كيف يتحول الوعي بالهوية إلى مصدر للقوة؟
هل يمكن أن نقرأ التاريخ على ضوء احتياجات الحاضر وتحدياته؟ وهل يمكن أن نستخدم التاريخ في بناء قوة الدول؟ وما علاقة التاريخ بالهوية؟
من أهم التحديات التي تواجه الدولة أو الأمة في هذا العصر؛ هو بناء هويتها التي توحد شعبها، وتسهم في إطلاق طاقاتهم، وقدراتهم على الإبداع والابتكار والبناء وتقديم إنجازات حضارية.
يرى "هيجل" أن التاريخ الإنساني تشكل من خلال الكفاح من أجل الاعتراف، فكل شعب يعمل للحصول على الاعتراف العالمي به، ولذلك يميز نفسه باستخدام عناصر القومية والعرق والدين واللغة.
ولقد تزايد الاهتمام في كل العلوم الإنسانية بمفهوم الهوية خاصة العلوم السياسية؛ لأن الهوية تلعب دورا مهما في الصراع، وفي تشكيل العلاقات الدولية.
كيف يمكن أن تعرف الدولة نفسها على المستوى العالمي، والعوامل التي تميزها عن غيرها من الدول مثل اللغة والدين والثقافة والإنجازات الحضارية.
من نحن: سؤال المستقبل؟
يتضمن مفهوم الهوية الكثير من الدلالات، فهو يشير إلى مفهوم الشعب عن نفسه، والعوامل التي تشكل الترابط بين أفراده، وكيف يمكن أن تعرف الدولة نفسها على المستوى العالمي، والعوامل التي تميزها عن غيرها من الدول مثل اللغة والدين والثقافة والإنجازات الحضارية.
ويتضمن المفهوم الرموز التي تستخدمها الدولة في بناء هويتها القومية؛ التي تجمع شعبها وتوحده، وتجعله يفخر بالانتماء لها.
كما يتضمن المعاني والسمات التي تميز الدولة أو الأمة، والتي تشكل التفاهم المشترك، وتجعل الشعب يشعر بالكرامة. هذا يعني أن مفهوم الهوية يسهم في توحيد الشعب عن طريق زيادة قدرته على تعريف نفسه للعالم، وتحديد السمات التي تميزه والتي يفخر بها، ويقدر نفسه على أساسها، ويفرض على العالم أن يحترمه.
شكل الإسلام وحدة الشعب الجزائري في مواجهة فرنسا، فأدركت فرنسا أهمية الدور الذي يقوم به الإسلام في قيادة كفاح الجزائريين وتوحيدهم، لذلك قامت بمطاردة علماء المسلمين واغتيالهم وتعذيبهم وإعدامهم مثل الشهيد العربي التبسي.
الهوية أساس الاستقلال
إن الوعى بالهوية يشكل الكفاح من أجل تحقيق الاستقلال، حيث يستخدم الشعب سماته المميزة له عن الدولة المحتلة للمطالبة بالاستقلال.
ولقد كان ذلك واضحا في كفاح الشعب الجزائري، حيث دار الصراع حول الهوية عندما عملت فرنسا منذ احتلالها على فرنسة الجزائر، وفرض اللغة الفرنسية، واعتبارها المؤهل لتولي الوظائف في الدولة، بينما قامت جبهة نهضة العلماء بقيادة عبد الحميد ابن باديس بتعريف الجزائر على أنها دولة عربية إسلامية، وعملت على تعليم اللغة العربية باعتبارها من أهم مكونات الهوية، ودعت إلى التمسك بالإسلام، لذلك كانت الرموز والشعارات الإسلامية واضحة خلال الثورة، ورفع الثوار الجزائريون شعار "الجزائر تعود لك يا محمد".
لقد شكل الإسلام وحدة الشعب الجزائري في مواجهة فرنسا، فأدركت فرنسا أهمية الدور الذي يقوم به الإسلام في قيادة كفاح الجزائريين وتوحيدهم، لذلك قامت بمطاردة علماء المسلمين واغتيالهم وتعذيبهم وإعدامهم مثل الشهيد العربي التبسي.
كما يمكن أن نجد دور الهوية الإسلامية واضحا في كفاح الكثير من الشعوب وتوحيدها، مثل شعب ليبيا الذى قاد عمر المختار كفاحه ضد الإيطاليين لمدة ثلاثين عاما، وفي الكثير من الشعوب الأفريقية مثل تشاد ومالي وموريتانيا.
في ضوء ذلك فإن القوى الاستعمارية قامت بشن حرب مستمرة على الهوية الإسلامية بهدف منع استخدامها كعامل توحيد، وقيادة الكفاح ضد الاستعمار. فهي وحدها التي يمكن أن توحد الشعوب التي تتكون من أعراق وألوان مختلفة. ودراسة التاريخ تؤكد أن الهوية الإسلامية هي التي توحد الأمة، وتؤكد تميزها الحضاري ووظيفتها ورسالتها، وهذه الهوية هي مصدر قوة الأمة.
كما قامت الهوية الإسلامية بدور مهم في كفاح المسلمين في الهند ضد الاستعمار الإنجليزي، والإرهاب الهندوسي، وشكلت الأساس السياسي والاجتماعي لاستقلال باكستان.
من المثقفين الذين عبروا عن الهوية الإسلامية خارج الحزب الوطني مثل محمد رشيد رضا ومجلته المنار التي قامت بدور مهم في الحياة الثقافية المصرية. وكان الاتهام الذي ظل يردده المثقفون المتغربون أن هذا التيار غير وطني فهو يربط مصر بالدولة العثمانية.
كيف تطور صراع الهويات؟
في مصر كانت الهوية الإسلامية واضحة طوال القرون، ولم تواجه تلك الهوية أية تحديات، لكن الاحتلال الإنجليزي عمل على إضعاف تلك الهوية، وحاول اللورد "كرومر" بناء نخبة متغربة مرتبطة بالاحتلال، حيث صور لهم أنهم أصحاب المصالح الذين يجب أن يعملوا لتحقيق استقرار مصر تحت السيادة الإنجليزية.
لذلك ظهر منذ عام 1906 الصراع بين ثلاث هويات هي:
- الهوية الإسلامية: وهي هوية التيار الرئيس في مصر الذي عبر عنه الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل ثم محمد فريد، وكانت جريدة اللواء هي لسان حال هذا التيار، الذي ظل يؤكد على ارتباط مصر بالخلافة العثمانية، والعمل لزيادة قوة الخلافة وبناء الجامعة الإسلامية.
ضم هذا التيار الكثير جدا من المثقفين الإسلاميين، وبعد وفاة مصطفى كامل تولى قيادته محمد فريد لكن الاحتلال أغلق جريدة اللواء، فقام محمد فريد بإصدار عدد من الصحف التي كان يغلقها الاحتلال بشكل مستمر، ثم قام بنفي محمد فريد.
هناك أيضا الكثير من المثقفين الذين عبروا عن الهوية الإسلامية خارج الحزب الوطني مثل محمد رشيد رضا ومجلته المنار التي قامت بدور مهم في الحياة الثقافية المصرية. وكان الاتهام الذي ظل يردده المثقفون المتغربون أن هذا التيار غير وطني فهو يربط مصر بالدولة العثمانية.
لكنه تحليل مضمون جريدة المؤيد وخطب مصطفى كامل ومحمد فريد يوضح أن هذا التيار كان الأكثر تعبيرا عن حب مصر، وقام مصطفى كامل بصياغة العبارات التي احتلت مقدمة النشيد الوطني المصري.
- بلادي بلادي لك حبي وفؤادي.. لك حياتي وروحي.
- ولو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا.
- ومن يساوم على حقوق بلاده يظل أبد الدهر مزعزع العقيدة سقيم الوجدان.
وكانت مقالات مصطفى كامل يتم قراءتها في كل قرى مصر، لذلك كان تأثير اللواء أكبر بكثير من رقم توزيعها.
كان العمد في القرى يرسلون من يحضر جريدة اللواء، ثم يطلبون من أي شخص متعلم أن يقرأ الجريدة على الفلاحين، لذلك كانت اللواء هي الأكثر تأثيرا، وهي من شكلت وعي المصريين بالكفاح من أجل الجلاء والدستور والمجلس النيابي.
وكان الحزب الوطني هو الذي يعمل لطرد الإنجليز من مصر، وتحريرها من الاحتلال، وأن يكون لها دستور ومجلس نيابي منتخب، وهو أيضا الذي دعا إلى إنشاء الجامعة الأهلية التي تحولت فيما بعد إلى جامعة القاهرة، وكانت رؤية الحزب الوطني هي أن الجامعة الأهلية تشكل أساسا لاستقلال مصر، وثورة ضد إستراتيجية "دنلوب" مستشار وزارة المعارف الإنجليزي، الذي حدد هدف التعليم في مصر في تخريج موظفين لخدمة الحكومة المصرية، وليس لتخريج علماء وخطباء وقادة ومفكرين ومخترعين.
وهذا يوضح أن الذين تبنوا الهوية الإسلامية كانوا هم الأكثر قدرة على الكفاح ضد الاحتلال، والمطالبة بالجلاء وإقامة دولة يحكمها دستور، وينتخب شعبها مجلسا نيابيا.
يضاف إلى ذلك إن هذا التيار هو الذي قاد الهجوم على اللورد كرومر بسبب إعدام المصريين في دنشواي، ونجح في إرغام بريطانيا على إقالته لتهدئة ثورة المصريين.
أوضح طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" أن مصر جزء من حضارة دول البحر المتوسط، وهذا يعنى أنه ليس هناك أية مشكلة عند هذا التيار في استمرار الاحتلال البريطاني، أو على الأقل الارتباط بأوروبا.
القطرية والفرعنة
- التيار القُطري المصري: استطاع اللورد كرومر أن يجمع مجموعة من كبار ملاك الأراضي (الإقطاعيين) وبعض المثقفين، وطلب منهم أن يشكلوا حزب الأمة عام 1906، والذي أصدر جريدة "الجريدة" التي رأس تحريرها أحمد لطفي السيد.
وهذا الحزب المرتبط بالإنجليز اعتبر أن مصر امتداد للفرعونية، ولذلك بالغ في تمجيد الرموز الفرعونية كأساس للهوية المصرية المنفصلة عن الإسلام والعروبة.
ومهد هذا الحزب لتبرير فرض الحماية الإنجليزية على مصر، وحتل أعضاؤه مقاعد الجمعية التشريعية التي تشكلت عام 1914. وظل هذا الحزب يشكل تيارا رئيسيا في مصر، وعمل بشكل مستمر على دفع بعض المثقفين للهجوم على الإسلام مثل على عبد الرزاق وطه حسين وسلامة موسى.
وقد أوضح طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" أن مصر جزء من حضارة دول البحر المتوسط، وهذا يعنى أنه ليس هناك أية مشكلة عند هذا التيار في استمرار الاحتلال البريطاني، أو على الأقل الارتباط بأوروبا.
التيارات الثلاثة تتصارع في الكثير من الدول العربية خاصة مصر، فكيف يمكن أن تسهم قراءة التاريخ في بناء هوية توحد الأمة، وتزيد قدرتها على الكفاح لتحقيق الاستقلال الشامل
القومية العربية
- تيار القومية العربية: وقد قام مجموعة من القوميين العرب اللبنانيين والعراقيين بالتقرب إلى الشيخ علي يوسف الذي فتح لهم جريدة المؤيد عام 1906 ليعبروا عن دعوتهم إلى الخلافة العربية، وقد التفوا حول الخديوي عباس حلمي الثاني الذي أعجبته الفكرة فشجعها.
لكن المؤيد كانت قد ضعفت، وقام الإنجليز بنفي عباس حلمي الثاني، وهذا التيار ظل يعبر عن نفسه في الحياة السياسية المصرية، حتى زادت قوته في عهد جمال عبد الناصر.
لكن بالرغم من رفع لواء القومية العربية في عهد عبد الناصر، إلا أن الدولة تبنت أيضا عملية تمجيد الرموز الفرعونية، والتركيز على فكرة تميز المصريين عن العرب.
ونجد نفس النهج لدي حزب البعث في سوريا، الذي قام بتمجيد الرموز الفينيقية، أي أنه يشكل هوية قطرية منفصلة لسوريا.
هذه هي التيارات الثلاثة التي تتصارع في الكثير من الدول العربية خاصة مصر، فكيف يمكن أن تسهم قراءة التاريخ في بناء هوية توحد الأمة، وتزيد قدرتها على الكفاح لتحقيق الاستقلال الشامل، وتقديم إنجازها الحضاري في القرن الحادي والعشرين، فإلى متى يستمر الصراع بين الهويات الثلاث؟
وهل يمكن أن يشكل طوفان الأقصى بداية مرحلة جديدة، تدرك فيها الأمة أن الهوية الإسلامية، هي التي يمكن أن تشكل كفاحها للتحرر من كل أشكال الاستعمار والاحتلال والتبعية، والوعي بها هو بداية الطريق لتحرير فلسطين، فأبطال المقاومة الذين يتحدون قوة الاحتلال الإسرائيلي الغاشمة، كان وعيهم بهويتهم الإسلامية أهم مصادر قوتهم، حيث أصبحت شعوب العالم تحترمهم، وتتطلع لدورهم وللنموذج المتميز الذي يقدمونه للبشرية، والذي يمكن أن يغير الواقع خلال السنوات القليلة القادمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق