مصر إلا واحد
من جديد، يعاد افتتاح مهرجان الوطنية المتّسخة بكل عوادم القبح والفساد والنفاق والشعوذة باسم الوطن .. يصعد القتلة وعبيد القتلة على المسرح، بطبولهم، يعزفون ويهتفون في هستيريا: الحرب الحرب، حتى وإنْ كانوا لا يدركون أن طبول الحرب تختلف عن طبول الرقص. لمحاربة تركيا في ليبيا، يحشدون الناس خلف جنرالٍ قال عنه الإعلام الصهيوني إنه صهيوني أكثر من الصهاينة، ولم يعقّب أو يحتج أو يصرُخ حي على الجهاد، دفاعًا عن كرامة مصر وشرفها، وهل هناك مسٌّ بالكرامة وإهانة للشرف الوطني من أن يُقال إن رئيسها صهيوني أكثر من الصهاينة؟
يعبئون الجماهير خلف قرصانٍ لم يفرح بوصوله إلى السلطة أحدٌ بقدر ما فرح به العدو الصهيوني، وذيوله المنقوعة في النفط، للقتال حتى الموت دفاعًا عن قرصانٍ أقلّ حجمًا في ليبيا، ترى تل أبيب نجاحه في القضاء على ما تبقّى من ملامح ثورةٍ شعبيةٍ فيها انتصارًا لإسرائيل،
ثم يتهمونك بالخيانة والإساءة لجيش بلدك عندما تقول إن الجيوش وُجدت للدفاع عن حدود الأمم وحماية حدودها، وليس للاستخدام الخارجي لحماية زعماء عصاباتٍ مأجورين، يرتكبون مذابح ضد شعوبهم، لمصلحة أعداء واضحين.
مخجلٌ جدًا، ومهينٌ للشعور القومي العام، أن يتحول موضوع الحرب إلى نكتةٍ على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يستقبل قطاعٌ واسعٌ من الشعب الحكاية بكثير من السخرية مما وصلت إليه مصر في قاع التدنّي والانحطاط والتغييب الكامل للمعنى الحقيقي للأوطان.
في هذا الطقس الوطني السيئ، المحمّل بكل أتربة الانتماء المزيف وجراثيمه، يرد مواطنون على شعارات الدعوة إلى الحرب، الصادرة من شرطةٍ تُمعن القتل والتعذيب والإهانة في الشعب منذ سبع سنوات، بإطلاق وابلٍ من النكات على ذلك المنشور الذي يقول
"مائة مليون فدائي" بعبارة واحدة "مائة مليون إلا واحد".
هنا يتم استدعاء فيالق الفنانين والفنانات للحشد للمعركة، بالطريقة المبتذلة ذاتها التي خجل منها الجميع في مناسباتٍ أكثر ابتذالًا، مثل مونديال روسيا وأيضًا مهرجان تمرير تعديلات دستور عبد الفتاح السيسي، فيردّدون نصًا واحدًا بأداءاتٍ مختلفة، ينتمي إلى نصوص الوثنية السياسية المستحدثة، والتي تقوم على تكفير وتخوين كل من لا يؤمن بالسيسي والجيش والشرطة، من دون نقاش أو أسئلة، إذ وكما نشر أحد الفنانين "من غير المقبول في وقت الأزمة الإدلاء بأية آراء شخصية أو انتقادات لأي قرار سيادي، سياسياً كان أم عسكرياً .. فالمطلوب الثبات والتأييد اللا مشروط للرئيس والقوات المسلحة".
هكذا ببساطة يطلبون من المواطن التأييد اللا مشروط لمغامرة يريدها جنرالٌ استولى على السلطة بمجزرةٍ من أجل إنقاذ جنرالٍ آخر، يسعى إلى الاستيلاء على حكم ليبيا بسلسلة من الجرائم، آخرها أول من أمس باستشهاد نحو ثلاثين طالبًا بكلية عسكرية في قصف نفذته مليشيات الانقلاب بطائرة إماراتية.
إن أحدًا يمتلك عقلًا في مصر لا يمكن أن يصدّق أن هؤلاء يصلحون للحروب، أو أنهم يريدون الحرب فعلًا، ذلك أن الأمم المتفرّغة أنظمتها لسحق شعوبها، والتنكيل بهم في السجون لا يمكن أن تفكّر أبدًا في حروبٍ محترمة، إذ كيف تحارب وتنتصر في الخارج، وكل قواك مسخّرة لسحق الداخل؟ ثم كيف تطلب من هذا الداخل أن يصدّقك، وهو لم يرك رافعًا السلاح إلا في وجه مصريين، ولم يسمع إشادةً بما تفعله إلا من العدو التاريخي وتوابعه المكلفين بقتل ثورات الشعوب؟ كيف تطلب من الشعب الاصطفاف خلفك، وأنت قتلت من أبنائه في أيام أكثر مما قتل الأعداء في سلسلة حروب؟ كيف يصدّق الناس أنك حريصٌ على أمنٍ قوميٍّ لبلاد أنت فرّطت في حدودها، وبعت جزيرتين استراتيجيتين منها للسعودية، وكأنك تبيع قطعتين من مصاغ والدتك؟
من المثير للسخرية والأسى أن يتزامن تجديد سلطات عبد الفتاح السيسي حبس الناشطة ماهينور المصري، وعشرات من السياسيين غيرها، مع تصديق البرلمان التركي على اتفاقية التعاون العسكري مع الحكومة الليبية الشرعية، وكأن لسان حالهم يقول: معركتنا الأساسية هي ضد المعارضين من الشعب المصري، وأمن مصر القومي لا يتحقق إلا بملء السجون والمعتقلات بأصدق أبنائها وثوارها وأنبلهم.
سيسلبونك حقك في وطنك، لأنك لا تؤيدهم في استحداث معادلاتٍ فاسدةٍ للوطنية، ومعايير ملوّثة للمواطنة، ولا تصفّق لهم وهم يعلنون، بكل وقاحة، أنهم يحاربون الإرهاب في سيناء، والآن في ليبيا ضد وهم الاحتلال العثماني، بينما هم، في الواقع، وباعترافهم، كانوا يحاربون في سيناء من أجل مصلحة الإرهاب الأول والأكبر الذي يحتل فلسطين، ويتوغّل تحت جلد أوطاننا، عبر أنابيب الغاز عن طريق وكلائه من حكامٍ لا يشغلهم شيء سوى حماية عروشهم.
مرة أخرى، سوف نحمي الجنود بأرواحنا، حين يخرجون إلى الحرب ضد عدو واضح ومعروف، سنمسح أحذيتهم، ونحرم أنفسنا من اللقمة وشربة الماء، عندما يذهبون إلى معركةٍ مقدّسة، من أجل الأمة، وليس إلى حربٍ تلفزيونية، من أجل مصلحة عدو، أو زعيم عصابة أجير، أو مغامرةٍ لتصنيع زعامة زائفة، بعظام الجنود والمدنيين معاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق