الحصانة ضد الغواية
فهمي هويدي
لم أفهم لماذا تقدم الصحف القومية هدايا تقدر بعشرات الألوف من الجنيهات إلى النائب العام وبعض المستشارين، ولم أجد سببا بريئا لتقديم تلك الهدايا كل عام.
صحيح أن رؤساء الصحف كانوا يمطرون المسؤولين في الدولة بالهدايا بمناسبة وبغير مناسبة.
إلا أنني أزعم أن ذلك إذا كان مكروها بالنسبة للمسؤول العادي، فينبغي أن يصبح محرما على رجال القضاء.
إذ معلوم أن تلك الهدايا لا تقدم لوجه الله، ولكنها في أحسن فروضها تقدم لكسب ود المسؤولين، وذلك إذا كان جائزا بالنسبة لأي مسؤول فلا ينبغي أن يجوز حيث يتعلق الأمر برجال القضاء.
وللعلم فإن تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات، والبيانات التي قدمتها الصحف القومية إليه لا تتحدث عن هدايا رمزية أو عادية مما جرت عليه تقاليد العلاقات العامة، وإنما تتحدث عن هدايا من الوزن الثقيل.
يكفي أن تعلم مثلا أن تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات قدرت قيمة الهدايا التى قدمتها مؤسسة الأهرام وحدها للمسؤولين في الحكومة في الفترة من عام 2006 إلى عام 2011 بنحو 187.5 مليون جنيه. كما أن قيمة الهدايا التي قدمتها المؤسسة ذاتها بين عامي 2000 و2005 قدرت بمبلغ 393.2 مليون جنيه.
وهذه المعلومات أثبتها خطاب أرسله الجهاز إلى رئيس مؤسسة الأهرام الحالي بتاريخ 9/12/2012، ووقعته المحاسبة عزيزة محمد مليجي وكيل الجهاز.
وإذا لاحظت أنه كانت تقدم هدايا للمسؤولين في الحكومة بمتوسط 78 مليون جنيه سنويا في مرحلة، وبمتوسط يتجاوز 37 مليون جنيه في مرحلة تالية، وأن هذه مبالغ انفقتها مؤسسة صحفية واحدة، وإذا أضفت إليها ما قدمته المؤسسات القومية الأخرى، فذلك يصور لك غرابة المشهد وافتقاده إلى البراءة.
عند الفرنسيين مثل يقول إن الهدية المبالغ في قيمتها تعد رشوة، أما إذا انحطت قيمتها فهي تعد إهانة
. وما نحن بصدده من الصنف الأول لاريب، بمعنى أنها رشاوى مقنعة ومهذبة مقدمة إلى المسؤولين في الدولة، من رئيس الدولة وزوجته وابنيه وزوجتيهما فنازلا، وصولا إلى مديري المكاتب ومرورا بالنائب العام وبعض القضاة والمستشارين.
ثمة تقديرات تقول إن النائب العام السابق الدكتور عبدالمجيد محمود تلقى هدايا من المؤسسات الصحفية بما قيمته 300 ألف جنيه، وقد أظهر إيصال موجود على الإنترنت أنه بعد إعلان قوائم الهدايا رد لمؤسسة أخبار اليوم في 23/2/2012 مبلغ 23 ألفا و435 جنيها قيمة ما تلقاه منها من هدايا تمثلت في الساعات وأربطة العنق والعطور الفرنسية.
صحيح أن المبلغ يبدو متواضعا نسبيا، إلا أن المبدأ هو الذي استوقفني وأثار لدي السؤال التالي: كيف يقبل النائب العام هدايا غير مبررة من المؤسسات الصحفية التي قد تكون مخالفاتها بين ما هو موجود في أحد أدراج مكتبه؟
ما كان لي أن أطرح السؤل لولا أنني أعرف دقة المسألة وحساسيتها بين القضاة.
ومما يروى في هذا الصدد، أن وزير العدل الأسبق المستشار أحمد حسني الذي تقلد منصبه في خمسينيات القرن الماضي استقبل قاضيا أبلغه بأنه عرضت عليه رشوة لكنه رفضها. وحين سمع الرجل منه قصته فإنه أطرق لحظة ثم قال للقاضى إنه في هذه الحالة يجب أن يقدم استقالته من وظيفته. وإذ فوجئ القاضى بطلب الوزير فإنه سأله عن السبب الذي دعاه إلى ذلك، حينئذ قال المستشار أحمد حسنى إنه حين يتوسم صاحب المصلحة أن القاضي يمكن أن يرتشي، فتلك سمعة أو شبهة تفرض عليه أن يترك منصبه حتى لا يظن غيره به ذلك إلى هذا المدى الحرص على نقاء صورة القاضي.
هذه الحساسية لم تكن مقصورة على موقف القضاة من أصحاب القضايا فحسب، ولكنها كانت أيضا قائمة في علاقة القضاة بالسلطة.
فيذكر المستشار طارق البشري في كتابه عن القضاء المصري أن أباه المستشار عبدالفتاح البشري كان فى عام 1948 رئيسا لإحدى دوائر الجنايات الثلاث بمحكمة القاهرة (الآخران كانا المستشار عبداللطيف محمد والمستشار حسن فهمي بسيوني) وحينذاك اغتيل المستشار أحمد الخازندار، وقررت الحكومة أن تقدم سيارة بحرس إلى كل واحد من أعضاء تلك الدوائر، لكن الأب المستشار عبدالفتاح البشري اتفق مع زميليه على رفض العرض. وقد سمعه ابنه طارق وهو يقول لهما على الهاتف: كيف تقرر لهم مزية لا تعمم على كل مستشاري المحكمة؟ وهل أمنهم هم أولى من أمن غيرهم؟
وكيف يسوغ أن يرى المتقاضون قاضيهم ينزل من السيارة المحروسة أمام المحكمة؟
وإن ظنوا بحق أنه خائف فكيف يطمئنون إلى قاضيهم وإلى حيدته وهم يرونه خائفا؟
أضاف إلى ذلك قوله إن شرعية القاضي عند الخصوم الماثلين أمامه أنهم يطمئنون إلى حياده وأنه سيَّان عنده -حسبما يظهر له أنه الحق- الحكم ضد هذا أو ضد ذاك، فهل يطمئنون إليه وهم يرونه خائفا ومحروسا؟
إن أكثر الذين يتحدثون عن حصانات القضاة هذه الأيام يفوتهم أن حصانة القاضي ضد الغواية من أهم ضمانات نزاهته واستقلاله. وهو ما يسوغ لي ان أطرح السؤال التالي:
كم قاضيا يبقى في منصبه لو اننا طالبنا الذين تعرضوا للغواية أو الذين وقعوا فيها ان يقدموا استقالاتهم؛ درءا للشبهة أو تطهيرا للسَّمعة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق