الروهينجا وعسكر بورمـا والنفاق العالمي
شريف عبدالعزيز
عجيب أمر هذا العالم الذي يشبع من كل شيئ إلا من دم المسلمين ، ولايطيب له راحة بال ولايهدأ له واقع إلا إذا ارتوى من دم الانسان المسلم فنجده يتلذذ به ، فلا نجدة اغاثة ، ولا ضمير انساني استفاق ليجعل حدا لما يقع للمسلمين جميعا وفي مختلف أصقاع العالم ، من غزة مرورا بإفريقيا الوسطى وصولا الىإبادة الروهينجا .
فأين الضمير الانساني؟
أين حق الانسان في العيش؟
أين مكان الانسان المسلم من هذا الوجود ؟
أين العالم الذي يهرع لنجدة حوت عالق في المحيط القطبي قبل هلاكه ، ويسد أذنيه عن أنات وصيحات آلاف العالقين في بحر أندمان يكابدون أهواله ؟!
أين العالم الذي هرع لنجدة الأقلية الأيزيدية في العراق بعد قتل العشرات منهم ، وتقود أمريكا العالم المتحضر لحلف دولي يضم 80 دولة لنجدة الأيزيديين ؟!
في حين تعقد أمريكا الصفقات التجارية مع عسكر بورما ويزور أوباما بلادهم متجاهلا مجازر الروهينجا هناك ؟!
نحن أمام فصل جديد من فصول النفاق العالمي الذي تخصص الغرب في ممارسة هذا الفن حصريا على المسلمين وحدهم عندما يكونون في خانة الضحية.
نفاق لم ولن يتوقف ما دام العالم الإسلامي ممزق ومشرذم ومنقسم علي نفسه .
فأزمة الروهينجا ليست أزمة محلية أو إقليمية ، بل هي أزمة عابرة للحدود والثقافات والحضارات ، إنها إحدى أسوأ تجليات فزاعة كراهية الإسلام ، هي جزء من حرب أيديولوجية عالمية توظّف الإسلاموفوبيا المتنامية حول العالم، والتي تضيف كل جماعة سياسية أو أمّة شيئاً من أوهامها ومصالحها عليها بحيث تهدم أركان الإنسانية وتجعل من المسلم ضحيّة افتراضية جاهزة لأي إشكال سياسي في العالم.
خلال الأشهر القليلة الماضية، تتابعت الأحداث بشكل لافت فيما يتعلق بقضية الروهينجيا المسلمين، وما يقع عليهم من انتهاكات تجاوزت حدود موطنهم الأصلي في ميانمار إلى الدول التي يفرون إليها لاجئين (تايلاند، بنجلاديش، الفلبين، ماليزيا)، وشهدت الأحداث الأخيرة تسليطًا للضوء على ما يتعلق بأحداث إتجار بالبشر للاجئين الفارين في بعض الدول ومنها تايلاند .
والإتجار بالبشر مصطلح ارتبط دائمًا في الأذهان بتجارة الرقيق، وبيع النساء خاصة،والأطفال؛ لأعمال تنافي الآداب وتخالف القانون، وبالفعل هذا وصف مختصر لهذه الجريمة، إلا أن الواقع في ميانمار والمتعلق بالانتهاكات التي تحدث في مفهوم البشر فاق أن يكون جريمة، لأنه كارثة بكل المقاييس، فالروهينجيا هو مسمى مرتبط بتاريخ امتد لأكثر من 300 عام، حضارة بما تعنيه الكلمة والدلالات، والوثائق موجودة الآن، هذا المسمى يراد له أن يمحى، وهناك خطوات تجاوزت القتل والتشريد والبيع إلى المحو للإرث الثقافي والحضاري والوجودي لهذه الأقلية.وخلاصة ما يحدث في ميانمار ضد الروهينجيا: "إبادة جماعية منظمة وممنهجة للوجود الإسلامي،بآليات وسبل الحرب الطائفية، برعاية حكومية مؤيدة لفئة من الشعب ومحسوبة عليه؛ وهم البوذيون، بتواطؤ دولي ربما لم يشهده العالم سوى مع الكيان الصهيوني .
المأساة بلغت قمتها وذورتها في مشهد درامي تعجز الأقلام عن تسطيره ولا الكاميرات عن تصويره ، عندما تقاتل راكبو سفينة تقل مئات المضطهدين من الروهينجا والذين انقطعت بهم السبل في بحر أندمان بعد أن رفضت دول الجوار استقبالهم في أمثولة ندالة وانحطاط بشري غير مسبوق ، تقاتلوا على بقية ما بقى من طعام وشراب قليل معهم ، وانتهت المعركة ب100 قتيل معظمهم من النساء والأطفال ، لتكون هذه الدماء والأرواح البريئة شاهدة ولاعنة لهذا العالم المنافق الذي يكتفي بإدانات باهتة وبيانات عقيمة .
تحوّل الضحايا في تلك المعركة إلى ضحايا الضحايا مما كشف مأساة الإنسان الذي لم يعد لديه غير أن يلقى الموت أو يشارك مرغما في قتل أخيه الإنسان بداعي الحاجة البشرية الماسّة للغذاء والماء والدفاع عن أطفاله، وهو أمر يكشف القعر الذي أوصلت إليه البشرية بؤساءها المضطهدين. إنه نفاق يمارسه الجميع ، وعار يتجلل بأوزاره الجميع .
بدءاً من طغمة ميانمار المستبدة التي وجّهت اهتمام غالبية شعبها البوذية لذبح إخوانهم في الأرض والعيش لا لسبب غير أنهم مسلمون، فحوّلت قضية الشعب البورمي من كفاح ضد طغمة مستبدة بالجميع إلى مذبحة أهلية ينشغل فيها البوذيون بكره المسلمين. فمجموعة من الرهبان البوذيين الراديكاليين المعروفين باسم 969 وزعيمهم آشين ويراثو هم المسؤولون بشكل أساسي عن إذكاء الهيستيريا المعادية للمسلمين.
ولكن الحكومة في ميانمار متواطئة وتقع تحت طائلة المسؤولية بإشرافها المباشر على كل هذه الانتهاكات والمجازر ، وفي ميانمار (التي تُعرف كذلك باسم بورما) يزيد عدد السكان عن 55 مليون نسمة، لا تقل نسبة المسلمين فيه عن 15% من مجموع السكان، نصفُهم في إقليم أراكان ذي الأغلبية المسلمة ، لا يتمتع المسلمون حتى بحق التنقل والعيش الطبيعي وذلك منذ سنة 1982 عندما أصدر عسكر بورما الطغاة الغارقون في شوفينيتهم وقوميتهم وطائفيتهم قانونا بسحب الجنسية من المسلمين الروهينجا بدعوى أنهم ليسوا من سكان البلاد الأصليين .
لكن هذا الاضطهاد الحكومي وحده لا يكفي لتفسير درجة الانحطاط الأخلاقي الذي يحيط بمأساة الروهينجا، فعملية الإبادة الجماعية التي يتعرّضون لها لم يشارك فيها نظام ميانمار العسكري وحده، فزعيمة المعارضة أونج سان سو، الحائزة على جائزة نوبل للسلام، والمدافعة العنيدة عن حقوق الشعب في ميانمار تشارك سياسيا وأخلاقيا في عملية التصفية الممنهجة التي يتعرض لها الروهينجا بالتزامها الصمت التامّ حول ما يجري لهم.
فقد ترافق إطلاق سراح أونج سان سو مع تصعيد منتظم في عملية الإبادة الممنهجة للروهينجا ففي عام 2012 بدأت عمليات التصفية الجماعية فخلفت 200 قتيل ودمّرت مئات البيوت وأدت إلى تهجير مدروس لأكثر من 120 ألف شخص منهم نحو معسكرات اعتقال جماعية، فما الذي فعلته زعيمة المعارضة الشهيرة عالميا؟ والتي تسعى للترشح للرئاسة هذا العالم ، قالت : إن أحداث العنف تلك لم تكن تطهيرا قوميا ولكنها كانت نتيجة «الخوف من الطرفين ليس المسلمون وحدهم خائفين بل كذلك البوذيون. المسلمون طوردوا ولكن بوذيين أيضا تعرضوا للعنف». فذهبت كل قيم مبادئ الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان التي كانت تنادي بها أونج مع أدراج الرياح عندما كانت الضحية مسلمين .
أما الأمم المتحدة والهيئات الدولية فهي تشارك في عملية الاضطهاد والإبادة بصورة أخرى ،فهي توفر الغطاء السياسي لجرائم حكومة العسكر في بورما بصمتها وسلبيتها ،بل بأكثر من ذلك ،ففي عام 2014 تم إجراء إحصاء قامت به حكومة بورما، وهو الذي تم بعد 30 عامًا من آخر إحصاء أُجري في بورما ، وكانت مشاركة الأمم المتحدة هذا الإحصاء نقطة فاصلة في تكريس الاضطهاد ؛ حيث تم الإحصاء بقوائم تحتوي استبانة بها تساؤل عن العرق، ووضعت خانات لـ 135 عرقية، دون أن يوضع فيها "الروهينجا "؛ وبالتالي كان ذلك إعلانًا رسميًا بموافقة ضمنية من الأمم المتحدة من أجل طمس هوية وثبوتية بشر تجاوزت أعدادهم الملايين، ووقع ذلك بالرغم من حجم الإدانات التي وجهت لهذه الخطوة؛ حيث وجهت هيومن رايتس ووتش، ومجموعة الأزمات الدولية، تحذيرًا من خطورة هذا التصنيف وهذه الخطوة، ولكن مر الأمر وتم الإحصاء.
أما أمريكا وأوروبا وكلاهما محور الشر الذي يقود ويدعم ويساند أي اضطهاد للإسلام والمسلمين ، ففي ظل تطهير بورما من المسلمين، انهالت عليها الهبات والمنح الدولية، خصوصا من الجانب الأمريكي، الراعي الرسمي لحقوق الإنسان!! حيث تواصلت التسويات السياسية والاقتصادية معها من قبل الدول الكبرى، وعلى رأسها دركي حقوق الإنسان وراعي القيم التسامح والتعايش الديني. ذلك أن رئيس ميانمار ثين سين زار أمريكا. وتعتبر زيارته هذه أول زيارة لرئيس بورمي منذ العام 1966، ورغم أن مجموعة من المنظمات الدولية كشفت تورط العسكر البورمي في عدد من الجرائم العرقية البشعة بحق الروهينجا، فإن ذلك لم يمنع أوباما من زيارة بورما وفتح أفق التعاون والعلاقات الثنائية التجارية والاقتصادية والسياسية بين البلدين.
وقد فتحت زيارة أوباما تلك الباب على مصراعيه أمام جميع الشركات الأمريكية لتسهيل التبادل التجاري مع بورما ، ورفع الحظر عن التعامل معها. كما قامت الولايات المتحدة بإسقاط الديون عن دولة بورما، وسمحت لكبريات الشركات التجارية الأمريكية بالتبادل التجاري، وفتحت الباب أمام المستثمرين اﻷمريكيين لفتح المزيد من الملفات التجارية الضخمة، وهو ما يعني مزيدا من اﻻنفتاح على بورما ، ومزيدا من الدعم اﻻقتصادي الأمريكي للحكومة المركزية، في خطوة اعتبرها بعض المحللين مكافأة لبورما على جرائمها وانتهاكاتها الجسيمة بحق أقلية الروهينجا. فيما تحدثت مجموعة من وسائل الإعلام الأمريكية عن أن زيارة أوباما تأتي في سياق تحفيز الحكومة الحالية ودفعها نحو الديمقراطية، رغم أن كل المؤشرات كانت تفيد بأن وراء الزيارة أهدافا أخرى كانت في مقدمتها المصالح التجارية مع بلد يحتضن ثروات طبيعية هائلة، إضافة إلى مزاحمة التبادل التجاري الكبير القائم بين بورما وبين حليفتيها الصين والهند، فكانت أنظار أوباما مصوبة أكثر على تلك المصالح وليس على ما يحصل للمسلمين في بلد يحتضن أكثر أقليات العالم اضطهادا، حسب الأمم المتحدة.
أما العالم الإسلامي ، وما أدراك ما العالم الإسلامي ، 57 دولة ، ومليار ونصف نسمة ، و30% من ثروات المعمورة ، فالموقف أشد خزيا وعارا . ففي الوقت الذي يفترض أن يكون المسلمون هم أحرص الناس على نصرة الروهينجا والوقوف بجانب قضيتهم ونجدتهم في محنتهم ، نجد أن المسلمين هم أكثر الأطراف سلبية وانحطاطا وندالة في الأزمة .
فالموقف الماليزي والأندونيسي والبنجلاديشي في الأزمة يدعو للأسى والبكاء على حال الأمة . فقد أصرت هذه الدول الثلاثة على عدم استقبال اللاجئين الروهينجا القادمين عبر بحر أندمان حتى تقطعت بمراكبهم السبل ، وكانت المقتلة الكبيرة التي ذكرناها أول المقال .
فقد قال كبير المتحدثين باسم الجيش الأندونيسي، اللواء فؤاد بايسا "إن الجيش سوف يبعد أي قارب سيدخل إلى المياه الإندونيسية من دون إذن، بما في ذلك لاجئي القوارب مثل الروهينجا"، وبعد إبعاد ماليزيا لقارب يضم حوالي 500 شخص قبالة جزيرة بينانج يوم الأربعاء، قال نائب وزير الداخلية وان جنيدي لوكالة الأسوشيتد برس "ماذا تتوقعون منا أن نفعل؟ لقد كنا لطفاء للغاية مع الأشخاص الذين اقتحموا حدودنا، وعاملناهم بإنسانية، لكن لا يمكنهم أن يتخموا شواطئنا بهذا الشكل، علينا أن نرسل رسالة واضحة إنهم ليسوا موضع ترحيب هنا". وعلى الرغم من التغير المبدئ في موقف هذه الدول ، وإعلانها الاستعداد لقبول النازحين بحرا إلا إن هذا الموقف جاء نتيجة الضغوط الشعبية وليس عن قناعة إنسانية أو دينية تجاه هؤلاء الضحايا .
أما باقي دول العالم الإسلامي ومنظماته وهيئاته ومراكزه الخيرية فبعيدة كل البعد عما يجري للروهينجا ، ولم يقم أي مسئول أو حاكم عربي أو مسلم بالاشارة لأزمة الروهينجا من قريب أو بعيد ، والاستثناء الوحيد في هذا الظلام الدامس من التجاهل والإعراض كان ممثلا في الموقف التركي الداعم سياسيا وإنسانيا واقتصاديا لمسلمي الروهينجا ، كذلك الدور السعودي ممثلا في تقنين وضع اللاجئين الروهينجا في السعودية حيث تم إقرار تسوية أوضاع الجالية البورمية التي تضم مئات آلاف المسلمين الروهينجيين، بجانب الاعتراف بشهاداتهم التعليمية وقبولهم بالمؤسسات الحكومية وغيرها .
يباد مسلمو بورما كما تباد الهوام والحشرات بتحريض من الدولة البورمية وسلطاتها العسكرية ، وتحت تواطؤ العالم المنافق ، وصمت العالم الإسلامي الخانع ،وفي ظل استمرار اضطهادهم، لم يجد الروهينجا من ملاذ سوى الخنوع للموت، أو الفرار إلى دول الجوار ـ المسلمة ــ ، التي تعيدهم بدورها إلى قدرهم المحتوم، في خرق سافر لكل المواثيق الدولية والكونية لحقوق الإنسان، وحقوق المعتقد الديني.
وقد طالت عذابات الروهينجا حتى بات من المستحيل أن تجد لها طريقا إلى النهاية سوى الموت لكونه الوحيد القادر على تخليص البورميين المسلمين من الاضطهاد الذي تعرضوا له ولا يزالون، في ظل صمت العالم وغضه الطرف عما يقع لأكثر أقلية عرقية مضطهدة في أصقاع الأرض وبقاعها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق