نزوح جماعي من معسكر الانقلاب!
سليم عزوز
ألقت "الثورة المضادة" ما فيها وتخلت، فلم يبق مع الانقلاب العسكري ممن شاركوا في ثورة يناير، إلا عددا من الانتهازيين السياسيين، لم يفقدوا الأمل، في أن عبد الفتاح السيسي عندما يقرر حسم خياراته، وينحاز للثورة، ويحتاج لغطاء مدني، فلن يجد غيرهم!.
"عشم إبليس في الجنة"، فالسيسي كان يريدهم "لمسافة السكة"، فلما قضى من الثورة وطراً، وأدخل الغش والتدليس على الرأي العام بوجود القوى المدنية والثورية غطاءً له، لم يعد لديه أزمة في أن يعلن خياراته بأنه نتاج انقلابي عسكري على الرئيس المنتخب، والآن فلا توجد لديه أزمة في أن يعلن حقيقة وضعه، فيستدعي عضو لجنة السياسات "إبراهيم محلب" رئيساً للحكومة، وخصم ثورة يناير، ورجل نظام مبارك في القضاء، "أحمد الزند"، وزيراً للعدل.. وهذا ليس موضوعنا!.
احتياج عبد الفتاح السيسي، للقوى المدنية والثورية، لمسافة السكة، أمر كنت قد أدركته في الساعات الأولى لوقوع الانقلاب العسكري، وكنت أخاطب القوم من المدنيين والثوار، بأنهم ليسوا أكثر من ضيوف على 30 يونيو، وأن "أصحاب الليلة" هم من ينتمون لنظام مبارك.. وكتبت أنه عما قريب ستذهب السكرة وتحل الفكرة، ليقف هؤلاء على الحقيقة المرة وأنهم وإن كانوا ضيوفاً، فلم يعد مرغوباً فيهم، فقط كان شعار السيسي "يا بخت من زار وخفف".. وأيضاً هذا ليس موضوعنا!.
فقد شهد الأسبوعُ الماضي إعلانا جماعيا للبراءة من عبد الفتاح السيسي، واعتذارا عن المشاركة في 30 يونيو، على نحو داعب خيال الداعين للاصطفاف الثوري في عودة الثوار كما كانوا أمة واحدة، في مواجهة هذا الانقلاب العسكري، في حين أن هناك من رفضوا هذه التوبة، بعد أن ظنوا أنها موجهة لهم، وأن هؤلاء الذين تابوا يقفون على "باب القبول"، وعليه فمن حقهم أن يرفضوا عودتهم للصف الثوري!.
الموضوع شائك، لذا سأبذل قصارى جهدي من أجل تفريغ شحنة الاحتشاد، التي تسيطر على الطرفين!
وربما وجد أحد التائبين وهو "براء أشرف"، أن هناك من سيظن أنه يقف بالفعل على "باب القبول"، فكتب أنه يأسف على المشاركة في 30 يونيو، واستدرك "أسف لنفسي مش للإخوان"!.
"باب القبول" لم يفتح، على عكس ما أنشد المداح الصوفي: "باب القبول انفتح، قدم طلب يا بني وأنت عليك الأساس وأنا عليّ أبني"، فالتائب لم يقف أساساً على "باب القبول" ولم يقدم أصلاً طلباً، لكي يقال له" طلبك مرفوض!.
معظم التعليقات على التوبة سلبية، وقد عبرت عنها زميلتنا المناضلة "آيات عرابي" بأنه ليس مرحباً بهؤلاء في صف الثورة!.
هناك رفض مقدر، لأنه يأتي مسكوناً بالهم النفسي، فلم يكن في مقدرة عبد الفتاح السيسي أن يلغي ثورتنا بجرة بيادة، ولم يكن له أن يرتكب كل هذه المجازر، وأن يدفع بالبلاد إلى المجهول، لولا أنه وجد غطاءً مدنيا لانقلابه العسكري، وغطاءً ثوريا لثورته المضادة، وقد مثل هذا الغطاء هؤلاء الذين مثلوا الثورة وينتمون للتيار المدني وشاركوا في 30 يونيو، التي كان فيها حضور حزب مبارك وولده معروفاً منذ البداية، وعليه طلب حمدين صباحي من أتباعه، عدم سؤال من يقف بجوارهم إن كان ينتمي للحزب الوطني، فما بينهم وبين هذا الحزب خلاف ثانوي، وإن الخلاف الجذري هو مع الإخوان المسلمين!.
وكنا أمام انتهازية واضحة، إذ ظن البلهاء أن عبد الفتاح السيسي سوف يسقط محمد مرسي ويسلم السلطة لهم، ما دام من المحال أن تمكنهم الجماهير عبر صناديق الانتخابات منها، وهذا هو بيت القصيد!.
غير المقدر، هو حالة التعالي التي تنتاب البعض، من الداعمين للشرعية، فعندما يسمعون تائباً، أو يطالعون اقتراحاً بحل، فإنهم يظنون أن هذا لأنهم باتوا قاب قوسين أو أدني من قصر الاتحادية، وأنهم بفضل نضالهم أوشكوا أن يحققوا النصر المبين، فليسوا بحاجة للمؤلفة قلوبهم!.
لا يزايد عليّ أحد في الموقف من الدكتور محمد البرادعي، الذي انتقلت من تأييده والتبشير به في عهد مبارك، ومن التأكيد أنه المرشح الرئاسي الأنسب بعد الثورة، وعندما لم يترشح طالبت بأن يكون هو رئيس الحكومة، إلى الهجوم عليه عندما تم حصار مقر جماعة الإخوان في المقطم، وسالت دماء من فيه، عندها طالبته بإدانة لهذا الدم المراق، وعندما لم يفعل قلت: هذا فراق بيني وبينك، وازداد هجومي عليه بعد مشاركته في الانقلاب العسكري، ولم يشفع له عندي أنه استقال احتجاجاً على مجزرة رابعة، لأن هناك مجزرة سابقة ارتكبت في ظل وجوده نائباً للرئيس المؤقت، وهي مجزرة الحرس الجمهوري، فلم يدنها ولم يغادر!.
لقد عرضت اقتراحاً للمناقشة على صفحتي على "الفيس بوك" وطلبت أن يدلو كل بدلوه، يتمثل الطرح في أن مرسي رئيساً والبرادعي رئيساً للحكومة، فجرى اتهامي من المناضلين الجدد بالعمالة للمخابرات دون تحديد، على نحو خشيت معه أن أكون عميلاً لـ "كي جي بي"، إذ ظنوا أن هذا طرحاً مخابراتياً بسبب أنهم انتصروا في نضالهم.
وما داموا قد انتصروا فمن حقهم أن يضعوا هم شروط المنتصر، لأبلغه لأجهزة المخابرات المهزومة، فمن طالب بمرسي رئيسا والشيخ حازم رئيساً للحكومة، ومن اقترح أن تكون رئاسة الحكومة من حظ ونصيب "عصام سلطان"، مع الإبقاء على مرسي رئيساً للبلاد!.
يجوز في هذه الظروف أن أصارح الناس بالحقيقة المرة، وهي أن البرادعي ليس راغباً في شيء من
هذا، وأن كل ما يشغله هو أن يبرئ ساحته تاريخياً من الدماء التي سالت على يد انقلاب شارك فيه، وأقنع به الدوائر الغربية قبل وقوعه؟!
وهل أصارحهم بأنهم لم ينتصروا بعد، وأن الحراك الحالي، ليس بالقوة التي تدفع ليس بعودة مرسي رئيساً للبلاد، وإنما بالقدرة على إلغاء قرار فصله من جامعة الزقازيق؟!
لقد طالعت في الأسبوع الماضي مقالات لثلاثة من الذين شاركوا في 30 يونيو، مثلوا عنواناً لعملية النزوح الجماعي من معسكر الانقلاب العسكري.
الأول: هو لـ " براء أشرف"، الذي قدم أسفه على المشاركة في هذا اليوم وتقدم باعتذار لأم أي شخص قتل منذ هذا التاريخ لأسباب لها علاقة بالسياسة، وقال إنه يأسف لأنه كان "طيباً زيادة"، أو أنه كان "عامل نفسه طيب زيادة".
الثاني: هو لـ "عبد الرحمن منصور"، أدمن صفحة "كلنا خالد سعيد"، الذي من الواضح أنه أعلن ندمه مبكراً، بمشاركته في اعتصام رابعة، وكان يجري بين الدماء في يوم الفض، وشعوره بالمسؤولية عن كل هذا الذي جرى، بدليل أنه غادر البلاد بعد أسبوعين من ذلك، وبعد شعوره أن الثورة التي حلم بها جيله قد ذهبت إلى مسار أكثر سواداً.
فقد شارك "منصور" حذراً في 30 يونيو، معتقداً أنها موجة ثورية من موجات ثورة يناير.
ولم يخل الأمر من فكاهة، عندما يقول إن القمع الذي تعرض له قطاع كبير من التيار المدني في عهد السيسي أكبر من القمع الذي تعرضوا له في عهد مرسي!.
فما هي "أمارات القمع في عهد مرسي"؟!.. لكن ربما يبرر "منصور"، سبب مشاركته الحذرة، ودعوته لانتخابات رئاسية مبكرة، فقد كان هناك قمع تعرض له "قطاع كبير من التيار المدني" في عهد محمد مرسي!.
الثالث: هو لزميلتنا الصحفية "حنان كمال"، الذي حمل عنوان: "اقتل لكن ليس باسمي"، وهو موجه للسيسي، وتقول "إذا كان كل ما جنيناه من 30 يونيو هو بحر الدم الذي لا يريد أن يرتوي، فأنا نادمة".
وتضيف: "لم يعد لدي شك أن سلطة عبد الفتاح السيسي مهمتها هو التخلص من كل أثر لثورة يناير"
بطبيعة الحال، لم تنس "حنان كمال" أن تبرر لموقفها بالمشاركة، بأنها كانت ضد اليمين الديني، وخشيت على قتل الحريات الشخصية كما في إيران!.. ولأنها لا تحب الانتهازيين من الساسة والإخوان وقد سلكوا كل مسالك الانتهازية بالتعاون مع العسكر!.
"حنان كمال" ناصرية، وربما هي الأقرب للفصيل الناصري الذي حمله الإخوان على قوائمهم ودفعوا به ليكونوا أعضاء في البرلمان، هذه القوائم التي استبعدت منها أنا بحركة غدر، ومع هذا لم أكن أخشى على الحريات الشخصية من حكم الإخوان.
وفيما يختص بالانتهازية السياسية فلم يكن هناك تيار يمثل النقاء الثوري برفض التعامل مع العسكر سوى "تيار حازمون"، فكل التيارات هرولت لمقر القيادة العسكرية تبتغي منافع لها بعد تنحي المخلوع، والذين خرجوا في 30 يونيو كانت انتهازيتهم واضحة لأنهم كانوا يعلمون أنهم في حماية العسكر!.
مثل هذه المبررات تجعل من يظنون أن التوبة موجهة لهم، يرون أنها ليست توبة مكتملة وبالتالي من حقهم أن يرفضوها من ظاهر الأوراق، فليس أمام هؤلاء إلا أن يأتوا زحفاً على بطونهم ويرابطون أمام "باب القبول"، وبعدها يمكن مناقشة من السبب فيما جرى، هل بسبب قطيعة الحكم الإخواني مع شركاء الميدان، بعد ظنهم أنهم يملكون القوة الجماهيرية ويضمنون ولاء الجيش لهم؟! أم الأزمة في هؤلاء الذين باعوا ثورة يناير للعسكر برغبة الانتقام، وبانتهازية ظنوا من خلالها أن العسكر سيسقطون الإخوان ويسلمون السلطة لحمدين صباحي؟!.
مثل هذا الحوار البيزنطي يذكرني بواقعة تستحق الذكر لتقليل حجم غضب كل الأطراف، وهم يطالعون هذه السطور.
في ذروة الحرب العراقية – الإيرانية، دعا صدام حسين، علماء المسلمين للعراق من كل الأصقاع، وكان يريد أن ينتزع منهم تأييداً له في حربه!.
عندما هم الشيخ صلاح أبو إسماعيل "والد حازم" بالدخول من الباب المؤدي لقاعة المؤتمر، وجد نفسه سيتعرض للتفتيش فرفض، وطلب أن ينقلوه فوراً إلى المطار ليعود للقاهرة، إذ اعتبر التفتيش إهانة له، مما أوقع الأمن في حيرة، وجاؤوا له بكرسي وجلس أمام الباب، وربما وصل ما جرى للرئيس العراقي، فعلم بفطنته السياسية أنه ليس أمام شخص عادي، وبحصافة سياسية أوقف سيارته أمام بوابة الضيوف، ونزل ليصطحب الشيخ بنفسه إلى سيارته ليدخل معه للقاعة من الباب المخصص للرئيس.
في كلمته، لم يبد أن الموقف قد أثر كثيراً في قوة الشيخ، فوقف يوجه حديثه لصدام حسين: "دعوتنا باسم الإسلام، فأين أنت من الإسلام وأين الإسلام منك؟".
واستوعب صدام حسين الموقف، وقرر أن يحوله بذكائه لصالحه، فأعلن أن المشاركين في المؤتمر عددهم (314) عالماً، وأنه إكراماً لعلماء المسلمين فقد قرر إطلاق سراح نفس عددهم من الأسرى الإيرانيين، وأن العلماء عليهم اختيار وفد منهم يصطحب هؤلاء الأسرى إلى طهران، وما يقررونه سيوافق عليه بلا مناقشة!.
وسافر الوفد برئاسة الشيخ صلاح أبو إسماعيل إلى إيران، لكن الإمام الخميني وكان حاداً كزميلتنا "آيات عرابي" رفض أن يقابل الوفد إلا بعد أن يجيب على ثلاثة أسئلة، أتذكر منهم سؤالين، ولا يعنينا هنا سوى السؤال الأول:
"من بدأ الحرب"؟
وأرسل الشيخ صلاح وكان يتمتع بالحضور والفطنة ثلاثة أسئلة للخميني، كل سؤال يواجه نظيره.
فقال: "إن سؤال من بدأ الحرب؟.. يكون بسؤال: من الذي لا يريد أن تنتهي الحرب؟!". وكان المثار إيرانياً أن العراق هو من بدأ الحرب، والمثار عراقياً أن طهران لا تريد أن تنتهي الحرب"!.
ورفض الخميني مقابلة الوفد، وعاد الشيخ صلاح أبو إسماعيل للقاهرة ليعلن: "الخمنيني كافر والله على ما أقول شهيد"!.
لسنا الآن في معرض طلب السؤال حول من السبب في 30 يونيو، ليس تقليلاً من حجم الجريمة، ولكن مثل هذا السؤال سيكون طرحه مناسباً عندما يقرر الفرقاء الاصطفاف الثوري، والذين قرروا التوبة الآن، وندموا على مشاركتهم في الثورة المضادة، ليسوا من دعاة عودة الشرعية، ليكون من حقي ومن حق "آيات عرابي" أن نرفض عودتهم لصف الثورة، فهناك صفوف للثورة وليس صفاً واحداً لنقرر نحن من يعود إليه ومن لا يعود!.
"صف" مع عودة الرئيس المنتخب.
و"صف" ضد الرئيس المنقلب والرئيس المنتخب.
و"صف" متذبذب بين هؤلاء وهؤلاء!.
ولست مشغولاً بالاصطفاف الثوري، أو مع تقديم تنازلات في هذا الصدد، فالاصطفاف يحدث في الميادين وليس في صفقات الغرف المغلقة ممن يعطون لأنفسهم أوزاناً بلا مبرر.
يخرج الجميع لمواجهة الانقلاب العسكري.. ويتعاركون، ويختلفون، دون أن ينسوا هدفهم، ثم يتحول العراك إلى عتاب ثم مصالحة، وفي ميادين النضال يقرر من ينزل إليها حجم التنازل من هنا وهناك.
ولقد هرمنا على "الميادين" وليس لي إلا أن أراقب، من "دكة" القواعد من الثوار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق