المؤرخ الأمريكي «روجر أوين»
يكشف الحقائق كاملة في أحدث كتبه
«صعود وسقوط الجمهوريات العربية الوراثية».. (2-2)
بقلم: مؤمن الهباء
لم يستطع أحد من السياسيين والمراقبين في الداخل والخارج أن يتنبأ بثورات «الربيع العربي» التي انطلقت مثل البراكين من بلد إلى بلد لتغير وجه الخريطة العربية، وتسقط الجمهوريات الوراثية التي ساد اعتقاد عام بأنها آمنة مستقرة، وقد أصدر المؤرخ الأمريكي، البريطاني الأصل، «روجر أوين» (77 عاماً) كتابه «صعود وسقوط الرؤساء الأبديين» ليكشف أسباب سقوط الجمهوريات الوراثية على مدى الخمسين عاماً الماضية.
يقول «روجر»: إن التاريخ سوف يتوقف طويلاً أمام تلقائية حركات الثورة العربية في عام 2011م، فقد حدثت فجأة حتى للذين قاموا بها، ومثل كل الثورات في أي مكان وفي أي عصر، كانت الثورة تبدو مستحيلة، لكن بعد أن تفجرت أدركنا أنها كانت قدراً محتوماً، ربما لم نتصور أن بمقدور رياح الثورة أن تقتلع رؤساء طال بهم الجلوس فوق مقاعد الحكم والسلطة لعشرات السنين، فالثورة كانت مستبعدة، والشعوب كانت تبدو مستأنسة، وحين انطلقت رياح الثورة فجأة شعرنا بالبداية الحقيقية للقرن الحادي والعشرين، فقد انتهى عصر الرؤساء الملوك الذين يتمسكون بكرسي الرئاسة والسلطة حتى آخر لحظة من حياتهم، وأحبطت أحلام أبنائهم في وراثة السلطة عن آبائهم.
والحقيقة أن ثورات «الربيع العربي» شكلت تهديداً خطيراً ليس فقط للرؤساء الأبديين وأسرهم، وإنما أيضاً لمصالح طبقة النخبة العليا التي ارتبطت طويلاً بالأنظمة الحاكمة، وفي الحساب الختامي للثورات العربية حدث تغيير هائل على مستوى القمة بإسقاط الرئيس وأسرته، وهذا هو نصف الثورة المعلن، لكن بقي النسيج الاقتصادي والاجتماعي يستعصي على التغيير، وكما يحدث في أي ثورة فإن عملاء النظام القديم يميلون إلى التضحية برأس النظام «الرئيس/الملك» من أجل الحفاظ على مصالحهم ووجودهم.
ويشير الكاتب إلى بعض العوامل الشائعة لتفسير ظاهرة الرئيس الأبدي ومنها العوائد النفطية التي جعلت كرسي الرئاسة أكثر إغراء وجاذبية، وجعلت الدول الغربية أكثر حرصاً على بقاء الرئيس المطيع المضمون ولاؤه إلى ما لا نهاية، وكذلك الصراع مع «إسرائيل»، وتدخّل الدول الخارجية والبناء البوليسي الوحشي للدولة، وإذا كان استمرار نموذج «القذافي» يعود للنفط، واستمرار نموذج «مبارك» يعود للصراع مع «إسرائيل» التي اعتبرته كنزها الإستراتيجي، واستمرار نموذج «علي عبدالله صالح» يرجع لتدخل الدول الخارجبة التي أعطاها الحق في أن تمرح في اليمن أرضاً وبحراً وجواً، فإن استمرار «بشار الأسد» يرجع إلى البناء البوليسي الوحشي لدولته، فالتمسك بالسلطة يتطلب استعداداً للقتال حتى الموت كما حدث في النموذج الليبي، لكن الرعب الحقيقي بالنسبة لموقف «الأسد» - الذي يسبب بحد ذاته قلقاً أكبر من قتل الأطفال واغتصابهم واستخدامهم كدروع بشرية على يد قواته - هو أن شعبه قد لا يكتفي بمقاتلته حتى الموت بيديه شخصياً، وسيصورون أنفسهم وهم يفعلون ذلك على هواتفهم المحمولة لكي يرى العالم كيف انتقم الشعب لنفسه.
توريث الحكم يقول «أوين»:
إن بعض أنظمة الجمهوريات الوراثية كانت تبدو منيعة وستدوم أبد الدهر، خصوصاً أن الرؤساء الذين كان بعضهم - كـ«مبارك» في مصر - قد بلغ من الكبر عتياً، ذهبوا يرسمون المخططات، ويعدون البرامج لنقل الحكم لأبنائهم، أو لزوجاتهم كما فعل «بن علي» في تونس، ومما ساعد على ترسخ الشعور بأبدية تلك الأنظمة ما كانت تملكه من أجهزة أمنية باطشة مزودة بأحدث أساليب القمع، وقد استمر ذلك الشعور وتفاقم اليأس في النفوس لعقود طويلة، وقد تغيرت المفاهيم في النظم الجمهورية العربية منذ أوائل السبعينيات، وأصبحت المهمة الأساسية لأي رئيس عربي قوي هي أن يقيم نظاماً سياسياً لديه القدرة على البقاء مع تركيز السلطة المطلقة وصناعة القرار في يديه، واشتهرت هذه النظم بثنائية الاستبداد والفساد وضعف الكفاءة، وقصر المنافع على قلة من المقربين للحاكم ودائرته الضيقة، بالإضافة إلى اعتمادها على آليات قمع الجماهير وافتقارها لرؤية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.
وفي ثمانينيات القرن الماضي، حدث تطور لافت، فبعد أن كانت تلك النظم تحاول إخفاء قصورها وعجزها عن تحقيق التنمية من خلال التحلي بقشرة من الثورية والتقشف الزائف، وتبني القضايا القومية الكبرى، جعل الرؤساء الأبديون يتصرفون وكأنهم يقودون نظماً أبدية، فسكنوا القصور الفاخرة، وعاشوا نمطاً باذخاً من الحياة، وأحاطوا أنفسهم بحاشيات مارست الفساد ونهب المال العام بلا حسيب ولا رقيب، واعتاد هؤلاء الرؤساء على التصرف كأنهم مخلدون في مناصبهم، وتجنيد أجهزة الإعلام للدعاية لمخططات التوريث ليل نهار، واستخدام ما كان يتحقق من نمو اقتصادي في تعزيز شرعية أنظمتهم، والعبث بالدساتير وتغييرها لضمان بقائهم في الحكم، مع العمل على تغييب السياسة عن المجتمع، ومحاصرة الأفكار الإصلاحية التي يمكن أن تعيق تحقيق مخططاتهم.
وعلى هذا النحو، تحول الجيل الأخير من الرؤساء العرب إلى ما يشبه الملوك، فأقام «بن علي» في مجمع سكني فاخر في مدينة قرطاج الساحرة على شاطئ البحر المتوسط، في حين كان الرئيسان «السادات» و«مبارك» يفضلان الانتقال من قصر جمهوري لآخر، وكان الرئيس اليمني «علي عبدالله صالح» يقيم فيما يشبه المعسكر الحربي ليوفر لنفسه الحماية ضد محاولات واحتمالات الاغتيال والهجوم.
دور العائلة
واختلف دور عائلة الرئيس من دولة إلى أخرى، فالرئيس «علي عبدالله صالح» يضع 30 من أعضاء عائلته الواسعة على قمة المناصب القيادية في الجيش وأجهزة الأمن، في حين لم يتردد الرؤساء «أنور السادات»، و«بورقيبة»، و«بشار الأسد» في الدفع بزوجاتهم إلى العمل العام لتقوم كل منهن بدور يشبه دور الملكة أو السيدة الأولى الأمريكية، وانهالت على زوجات الرؤساء الدرجات العلمية والأكاديمية العليا ودرجات الدكتوراه الفخرية من الداخل والخارج، وانشغلت كل منهن بالأنشطة التي تنطوي على نوع من الحياد السياسي، بما يعطي الانطباع بوجود مجتمع مدني خاصة في مجالات حقوق المرأة ورعاية الطفل.
وبقيت زوجات «حافظ الأسد»، و«القذافي»، و«عمر البشير» في الظل بعيداً عن أضواء الحياة العامة، وفي حالة واحدة فقط انفردت «ليلى الطرابلسي»، زوجة «بن علي»، كونها أهم سيدة أعمال في تونس بامتلاك وإدارة أكبر الشركات.
وكان الرئيس/الملك في العالم العربي يتيح الفرصة لأعضاء أسرته للقيام بأدوار سياسية خاصة، ومنهم من استدعى ابنه من الخارج ليقوم بمساعدته في إدارة شؤون البلاد والحكم، ومن الأبناء من كان يتقدم الصفوف ليبدو الخليفة المنتظر لأبيه فوق كرسي الحكم، ومن أبناء الرؤساء من كان يتولى قيادة الوحدة الرئيسة في الجيوش باعتبارهم الأكثر ولاء للرئيس، كما كان عليه الوضع في ليبيا واليمن.
فترات تأهيل
ويتوقف المؤلف طويلاً أمام قضية خلافة عروش الرؤساء العرب، خاصة في سورية ومصر وليبيا واليمن، ويؤكد أن المسألة لم تكن سهلة؛ لأن أبناء الرؤساء كانوا يمرون بفترات اختبار وتأهيل، مثل «علاء»، الابن الأكبر لـ«مبارك»، الذي فضَّل ألا يكون خليفة لأبيه في الحكم وركز اهتمامه في كونه رجل أعمال، ومثل «عدي صدام حسين»، الذي تركز اهتمامه الأكبر على تنمية مهاراته العسكرية، بينما كان «جمال»، الابن الثاني للرئيس «مبارك»، يحرص دائماً على الظهور بمظهر الوريث المنتظر للرئاسة، وقام بدور مهم في توفير المال للأسرة من خلال عقود الشراكة التي كان يفرضها قسراً على الشركات الأجنبية الراغبة في العمل في مصر، وقريب من هذا الدور ما قام به «سيف الإسلام القذافي» الذي قدَّم نفسه للغرب على أنه صاحب مشروع إصلاحي يقوم على بناء الديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان، لكنه في الواقع كان يجهز المسرح لقبوله ملكاً قادماً على عرش ليبيا صاحبة المخزون النفطي الكبير.
وقد سئل «علي عبدالله صالح» ذات يوم من صحفي مصري عن حقيقة مشروع توريث السلطة لابنه فأجاب ضاحكاً: «نحن نسير على خطى مصر الشقيقة الكبرى وسنفعل مثلما تفعل»، وهي إجابة صادقة تماماً بالنظر إلى أن مبادرات القاهرة كثيراً ما وجدت صدى لها في العواصم العربية الأخرى فيما يشبه عملية التمصير السياسي، فيما يتعلق بمشروع التوريث ودولة الدستور الزائف والديمقراطية الشكلية والحزب الواحد والمعارضة الضعيفة المستأنسة والعائلة الرئاسية الحاكمة، وما يتبعها من الأقارب والأصدقاء والمقربين من رجال المال والأعمال الذين يشكلون فريقاً واحداً يكرس كل الجهد لتعزيز المصالح المشتركة لأبناء العائلة الرئاسية، ومن حولهم من أصحاب المصالح.
4 عوامل مهمة
يقول «أوين»: إن هناك أربعة عوامل ظهرت في الفترة من أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات تركت أثرها في الحوادث السياسية التي جاءت فيما بعد في العالم العربي، وهي:
الأمر الأول: إعادة تأهيل الجيوش العربية على نحو محترف بعد الهزيمة سواء في مصر أو سورية أو العراق، فيما أحكم الرئيس الجديد في مصر «أنور السادات» سيطرته على المؤسسة العسكرية، وهو النمط الذي انتقل إلى سورية والعراق اللتين شهدتا في الماضي عدم قدرة الرؤساء أصحاب الخلفيات العسكرية على السيطرة التامة على مقاليد السلطة واستمالة الضباط المسيسين ممن دأبوا على استخدام الجيش في الصراعات السياسية. الأمر الثاني: هو أن هزيمة يونيو أدت إلى ندرة في العوائد المالية والموارد اللازمة للوفاء ببرامج الرفاهية الاجتماعية؛ مما أدى إلى التفكير في سياسات الانفتاح الاقتصادي من أجل تقديم حافز للاستثمار الأجنبي، وموجة هجرة العمالة المصرية للعمل في دول الخليج، ثم توالت الآثار في صورة انفتاح سياسي وتعددية مقننة في ظل معارضة تحت السيطرة، وتطور الأمر إلى سياسة «الخصخصة» في التسعينيات من القرن العشرين، التي عنيت ببيع مشروعات مملوكة للدولة لأصحاب رؤوس الأموال وشركات مقربة من الرئيس وعائلته، كما قامت أنظمة جمهورية أخرى في العالم العربي بعمليات خصخصة مماثلة بعد تراجع أسعار البترول اعتباراً من منتصف الثمانينيات فضلاً عن وجود ضغوط من القوى الغربية الكبرى والمؤسسات المالية الدولية من أجل مزيد من انفتاح السوق الداخلية بعد سقوط المعسكر السوفييتي عام 1989م.
الأمر الثالث: هو تراجع معدلات الانقلابات العسكرية في العالم العربي اعتباراً من أواخر الستينيات، نتيجة ما سبقت الإشارة إليه من رفع مستوى احتراف كثير من الجيوش العربية وزيادة قدرة السلطة السياسية على السيطرة على المؤسسة العسكرية بعد حرب 1967م، والمؤكد أن زيادة تعداد الجيوش ورفع كفاءتها قد ساهم في تقليص معدل الانقلابات العسكرية؛ نتيجة عدم قدرة فصيل واحد على حشد الآخرين حول رغباته فضلاً عن إنشاء وحدات الحرس الجمهوري، وتوزيع مهام الرقابة على المخابرات الوطنية، ووحدات في الأحزاب السلطوية الحاكمة مثلما حدث في حالة حزب «البعث» في العراق وسورية.
الأمر الرابع: هو البحث عن شرعيات جديدة بعد تآكل شرعية الجيل الأول لمرحلة ما بعد الاستقلال، وكانت وسيلة الشرعية الجديدة هي سياسة التحرير الاقتصادي المدعومة بعملية انتخابية تجري تحت السيطرة وفي وجود معارضة مستأنسة. وقد خلقت تلك الخطوة عدداً من المشكلات الجديدة أدت إلى استناد الرؤساء العرب إلى مزيد من قوة المؤسسة الأمنية الداعمة لهم، والتي استهدفت بقاءهم في السلطة دون تهديد فعلي. سقوط مفاجئ وهنا لابد أن نتوقف أمام ظاهرة السقوط المفاجئ للرؤساء العرب (الملوك)..
ففي 31 ديسمبر 2010م كان في العالم العربي تسعة رؤساء للجمهورية، منهم سبعة كانت لديه النية والخطط الجاهزة للبقاء في السلطة مدى الحياة، ومن هؤلاء السبعة يوجد ستة تجاوزوا الستين من العمر، وكل منهم يجلس على عرش ملكي ليس فيه من خصائص الجمهورية سوى الاسم المعلن للاستهلاك المحلي، ولم يتوقع أحد انفجار ثورات «الربيع العربي» التي أطاحت بأربعة منهم خلال بضعة أشهر (بن علي، ومبارك، والقذافي، وعبدالله صالح)، والخامس يترنح (بشار الأسد).
يقول «روجر أوين»: إن الشعوب التي تعيش في نظم قمعية واستبدادية تميل إلى إخفاء مشاعرها الحقيقية، ولا يكشف الناس عن حقيقة ما في نفوسهم إلا بعد تجاوزهم حواجز الخوف والقهر، لكن إخفاء المشاعر يأتي في النهاية على حساب التوازن النفسي للفرد، وبمجرد حدوث الحد الأدنى من الانفتاح السياسي تزداد جرأة الكثيرين، ويعلنون بوضوح عن مشاعر الضيق وعدم الرضا حتى يتحقق التحول النهائي في الرأي العام فتحدث الثورة.
المؤرخ الأمريكي «روجر أوين» يكشف الحقائق كاملة في أحدث كتبه «صعود وسقوط الجمهوريات العربية الوراثية» (1)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق