرة علي وجه صاحبي ذي الثقافة العلمانية الصفراء, وقال: .. خرافة .. خرافة يروج لها المتطرفون من الإسلاميين ليهددوا بها , وبمثلها السذج والبسطاء من الناس, ليستجيبوا لدعاواهم, وإلا رفعوا عليهم ""سيف الدعاء"" بوصفهم أناسًا من الأولياء والصالحين. ثم نفخ صاحبنا أوداجه وقال: يا سادة, نحن في القرن الحادي والعشرين, عصر غزو الفضاء والاستنساخ, لا عصر الخرافات وعجين الفلاحة.
وتمادي في السخرية, فقال: يا تري .. هل كان هذا الأسد ""موظفًا"" بالشهر, أو اليومية ""لتوصيل"" الموت إلي المنازل, والقوافل, والمعسكرات...?!
ثم تمادي في التمادي ومواصلاً كلامه : الله !!! طيب ما تشوفوا لنا كام أسد من دول , وندعو الله أن يسلطها علي إسرائيل, والمعسكرات الصهيونية, وبكده نوفر المال والسلاح, ونحل قضية فلسطين.
قاطعه المهندس عصام خليل قائلاً: لا تنس أنها دعوة نبي مرسل من عند الله.
قال صاحبنا: ولو .. إنه نبي ورسول, ولكن بشر (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(الكهف: من الآية110) فهل دعوة البشر - حتي لو كان نبيًا تكون كالريموت كنترول, توجه الأسود إلي ""القناة"" المطلوبة؟!
كدت أقنع نفسي أن مناقشة مثل هذا لن تفيد, وأنه من فئة من يقال لهم ""سلامًا"" إذا خاطبوا , لولا نظرات الأخ المحامي هاني سليمان موجهة إليّ كأنها تطرح سؤالاً مؤداه ما رأيك؟
قلت: إن الدعاء - باطلاق - يعني ""الطلب مع التذلل والخشوع"" وإجابة الطلب أو الاستجابة له تعني التحقيق العملي للمطلوب القولي, أو المطلوب الشعوري أي الترجي أو التمني بالعقل والشعور"". وهذا - علي المستوي البشري - يحدث عمليًا في مجتمعاتنا كل يوم. وصورته الدارجة نراها - مثالاً- في موظف مظلوم , يقف الروتين المعقد عقبة في طريقه, فيتجه بدعائه أو شكواه إلي ""كبير ذي حيثية"" فينصفه متخطيًا كل قواعد الروتين التي تحول دون أن ينال هذا المظلوم حقه. أفتعترف بهذا الحق, أو هذه القدرة للبشر, وتستكثر علي الله أن يستجيب لدعوة نبي مظلوم, وهو المستجيب لدعوة من هو دون النبي. وهو - سبحانه وتعالي القائل ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(غافر: من الآية60) وأنا أعرف - بالاسم والمسمي - صالحين ظُلموا دعوا علي ظالميهم, فاستجاب الله لهم في حياتهم, منهم كفيف فقير اعتدي عليه ظالمه باللّكم بيمناه حتي أدمي وجهه, وهو لا يستطيع أن يصد اللكمات عن نفسه"" لأن الظالم المعتدي إذا رأه يحاول حماية وجهه, وجه لكمته إلي صدره فإذا حاول حماية صدره, وجهه لكمة إلي وجهه حتي سقط مغشيًا عليه وهو يدعو الله أن يشل يمينه, وشلت يمين المعتدي بعد عام, وعجز الطب عن علاجه وقد رأيته بعدها ويمينه تهتز بجانبه دون إرادته كأنها خرقة بالية.
وكأني فتحت ""باب الانتصار"" لصاحبنا, فهب قائلاً: أنت ذكرت حالة واحدة, أما أنا فأعرف مئات الحالات.. مظلومين : منهم من قضي عشرات السنين في السجون دون ذنب جنوه.. دعوا.. ودعوا.. ولم يستجب دعواتهم. بل رأيت من ظالميهم من زادهم الله مالاً وسلطانًا, وتوفيقًا, ومن المظلومين من زاد فقره, ومتاعبه ومشكلاته في الحياة بمرور الأيام.
قلت له: للأسف أنت تتعامل مع المنطق الإلهي بالعقلية البشرية - وهي محدودة المدي - فتريد الاستجابة العاجلة, وتحقيق المطلوب في ساعة أو يوم وليلة , مع أن الخير قد يكون في الثمرة البعيدة, والشر قد يكون في الثمرة الدانية القريبة. والشر يصيب المؤمن ابتلاء, ويصيب الكافر أو العاصي بلاء . والابتلاء هو الاختبار فتزيد مثوبته بالصبر. أما البلاء فهو الانتقام من الكافر أو العاصي في الدنيا. والنعمة تصيب المؤمن ليزيد أيضًا ثوابه بشكر الله, وبلسانه يلهج بالدعاء: ( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ)(الاحقاف: من الآية15)فالمؤمن أمره كله خير, إن أصيب بضر صبر, وإن أصيب بخير شكر. أما الكافر فيصدق عليه قوله تعالي: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (لأعراف:182) وذلك بإمدادهم بالنعم, وزيادة الغني, فيهملون شكر الله عليها. فيكونون من أهل النار.
كما يصدق عليهم قوله تعالي: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (المؤمنون54:56) . والمعني: اتركهم يا محمد في جهلهم وغفلتهم, وإغفالهم شكر الله حتي يدركهم الموت ويلحقهم العذاب. أيحسبون أن ما نمدهم به من أموال وبنين من قبيل المسارعة بالخير لهم, وإكرامهم, بل إنما جاء ذلك - وهم لا يشعرون - من قبيل استدراجهم, ليزيدوا في غيهم, فيزيد عذابهم.
قال ""صاحبنا"": حتي لو آمنّتُ بأن الأسد قد مزق عتبة بن أبي لهب حقيقة في ""وادي القاصرة"", وأن اختياره وقع عليه دون غيره, فلماذا لا يكون ذلك قد وقع ""مصادفة"" ولا علاقة له بدعوة النبي؟ .
قلت إن قولك هذا ""افتعال غير علمي"", فالصدفة هي ملجأ العاجز عن التعليل الحقيقي أو التهرب منه, ونحن في عصر أثبت العلم فيه تأثر الحيوان بكلام الإنسان ومشاعره, مما لا تتسع هذه المساحة الضيقة لشرحه. فما بالك إذا كان الفاعل هو الله القدير المنتقم الجبار, والداعي المظلوم هو محمد خاتم الأنبياء والرسل عليهم السلام.
قال ""صاحبنا"": ولماذا خلت حياة النبي من ""دعوة"" أخري , مع أن عتبة بن أبي لهب لم يكن أشد المؤذين أو الساخرين منه؟
قلت: آه.. يظهر أنني مضطر أن أهديك كتابًا في السيرة, لتقرأ فيه أنه صلي الله عليه وسلم أرسل رسالة إلي كسري الفرس ""أبرويز بن هرمز"" يدعوه فيها إلي الإسلام فمزقها, فدعا الله ""أن يمزق ملكه"", فلم يبق له باقية, ولا بقيت لفارس رياسة في أقطار الدنيا. وروي ابن مسعود أن قريشًا أتت بسلاً جزور (أي سقط بعير ووضعه عقبة بن أبي معيط علي كتفيه ورأسه وهو ساجد, لا يستطيع أن يرفع رأسه حتي جاءت فاطمة فرفعته عنه, ثم دعا ربه ""اللهم عليك بقريش - ثلاثًا - ثم قال: اللهم عليك بأبي جهل, وعتبة بن ربيعة. وشيبة بن ربيعة, والوليد بن عتبة, وأمية بن خلف, وعقبة بن أبي معيط, وعد السابع فلم أحفظه. قال ابن مسعود: ""فوالذي نفسي بيده, لقد رأيت الذي عد رسول الله صلي الله عليه وسلم صرعي في القليب, قليب بدر"" صحيح البخاري.
كتاب الوضوء, باب إذا ألقي علي المصلي قذر أو جيفة. نظرت إلي صاحبي وقلت: ألا يدل ذلك علي قدرة الله - واستجابته لنبيه صلي الله عليه وسلم, أم هي الصدفة يا صاحبي؟!! لم يجب , وبعد لحظات من الصمت
قال: بقيت كلمات أخشي أن أبوح بها فتكفروني.
قلت: قل.. لا تخف , نحن لا نكفر أحدًا, ونحن ""دعاة لا قضاة"".
قال: إن النبي دعا الله أن يسلط علي عتبة ""كلبًا"" والذي قتله: أسد لا كلب . فأين الاستجابة للدعوة إذن؟
ضحكت وقلت: إنه ذكر الكلب علي سبيل الإشارة إلي أي حيوان مفترس. كما إن للأسد عشرات من الأسماء في العربية منها الليث والورد, والغضنفر, ومنها كذلك ""الكلب"" .
هدانا الله سواء السبيل يا صاحبنا العزيز.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق