لماذا نتهم إيران بتفجير القديح ؟
شريف عبد العزيز
في خير يوم طلعت عليه الشمس، في يوم الصلاة الجامعة ، والخطبة النافعة، في يوم خروج الكبار والصغار، في أمن وأمان لأداء الشعيرة العظمى، وفي شهر شعبان الخير، الذي هو شهر رفع الأعمال، والاستعداد لرمضان، وفي بيت من بيوت العبادة التي لها حرمتها حتى لو كانت لغير المسلمين من أهل الكتاب، والجميع يستعد للصلاة، وفجأة يقطع خشوع التهيؤ للصلاة انفجار عنيف، فيعلو الصراخ، ويرتفع الأنين، وتختلط الدماء والأشلاء بفرش المسجد ومصاحفه، وتزهق روح أكثر من عشرين مصليا بلا أدنى جريرة، ويجرح أضعافهم، في واحدة من أسوأ الحوادث الدموية التي تتعرض لها المملكة السعودية في السنوات الأخيرة.
فقد أحدث التفجير الارهابي الذي وقع في مسجد علي بن أبي طالب ببلدة القديح في منطقة القطيف شرق السعودية وأسفر عن سقوط أكثر من 20 قتيلا وعشرات المصلين صدمة عند الشعب السعودي والعالم الإسلامي بأسره ، عبرت عنها هيئة كبار العلماء السعودية ببيان شديد اللهجة وصف التفجير بالعمل الإجرامي.
وليست هذه هي الحادثة الأولى في هذه المنطقة ذات الكثافة السكانية الشيعية في شرق المملكة، فقد أقدم 3 ملثمين في نوفمبر من العام الماضي على فتح نيران رشاشاتهم الآلية على مجموعة من المواطنين أمام حسينية بقرية الدالوة بمحافظة الأحساء شرق السعودية.إطلاق النار هذا خلّف 5 قتلى و9 جرحى، والذي استهدف تجمعًا للمواطنين من الطائفة الشيعية أثناء خروجهم من إحدى الحسينيات.
وفي سرعة لافتة للانتباه أعلن تنظيم الدولة " داعش " عن مسئوليته عن هذا الهجوم الدموي في بيان له عبر مواقع التواصل الاجتماعي بوصفه لهذا الحادث بأنه " عملية نوعية لجنود الخلافة بولاية نجد" وأن منفذها الذي فجر «حزامه الناسف رجل غيور من رجالات أهل السنة (هو) الأخ الاستشهادي ابو عامر النجدي"، الذي نشرت صورته. وهذه هي المرة الاولى التي يتبنى فيها التنظيم رسميا هجوما على اراضي المملكة، مستخدما اسم فرعه السعودي «ولاية نجد».
ورغم مأساوية الحادث ودمويته وظلاله القاتمة على الشعب السعودي ، إلا إن ذلك لا يمنعنا من طرح أسئلة مشروعة حول طبيعة وخلفيات وأهداف هذا النوع من الحوادث الدموية .
من هذه الأسئلة المشروعة:
ما هي الأهداف الحقيقية من وراء هذا النوع من الحوادث الدموية؟
هل حقا تنظيم داعش هو المستفيد من هذه الحادثة ؟ أم ثمة أطراف إقليمية أخرى لها مصالح أكبر من وراء هذا النوع من العمليات التفجيرية للنسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية؟
وهل تنظيم داعش مخترق من مخابرات إقليمية ودولية بصورة تسمح باستغلال تطرفه وغلوه في العبث باستقرار وأمن دول المنطقة؟
وهل ثمة علاقة بين توقيت الحادث وتطور عاصفة الحزم ، ودخولها في مراحل حاسمة، وقرب التدخل البري في اليمن ؟
الأهداف الحقيقية لهذا الحادث واضحة للجميع ، بل هي أوضح من الشمس في رابعة النهار ، لا تحتاج إلى محللين أو خبراء ، فهي تستهدف مباشرة بلا أدنى مواربة إيقاع الفتنة الطائفية بين مكوني الشعب السعودي ، واختيار الطائف لا يدع مجالا للشك في أن خيار إشعال السعودية بحرب طائفية داخلية تهدد أمن وإستقرار السعودية هو الخيار الرئيس لهذه العملية ، بل إن اختيار اليوم نفسه مقصود ، فهو اليوم الذي يعتقد الشيعة وفقا لتعاليمهم الخاصة بهم أن يوم مولد الحسين رضي الله عنه ، وهم يحتفلون به ويعظمونه . فثمة مشروع قديم منذ أكثر من 35 سنة لتحويل الاحساء كلها لبؤرة توتر طائفي ، وخندق صراع مجتمعي يأكل الأخضر واليابس ويحولها لأرض محروقة ينفذ منها أعداء السعودية التقليديين والتاريخيين ؛ إيران الفارسية .
بل إن عقلاء الشيعة يعلمون أن أمثال هذه الحوداث تستهدف تأجيج الصراعات الطائفية وتمزيق اللحمة الوطنية ، والقذف بعيدا بالمكون الشيعي خارج الاصطفاف الوطني الذي وصل لأعلى مستوياته منذ وصول المللك سلمان لسدة الحكم.
أيضا هذه الحادثة تثير العديد من التساؤلات عن أجندة داعش في المنطقة ، وعملياتها النوعية التي عادت في الكثير من الأحيان بالنفع على أعداء الأمة ، ولعل السؤال الأبرز في هذه القضية : هل جماعة داعش مخترقة مخابراتيا ؟
الحقيقة أنه لا يوجد أي كيان منظم لها هيكل وكادر ونظام سواء كان إسلاميا أو سياسيا أو اجتماعيا إلا وهي مخترقة بنسب متفاوتة من قبل أجهزة مخابرات محلية أو إقليمية أو دولية ، وكلما كبر حجم الجماعة ، وانتشرت فروعها ، وزاد عدد المنضمين إليها ، وكثرت عملياتها الميدانية ، كلما اتسعت عملية الاختراق.
والاختراق يختلف عن التجنيد ، فليس شرطا في الاختراق أن يعلم الكيان أنه مخترق أو يعمل لصالح غيره ، بل إن كثيرا من عمليات الاختراق تكون بوسائط فكرية أو لوجستية من علاقات وصفقات تبادلية ، يتم من خلالها توظيف هذا الكيان لأهداف مخصوصة ، وهو ما يكاد ينطبق على عمليات داعش في السعودية.
فليس مثل هذا النوع من العمل مما يقوض أمن بلد كبير وممتد وعريق مثل السعودية ، والثلاثين سنة الأخيرة شهدت الاحساء عشرات الحوداث الطائفية بتحريض مباشر من إيران ولكنها فشلت جميعا في تحقيق أهدافها ، فهل عملية أو عمليتين ستنجح في تحقيق هذا الهدف ؟ لا أعتقد .
وبعيدا عن نظريات المؤامرة الكونية ، ونظريات المتهم الجاهز ، والعدو التاريخي ، والغريم التقليدي ، والمستفيد الأول ، فإن كان القرائن والدلائل والشواهد تشير بقوة إلى إيران وذلك لأسباب كثيرة أبرزها:
التحول الكبير في السياسة السعودية على الصعيد الخارجي والإستراتيجي ،فالسعودية قد أخذت زمام المبادرة من إيران بإطلاقها لعاصفة الحزم والتي أربكت بشدة حسابات التمدد والهيمنة الإيرانية في المنطقة ، فقد تصاعد النفوذ الإيراني في منطقة المشرق العربي (العراق والشام والجزيرة) يومًا بعد يوم منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وتسليمه لإيران كساحة خلفية للنفوذ، ما بين دعم لمليشيات طائفية مرتبطة ارتباطًا عضويًا بطهران، وما بين تمدد للسيطرة على عواصم عربية ومضائق بحرية، لتتوج ذلك تصريحات تفيد بأن الإمبراطورية الإيرانية باتت عاصمتها بغداد، فيما بدا أنه تطويق كامل لتلك المنطقة، وهو ما قوبل بـ "عاصفة الحزم" بقيادة السعودية، والتي تستهدف في ظاهرها مليشيات الحوثي على حدودها الجنوبية، ولكنها فعليًا أول مواجهة عسكرية مباشرة للجيش السعودي مع مليشيات إيرانية ، وتستهدف مباشرة مشروع الهيمنة والنفوذ الإيراني في المنطقة .
لذلك كانت جاءت التهديدات الإيرانية ضد هذه العمليات العسكرية باليمن ، صريحة ومباشرة من قياداتها العسكرية أو عبر صنائعها من الدمى الصغيرة في اليمن أو لبنان ، لذلك لم يكن مستغربا أن نجد زعيم حزب الله الموالي لإيران يرد على تفجير القديح بإلقاء اللائمة على الحكومة السعودية ، ويهدد بإعلان التعبئة العامة ، ولا أدرى كيف يتهم حكومة بأنها تعبث بأمنها الداخلي واستقرارها وتمزق نسيجها المجتمعي ؟ فهل يصدر هذا الكلام من عاقل ؟
وإن أردت أن تستمع إلى كلام عاقل عن الدور الإيراني في العبث بأمن واستقرار المنطقة ، ومن شيعي لبناني ، فاسمع ما قاله رئيس "التيار الشيعي الحر" في لبنان، الشيخ محمد الحاج حسن عن أن "إيران تستخدم الشيعة العرب وقودا لمشروعها الخاص (في المنطقة) الذي لا يخدم الشيعة، بل يخدم هدفها السياسي"، كما نقلت عنه وكالة الأناضول.
فقد دعا الحاج حسن أبناء الطائفة الشيعية العرب، إلى أن يكون "ولاؤهم لأوطانهم وعروبتهم"، لافتا إلى أن "ردع الهيمنة الإيرانية عن القرار الشيعي العربي" يحتاج أن تدرك الحكومات العربية إلى أن إبقاء الشيعة العرب على هامش الحياة السياسية والمجتمعية يدفعهم إلى الارتماء في الحضن الإيراني".
وأشار إلى أن قرار دخول حزب الله في الحرب السورية "ليس بيده، بل إيران هي التي قررت ذلك"، موجها دعوة إلى أبناء حزب الله "أن يعودوا إلى لبنان، وأن يعودوا إلى العمل المشترك مع كل المكونات اللبنانية من أجل بناء دولة حقيقية".
وتوجه الحاج حسن إلى أبناء الطائفة الشيعية في لبنان بقوله: "ما رسخ في عقولكم أن المعركة في سوريا هي معركة دفاع عن الطائفة الشيعية ومعركة مصير ووجود، لا علاقة له بأرض الواقع.
فقارن هذا الكلام العاقل مع كلام المحرض الطائفي حسن نصر الله.
ومن الأسباب أيضا حالة الضعف والتراجع الكبير للدولة الإيرانية في الفترة الأخيرة ، فإيران تمر بحالة غير مسبوقة من التراجع ، فالمشاكل الخارجية والداخلية تعصف بمكانتها وقدرتها على مواصلة الحفاظ على مكتسبات الفترة السابقة ، فالنظام الإيراني قد تعرض لزلزال شديد في كل مناطق نفوذه الخارجية تقريباً؛ فإن قدرته على الصمود في الداخل لابد أن تتأثر بقوة بذلك ، وهو ما يدفعه لتصدير مشاكله خارج حدوده ، ويشعل النيران في حدائق الجيران الخلفية، لتجييش الداخل والخارج نحو تأجيج الصراع الطائفي ، مما يثبت مكانة إيران كمهيمنة وملهمة للمظلومين والمقهورين في العالم!!
وما من شك أن النظام الإيراني، ظل لعقود قوياً، ممسكاً بزمام ملفات خارجية عديدة، ولديه قدرة كبيرة على التحرك والمناورة، كما أن لديه إرثاً هائلاً من المكر والخداع، كما ولديه تطلعات قومية فارسية تجد لها أنصاراً كثيرين، وكل ذلك في ظل حراسة الإرادة الدولية، تحميه من المسائلات القانونية عن جرائم الحرب والإرهاب، وقمع الشعوب، وانتهاك الحريات الدينية والاجتماعية ، على أن هذا كله قد تعرض لصدمة عاصفة الحزم . أما الداخل الإيراني فقد اهترأ بدرجة لم يكن يصدقها الكثيرون .
ولعل حادثة فتاة مدينة مهاباد الكردية إلى الشمال الغربي من إيران ، تبرهن على هذا الضعف الداخلي ، والانهيار الأخلاقي ، والفساد الإداري . فالاحتجاجات التي كانت على وشك إدخال إيران نادي الثورات العربية قد كشفت عن ندوب وثقوب في النسيج الإيراني لا تفلح آلة الدعاية الكبيرة في إخفائها أو تجميلها .
وبغض النظر عما إذا كانت هذه الانتفاضات الكردية ظرفية أو فيصلية؛ فإنه على افتراض أنها عوارض طارئة؛ فإن لها بالتأكيد أثر ممتد على الدولة الإيرانية؛ فثمة أمور لابد من أنها قد تغيرت، وتركت ندبات في الجسد الإيراني، منها أن صورة إيران كدولة دينية، قد تأثرت كثيراً، لاسيما أن فضائحها الأخلاقية من بعد السياسية أصبحت أكثر من أن تحد بسياسات استثنائية أو تجاوزات أخلاقية، ومنها أن صورة إيران كدولة قوية لم تعد كما سبق، خصوصاً أن من كان ينتظر من أتباعها ردها في اليمن أصيب بخيبة أمل.
فإيران اليوم بالتأكيد لم تعد مثل إيران الأمس . فقد كشف تقرير سابق للإيكونوميست البريطانية نشر في نوفمبر الماضي بعنوان "انتهاء الثورة الإيرانية" عن أن جذوة الثورة الإيرانية قد خبت وانتقل الناس من القرى إلى المدن واستمتعوا بالثراء والشهوة الاستهلاكية للتقنيات الغربية، كما أدت الرئاسة الكارثية لمحمود أحمدي نجاد، وفشل الثورة الخضراء التي سعت لإسقاطه في عام 2009، وأحداث الربيع العربي إلى فقد الثقة في السياسات الراديكالية وتعزيز موقف الوسطيين البرجماتيتين، وتراجع تأييد المجتمع الديني للملالي وبدت المساجد أكثر فراغًا بمرور الوقت، وبدا أن الدولة الإسلامية الإيرانية في تراجع، كما تفشت مظاهر التساهل في الحجاب وانتشرت العلاقات بين الجنسين سواء في السر أو في العلن، وكل تلك هي مؤشرات غير محمودة على ضعف إيمان الشعب بأدبيات الملالي السياسية والدينية . والتركيبة السلطوية للدولة الإيرانية بسيطرة المرشد على الخيوط السيادية بذراعه الأهم الحرس الثوري تستطيع حتى وقت ما اختطاف الشعب الإيراني، لكنه لن يتحمل طويلاً مغامراته الكارثية في حالة اشتعال النيران في الثوب الإيراني نتيجة لممارساته المذهبية وتوسعه العسكري الخارجي .
إن تتبع الخط الحالي والمستقبلي للنظام الإيراني يؤكد على اعتماد نظام الملالي بها على خيار التصعيد الطائفي الذي يشعل المنطقة بأسرها في حروب طائفية ،وتفجير المجتمعات الخليجية المعروفة بإثنيتها بصراعات داخلية ، بتفشي ظاهرة المليشيات، وسقوط أنظمة ، وتحول أخرى إلى كيانات فاشلة، وامتداد الحرائق المذهبية حتى الداخل الإيراني، وارتفاع احتمالات المواجهة العسكرية الخليجية الإيرانية التي ستأكل الأخضر واليابس، باستفادة إسرائيلية كاملة من ذلك السيناريو الكارثي, ولذلك كله نحن نتهم إيران بالوقوف خلف حادثة القديح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق