فصل في أن الرباط في الأقصى المبارك خير من المجاورة في الحَرَمين الشّريفين
من المُسلّم به عند المسلم أنّ أعظم المساجد في الأرض هو المسجد الحرام في مكّة المكّرمة يليه المسجد النّبوي في المدينة المنوّرة ثم المسجد الأقصى في بيت المقدس، وهذه المساجد الثلاثة هي التي اختصّها الله تعالى بالفضيلة على غيرها فتتضاعف فيها أجور الصّلوات؛ فالصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة فيما سواه، والصلاة في المسجد النّبوي بألف صلاة فيما سواه، والصلاة في المسجد الأقصى المبارك بمئتين وخمسين صلاة فيما سواه، وهي كذلك المساجد التي لا تشدّ الرّحال إلّا إليها بنصّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما في الصّحيحين: “لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، ومَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومَسْجِدِ الأقْصَى”.
اختصاص المسجد الأقصى المبارك بالرّباط
أمّا المسجد الأقصى المبارك فهو أولى القبلتين وثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام، ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه معراجه إلى السماوات العلى، غير أنّه اختصّ في هذا الزّمان بل على مرور الأزمنة المتعاقبة بأنّه أحد أهمّ وأبرز ثغور المرابطة ومواطن الجهاد في سبيل الله تعالى.
ومن مشاهد الرّباط السّالفة ما ذكره الإمام ابن العربي المالكي الأندلسي في كتابه “سراج المريدين” عن أحد مشاهد اقتحام الغزاة الصّليبيين المسجد الأقصى المبارك ومواجهة المرابطات في رحابه للغزاة بإمكانياتهنّ المتواضعة: “لقد كان في بيت المقدس نسوة يُفْخَرُ بهنّ على الأزمنة؛ يَلْتَفِفْنَ على العالمة الشيرازية؛ فقيهة واعظة متعبدة متبتّلة؛ فلما دخل الروم بيت المقدس يوم الجمعة لاثنتيْ عشرة ليلة بقيت لشعبان من سنة ثنتين وتسعين وأربعمئة لجأت بهن أجمعين إلى المسجد الأقصى، وجلسن في قبة السلسلة، فلما غشيتهن الروم قمن إليهم بالسبّ ورمي التراب في وجوههم، فحصدوهن بالسيوف وأنزلوا بهن الحتوف؛ قال لي من عاين ذلك وهو في سطح المسجد الأقصى: كنّ قريبا من ألف امرأة”.
وفي هذه الأيّام التي يتصاعد فيها العدوان الصّهيونيّ على الأقصى المبارك وينفخ فيه بالبوق وتُقدّم القرابين في باحاته في تصاعد لمعركة السيادة على القدس وفلسطين وعنوانها الحقيقي هو الأقصى المبارك يغدو الرّباط في باحات الأقصى المبارك من أعظم الأعمال التي يفعلها المسلم في الذّود عن الدين وحرماته.
ومن حيثُ المبدأ فقد اتّفقت كلمة العلماء على أنّ الرّباط في الثغور أعظم أجرًا وعملًا من المجاورة في المساجد كلّها بما فيها المساجد الثلاثة المختصّة بالفضل.
وفي هذا يقول أبو هريرة رضي الله عنه فيما رواه عنه ابن ماجه مرفوعًا: “لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحبّ إليّ من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود”.
وأمّا شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: “المقامُ في ثغورِ المسلمينَ كالثُّغور الشَّاميَّة والمصريَّةِ أفضل من المجاورةِ في المساجدِ الثَّلاثة، وما أعلمُ في هذا نِزَاعًا بين أهلِ العلم، وقد نصَّ على ذلكَ غيرُ واحدٍ من الأئمَّة”.
فإذا كان هذا أجر ومكانة الرباط في الثغور العاديّة وتفضيلها على المجاورة في المساجد الثلاثة؛ فكيف إذا غدا أحد هذه المساجد الثلاثة هو الثغر وهو موطن الرباط؟ فمن البديهي أنّ الرّباط فيه أعظم بكثير مكانةً وأجرًا؛ وعليه فإنّ الرباط في المسجد الأقصى المبارك والدفاع عنه والمرابطة في الثّغور التي تذود عنه أعظم بكثير من المجاورة والاعتكاف والعبادة في المسجد الحرام والمسجد النبويّ.
وبناءً عليه أيضًا فإنّ دعم المرابطين في القدس والمسجد الأقصى المبارك بكلّ وسائل الدّعم الماديّة والمعنويّة التي تعينهم على تثبيت أقدامهم ومواجهة العدوان الصّهيوني أعظم أجرًا ومكانةً من عمارة الحرمين الشريفين.
قال تعالى في سورة التوبة: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
فيا ليت قومي يعلمون!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق