الاثنين، 15 أبريل 2013

الفتنة الطائفية وتحديات الأمن القومي المصري


الفتنة الطائفية وتحديات الأمن القومي المصري



تقع في مصر أحداث متفرقة ولأسباب تافهة تفسَّـُر أحياناً على أنها احتكاك بين المسلمين والمسيحيين، وهي في أحيان أخرى موجهة مباشرة إلى المسيحيين وإلى الكنائس. وقد بدأت هذه الأحداث منذ بداية السبعينيات في الزاوية الحمراء، ووضعت لجنة تقصي الحقائق علاجا لها، لكنه لم ينفذ.
كان الاعتقاد السائد أيام مبارك هو أن هناك عمليات مخططة بعضها من الخارج، وبعضها من النظام نفسه، لكي ينشغل الشعب من المسيحيين والمسلمين بهذه الأحداث فيسهل حكم مصر 
ثم تفاقمت أحداث الاعتداء على المسيحيين وكنائسهم في أواخر عهد مبارك، وكان الاعتقاد السائد هو أن هناك عمليات مخططة بعضها من جانب الخارج، وبعضها من جانب النظام نفسه، لكي ينشغل الشعب من المسيحيين والمسلمين بهذه الأحداث فيسهل حكم مصر بكل الفساد والقهر الذي مثله النظام.
وكانت الحكومة وسلطات الأمن -خاصة وزير الداخلية- المتهمين الرئيسيين، الحكومة بسياساتها  المتهمة بالتآمر، والأمن المتهم بانحيازه إلى المسلمين ضد المسيحيين. هكذا أصبح النظام والأمن هدفاً للمسيحيين، كما كانا هدفاً للمسلمين لأسباب مماثلة، وهذا هو السبب في شعور الشعب كله بأن هناك مؤامرة عليه من النظام والأمن، خاصة بعد تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية، وهذا تفسير- ضمن أسباب أخرى- للالتحام المطلق بين المسلمين والمسيحيين، وشعور الجميع بأن مصر الحبيبة وشعبها الطيب ضحية مؤامرة عليه من أعداء الاستقرار، وذلك خلال مشاهد الثورة التي صهرت الجميع في بوتقة واحدة.
وظن الجميع أن أسباب الشقاق بينهم قد انتهت بسقوط النظام وأسنانه الأمنية التي جعلت أمن الشعب سندا لنظام باطش، بل كان الأمن بمثابة مخالبه و أياديه الباطشة، بينما بدا مبارك بريئاً، خيرا، محسناً، وأنه مع الشعب لولا فظاعة المحيطين به من رجاله خاصة في مجال الأمن.
وعندما تولى المجلس العسكري الحكم في المرحلة الانتقالية تحول العداء المسيحي إليه، خاصة بعد أحداث ماسبيرو، واعتبر البعض أن السلطة أيا كان شكلها هي العدو، وهي السبب في الشقاق بين المسلمين والمسيحيين. وفي هذه الظروف نشطت البؤر المتآمرة، وبدأت الأحداث المؤسفة في موجة جديدة في الصعيد وفي الأحياء الشعبية، وأعادت إلى الذاكرة مرة أخرى صور المآسي السابقة، فأخذت مشاهد الثورة وتلاحم الشعب تتلاشى، وبدأت مظاهر الشقاق في الظهور.
والحق أن هناك عدة عوامل زادت الموقف توترا، دون أن تؤثر على حقيقة أكيدة وهي أن علاقة المسلمين والمسيحيين سليمة، وأن الشحن الطائفي وحالة التوتر السياسية والاجتماعية العامة، فضلا عن أعراض الأزمة الاقتصادية هي التي تجعل أبسط حادثة سببا في الاشتعال.
وقد تمت مراجعة حوادث العنف الطائفي والنهايات التي وصلت إليها في كل مرة دون أن تقتلع جذور المشكلة.
يتوازى هذا الشحن مع تواتر الحديث عن العوامل التي تزيد الموقف اشتعالاً، بعضها نفسي وبعضها سياسي وبعضها الآخر مادي، معظمها داخلية، وأخطرها خارجية،
وأبرز هذه العوامل:
العامل الأول هو تصويت معظم المسيحيين لصالح الفريق أحمد شفيق، رغم كراهية المسيحيين لمبارك ومشاركتهم في الثورة عليه وأن شفيق تلميذه وامتداد له، ولكنهم لا يريدون مرشحا ينتمي إلى التيار الإسلامي.
وقد فسر البعض تصويت المسيحيين عموما لصالح أحمد شفيق بأنه أحد مؤشرات وأسباب الأزمة، على أساس أن المرشح الإسلامي المنافس الذي أرادوا إسقاطه هو الذي فاز، ولكن هذا العامل ليس حاسما، لأن قسماً كبيراً من الذين صوتوا للمرشح الإسلامي لم يصوتوا حبا في المرشح أو بسبب انتمائه الديني، وإنما صوتوا له كراهة في شفيق رمز النظام الفاسد، أو لأنه مرشح الجيش حسب اعتقاد البعض، في وقت يريد الشعب حكما مدنيا بعد ستين عاما من حكم العسكر، وفي وقت كان النقد لإدارة المجلس العسكري قد بلغ قمته، وحتى لا تأتي الثورة برمز من رموز النظام الذى قامت ضده، وإلا كانت نتيجة شاذه.
مؤدى ذلك أن حالة عدم الاطمئنان المسيحي للنظام الجديد جعلتهم أسرع انتقادا له عند كل حادث له علاقة بهم.
العامل الثاني هو بعض الخطاب الديني خاصة السلفي أحيانا، وهي الاتجاهات التي استغلت من جانب أوساط معينة حتى تبرر مواقف العداء والتطرف من الجانب الآخر. ارتبط ذلك بضعف الدولة عموماً والأمن خصوصاً بعد الثورة والذي فسر على أنه مقصود في حالة المسيحيين، حتى أنه في أحداث الكاتدرائية يوم 7 أبريل/نيسان الجاري تُردد أوساط مسيحية بأن الأمن تخلى عن حراستها، وأن المعتدين في مدينة الخصوص وحادث الكاتدرائية كان يمكن مواجهتهم والإمساك بهم لو أرادت السلطات، بينما تردد أن المعتدين مجهولون.
العامل الثالث هو أن معظم المسيحيين يساندون المعارضة، وأنهم اتهموا شخصيات فيهم بتشجيع أعمال العنف وتمويلها، ورصدت لهذه الشخصيات تصريحات طائفية غير مناسبة، وقد شهدت مناقشة حول الشعارات الدينية واستخداماتها الانتخابية، ويرى المسيحيون أن استخدام شعار الإسلام هو الحل، يمكن أن يقابله المسيحية هي الحل، فندخل في ملاحاة وجدل يؤجج الصراع على أساس ديني لأول مرة في تاريخ مصر.
في هذا السياق، لابد من الإشارة إلى ما هو معلوم حول نظرية المؤامرة، والحديث المتواتر عن مخططات تقسيم مصر وإفراد دولة فيها للمسيحيين، ويبدو أن هذه المخاوف هي التي أملت على واضعي الدستور الجديد تجريم تقسيم البلاد، واعتبار المادة الأولى ذلك جريمة، ويتعين على المشرع العادي أن يعتبرها من قبيل الخيانة العظمى.
عاشت مصر طيلة تاريخها دولة موحدة, ولم تكن نظرية المؤامرة نحو التقسيم واردة، ولكن ضرب عنصري الأمة بسياسة فرق تسد كانت ماثلة دائماً في السلوك الاستعماري
ونذكر في هذا السياق بتركيز كافة الوفود الزائرة لمصر على قضية الأقليات والحديث المتكرر عنها، ثم تصريح رسمي أميركي خلال أزمة المصريين المسيحيين في ليبيا وإحراق كنيسة بني غازي، بأن واشنطن قررت اتخاذ إجراءات ضد ليبيا انتقاماً من الحكومة الليبية لصالح المسيحيين المصريين.
الرسالة واضحة وهي أنه إذا كانت حكومة التيار الإسلامي عاجزة عن وقف اضطهاد المسيحيين، فإن الذاكرة التاريخية تستدعي على الفور الحماية الأجنبية ثم رعاية مشروع التقسيم.
لقد عاشت مصر طيلة تاريخها دولة موحدة، وعبد شعبها إلها واحدا بشرائعه الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، ولم تكن نظرية المؤامرة نحو التقسيم واردة، ولكن ضرب عنصري الأمة بسياسة فرق تسد كانت ماثلة دائماً في السلوك الاستعماري.
الموقف الآن واضح وهو أن هناك مؤامرة، وهناك شحن، وضعف في وعي المجتمع، وشعور لدى المسيحيين بأنهم مضطهدون، وهو شعور جديد في مصر.
ويستحيل أن تصل مصر إلى حد الفتنة الطائفية لأن عموم المصريين من المسلمين والمسيحيين يشعرون بأنهم أبناء وطن واحد، فكيف نعيد عصر الوئام والانصهار والجسد الواحد الذي يلفظ المؤامرة والفتنة، ونوقف توظيف هذه الحالة في الصراع السياسي، وأن يكون التيار الإسلامي سياسياً لا علاقة له بالدين؟ وإخراج الدين ورموزه من معادلة السياسة؟
تلك مهمة النخب في كل المجالات، ولكنها جميعاً بحاجة إلى إرادة، كما أن الإعلام الموضوعي بالغ الأهمية في الحل.
إن أمن مصر القومي يبدأ بمحاربة الفتنة حتى تحبط مؤامرة التقسيم، لأن الأمن القومي يبدأ بالتماسك الاجتماعي والتوافق المجتمعي، وأخطر ما يصيب العمود الفقري لهذا الأمن هو زرع الفتنة على أساس ديني، رغم أن الدين يحذر من الفتنة ويؤكد أنها أشد من القتل، ويدعو إلى المحبة والتراحم، وأن العلاقة بين الإنسان وخالقه تمتد إلى علاقات المودة والتراحم مع الآخرين، ولم نر ديناً أو شرعاً يدعو إلى الإضرار بالغير أو تمزيق الدولة والإضرار بالسكينة العامة.
ولذلك فإن الحروب الدينية قد أعاقت أوروبا عن النهوض لأكثر من مائة عام، وهي حروب بين أبناء الطوائف المسيحية أعقبت مرحلة الصراع باسم الدين في عهد الحروب الصليبية.
من الواضح أن بيت العائلة الذي نشأ لإنهاء الفتن الطائفية فكرة سديدة، ولكنها بحاجة إلى خيال جديد، لأن الفتنة الدينية تنتشر في المجتمع انتشار النار في الهشيم، ولذلك تشتد الحاجة إلى وقاية المجتمع من شرورها، خاصة إذا كانت هذه الفتنة يتم صنعها وتوظيفها ضد المجتمع والدولة وسلامة الوطن، وهي أخطر على الأمن القومي المصري من العدوان الخارجي الذي يوحد الشعب ضد عدو واحد، ولذلك تلجأ القوى الخبيثة المعادية لمصر إلى صناعة الفتنة حتى تحقق في مصر ما عجزت عن تحقيقه بالعدوان.
الأمن القومي المصري تتهدده أخطار جسام وهي الفتنة الطائفية، والمؤامرة في سيناء، وفتنة الإعلام، وفتنة التطرف والعجز عن احتواء مكونات الأمة في مشروع قومي واحد
وهكذا نرى أن الأمن القومي المصري تتهدده أخطار جسام، وهي الفتنة الطائفية، والمؤامرة في سيناء، وفتنة الإعلام، وفتنة اللاوعي، وفتنة التطرف والعجز عن احتواء مكونات الأمة في مشروع قومي واحد يصرفها عن معارك الفتنة. وقد نجح جمال عبد الناصر في أن يضع الشعب المصري كله في مشاريع التنمية وصد العدوان والوحدة الوطنية بين جميع أطياف الأمة، ولذلك نجت مصر من الفتن، فقد يكون ذلك على حساب بعض الحريات ولكن سلامة الأمم مقدمة على كل شيء.
كذلك نجح أنور السادات في شحن المشاعر الوطنية في معركة العبور، وعندما قامت بدايات الفتنة الطائفية عام 1972 فإنه قضى عليها تماماً، ولو ببعض القسوة الأمنية، ولكنه ترك تراثا ضارا في الجمع بين الدين والسياسة، مؤكدا على تراث مصر منذ العصر الفرعوني.
إن الأمن بالغ الأهمية في إحباط المؤامرة، ولكنه لا يكفي وحده دون غيره من العوامل الأخرى، خاصة الإنعاش الاقتصادي.
المصدر:الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق